أما تعبت؟ طال وقوفك ياحنونة؟ وطال تحديقك، طافت دموعك، امسحيها قبل أن تغرقي العالم، لم كل هذا؟ لك أن تفرحي.
أتذكرين؟
هس! اصمتـ، مازلت صغيرا. تقولينها بعينيك، بهمسك، بسبابتك وشفتيك المضمومتين،..وكنت أقول لك:" هذا باطل ولو أنه صادر عن أبي" كبرت وأنت تحذرينني بأن صراحتي ودفاعي المتهور سيهلكني، وكنت اقول لك وما حاجتي لحياة كهذه؟ وتقولين بغصة واستسلام :
_العين لا تلاطم مخرزا.
-وعيني ترى غيلان حيا.
أغافلك وأشهد، قلت لك:
- افرضي أنهم حلفوني على المصحف؟
تصمتين. ولم يحلفونني، لكنني تركت لضميري العنان. ومضت أيام ولم يكترث لي أحد، أما قلت يوما سأضيع نفسي بلساني؟
لن أقطعه فليفعلوا إن أرادوا..وها هم يطلبونني بكل احترام!
ماذا سأصطحب معي؟ هاتفي عليّ ألا أنساه، سأطلب من أحدهم أن يصورني، وهم يقلدونني وسام النزاهة، قد تطول لأيام فترة إقامتي معهم وعليَّ أن أكون نظيفا، الآن أدرك أهمية أن تبقى نظيف اليدين
- بسرعة، لو سمحت؛ السيارة تنتظرنا، لا تأخذ حقيبتك؛ فمبنى الإدارة غير مجهز للنوم، سنعود حال تبيان الأمر.
تبيان؟! لن أقول له إنني أخمن مرادهم؛ لأن ما قمت به يجب التستر عليه، كي لا نعطي للصوص فرصة للهروب، لاشيء يعادل راحة ضميرك وأنت تتحداهم، وتؤمن أن الله يمهل ولا يهمل؛ فها هم يتساقطون أمامي بكل آثامهم ومناصبهم، مُرافقي يرمق سعادتي بارتياب، وأنا أغرق بنشوة الانتصار، أين وجه صديقي المحبط؛ كي أخبره أن الحق لايموت، إذ يقول:
- دعك منهم، هم حيتان وأنت سمكة هشة ضعيفة.
-ليس كلهم ليس كلهم، لابد أن هناك في الأعلى من ينتظر صوتنا؛ فيضحك كأنه يشفق عليّ ويقول وهويشير إلى السماء:
- تقصد من ينتظر أرواحنا.
ويغادرني مقهقها.
مغادرة الحدود التي نحرسها بصخورها وأتربتها الحمراء، والعطش والجوع فرصة جيدة، لأشعر بآدميتي ولأول مرة أرى المدينة بهذا البهاء، عروساً تستحم بالشمس، رغم شبح الحرب المخيّم عليها، لكنها تنتشي بصباحاتها و تناسل الحياة فيها.
كل شيء هنا مختلف، صنابير المياه، الدفء، الروائح المعطرة، المكاتب الفخمة بسطوحها الخشبية اللامعة. أوصلني الحارس إلى مكتب يبدو أنه لشخصية مهمة، يتصدر الجدار الذي يقابلني شعار العدل بحروفه البرونزية.
كانت الغرفة مضاءة بشدة.. نعم، عليهم أن يبالغوا بإنارتها، كي تتضح الصور ويكون تكريمي المخمن على نور.
جلست على أقرب كرسي من الباب، وأنا أشد ظهري، أنفخ صدري، وأُعلي رأسي حتى شعرت أنه يصل للمصابيح المعلقة في السقف؛ فلقد دخلت مَجْدًّا لم أكن لأحلم به، أحضر الكلمات المناسبة لهذا المقام.
لدخوله رهبة، خفق لها قلبي، وقع أقدامه على البلاط الصقيل يحدث جلجلة، كأن قدميه تحولتا لأقدام فرقة عسكرية كاملة، لم أتمكن من الوقوف بسرعة حين زلزلني صوته، واقتلعني من اطمئناني، لا بد أن هناك خطأ ما؛ فأنا لغاية هذه اللحظة المربكة لم أكن موقوفا في سجن، كي يشتم أمي. عام كامل وأنا أغرق في (خطأ ما) ومع كل صرير لباب الزنزانة انتظر قدومهم ولا أحد يجيء.
استريحي، ولا تحبسينني ضمن إطار فقد كرهت القيود، أزيحي بأصابعك المنيرة ستار دموعك، امسحي الغبار عن شريط أسود يثقل زاوية صورتي المعلقة على جدارك المزعزع، بل انزعيه يا أمي، فغيلان المقطّع لازال حيًّا، وهم الفانون.
أتذكرين؟
هس! اصمتـ، مازلت صغيرا. تقولينها بعينيك، بهمسك، بسبابتك وشفتيك المضمومتين،..وكنت أقول لك:" هذا باطل ولو أنه صادر عن أبي" كبرت وأنت تحذرينني بأن صراحتي ودفاعي المتهور سيهلكني، وكنت اقول لك وما حاجتي لحياة كهذه؟ وتقولين بغصة واستسلام :
_العين لا تلاطم مخرزا.
-وعيني ترى غيلان حيا.
أغافلك وأشهد، قلت لك:
- افرضي أنهم حلفوني على المصحف؟
تصمتين. ولم يحلفونني، لكنني تركت لضميري العنان. ومضت أيام ولم يكترث لي أحد، أما قلت يوما سأضيع نفسي بلساني؟
لن أقطعه فليفعلوا إن أرادوا..وها هم يطلبونني بكل احترام!
ماذا سأصطحب معي؟ هاتفي عليّ ألا أنساه، سأطلب من أحدهم أن يصورني، وهم يقلدونني وسام النزاهة، قد تطول لأيام فترة إقامتي معهم وعليَّ أن أكون نظيفا، الآن أدرك أهمية أن تبقى نظيف اليدين
- بسرعة، لو سمحت؛ السيارة تنتظرنا، لا تأخذ حقيبتك؛ فمبنى الإدارة غير مجهز للنوم، سنعود حال تبيان الأمر.
تبيان؟! لن أقول له إنني أخمن مرادهم؛ لأن ما قمت به يجب التستر عليه، كي لا نعطي للصوص فرصة للهروب، لاشيء يعادل راحة ضميرك وأنت تتحداهم، وتؤمن أن الله يمهل ولا يهمل؛ فها هم يتساقطون أمامي بكل آثامهم ومناصبهم، مُرافقي يرمق سعادتي بارتياب، وأنا أغرق بنشوة الانتصار، أين وجه صديقي المحبط؛ كي أخبره أن الحق لايموت، إذ يقول:
- دعك منهم، هم حيتان وأنت سمكة هشة ضعيفة.
-ليس كلهم ليس كلهم، لابد أن هناك في الأعلى من ينتظر صوتنا؛ فيضحك كأنه يشفق عليّ ويقول وهويشير إلى السماء:
- تقصد من ينتظر أرواحنا.
ويغادرني مقهقها.
مغادرة الحدود التي نحرسها بصخورها وأتربتها الحمراء، والعطش والجوع فرصة جيدة، لأشعر بآدميتي ولأول مرة أرى المدينة بهذا البهاء، عروساً تستحم بالشمس، رغم شبح الحرب المخيّم عليها، لكنها تنتشي بصباحاتها و تناسل الحياة فيها.
كل شيء هنا مختلف، صنابير المياه، الدفء، الروائح المعطرة، المكاتب الفخمة بسطوحها الخشبية اللامعة. أوصلني الحارس إلى مكتب يبدو أنه لشخصية مهمة، يتصدر الجدار الذي يقابلني شعار العدل بحروفه البرونزية.
كانت الغرفة مضاءة بشدة.. نعم، عليهم أن يبالغوا بإنارتها، كي تتضح الصور ويكون تكريمي المخمن على نور.
جلست على أقرب كرسي من الباب، وأنا أشد ظهري، أنفخ صدري، وأُعلي رأسي حتى شعرت أنه يصل للمصابيح المعلقة في السقف؛ فلقد دخلت مَجْدًّا لم أكن لأحلم به، أحضر الكلمات المناسبة لهذا المقام.
لدخوله رهبة، خفق لها قلبي، وقع أقدامه على البلاط الصقيل يحدث جلجلة، كأن قدميه تحولتا لأقدام فرقة عسكرية كاملة، لم أتمكن من الوقوف بسرعة حين زلزلني صوته، واقتلعني من اطمئناني، لا بد أن هناك خطأ ما؛ فأنا لغاية هذه اللحظة المربكة لم أكن موقوفا في سجن، كي يشتم أمي. عام كامل وأنا أغرق في (خطأ ما) ومع كل صرير لباب الزنزانة انتظر قدومهم ولا أحد يجيء.
استريحي، ولا تحبسينني ضمن إطار فقد كرهت القيود، أزيحي بأصابعك المنيرة ستار دموعك، امسحي الغبار عن شريط أسود يثقل زاوية صورتي المعلقة على جدارك المزعزع، بل انزعيه يا أمي، فغيلان المقطّع لازال حيًّا، وهم الفانون.