عبدالله البقالي - في كف القدر

ترسب في ذهني منذ الطفولة انطلاقا مما كان يحكيه الاهالي، ان ظهور طيارة في السماء هو دليل شؤم. و يسوقون عن ذلك مثال "الطيارة الحمراء" التي لم يجلب تحليقها غير الويلات و المآسي. و حتى بعيدا عن الحروب و المواجهات، فالطيارة ظلت في حدود الصورة نفسها. فهي تنتزع الافئدة من احضانها، و تلقي بهم في شتى رحاب المعمور، من اجل نصر يرصع تيجان الاقوياء ،و لا يكون لهم فيه اي ذكر. أو تحملهم الى ديار الغربة ، محولة حياتهم و حياة اهاليهم الى فواصل من انتظارات لا نهاية لها.
عندما كبرت، لم تتغير الصورة. فقد كان العالم مشتعلا بالحروب و الثورات. و منهمكا في حروب لا تنتهي الا لتبدأ من جديد. و دائما كانت الطيارة الجواد الفضائي الذي كانت سماؤه تملأ نشرات الاخبار. "الفانتوم"و" الميغ" و" الميراج" و غيرها.طائرات تجتهد في صنع النكسات في عالم صار فيه صنع المآسي انجازا. و الإفناء سيطرة. و القتل حنكة و مهارة. و من ثم ترسخ لدي اعتقاد في اني لو كتب لي ان اكون طرفا محاورا لطائرة، فأكيد أني سأكون في وضع المقصوف لا القاصف. الا اني كنت استطيع ان اجزم اني لن اكون في يوم ما وجها لوجه امام طائرة. ليس لأني في بلد هو في وضع المحاصر شرقا و غربا. شمالا و جنوبا، و إنما ايضا انتمائي لشريحة لا تسمح لها إمكانياتها بالسفر إلى البعيد الذي قد يستوجب ركوب طائرة. غير أن الظروف العابسة، أفرجت أخيرا عن ابتسامة. ووجدت نفسي بإلحاح من ابنتي و أحد اصدقائي مدعوا لاختراق الحدود التي كانت تقع دائما فوق أفق تطلعاتي.
بدأت اضع الترتيبات. و تدخلت ابنتي مقنرحة السفر بالطائرة اختصارا للوقت و التعب. ووجدت اقتراحها أشبه بمن يطالبني بإشعال ثورة. لم اتأخر في أبلاغها رفضي متذرعا بألف حجة. موضحا لها أن مشكلتي صارت هي الوقت نفسه. ذلك أني اكتشفت أن تقاعدي لم أجده شيئا آخر غير طاقة لا تجد فيما يمكن أن تبذل. و زمن كنهر متدفق، لا يستوعبه مجرى. ثم إني أرغب في اكتشاف العالم، و هذا يتعارض مع الاختصار و العجالة التي تدعوني إليها.
لكن و للحقيقة، إن ركوب طائرة شكل لي اغراء. وهو نفسه قد يكون اكتشافا قد يوازي كل اكتشافاتي السابقة،لكني غير مؤهل لخوض المغامرة.
حين كنت عائدا من تلك الرحلة، وضعت أمامي ابنتي تذكرة عودة بالطأئرة، و انتظرت رد فعلي.
في علاقتي بابنتي، لم العب دائما دور الموجه. ذلك انها استطاعت في مناسبات شتى، و بعيدا عن كل اشكال العناد و المواجهة من ان تغير الكثير من مواقفي و اعتقاداتي. و هي بفعلها ذلك تلك اللحظة كانت تحاصرني في قلعة خوفي. و ربما كانت في قرارة نفسها تضحك و هي تتصنع الهدوء و تراقب انفعالاتي. متجاهلة انها كانت تدرك ان اركاني الداخلية كانت تهتز بعنف.
لا اعرف كم دام الوقت و هي تنتظر جوابي. لكن عكس هدوئي الظاهر، فقد كنت اشتعل من الداخل. و ذاكرتي كانت تستعرض شريطا طويلا لاحداث تحطم الطائرات ، و الركاب الذين لم يعثروا لهم على اي اثر. و اتصور حجم الهلع لمن احتفظ منهم ببقية وعي وهم يرون انفسهم يهوون الى الارض من تلك الارتفاعات الشاهقة. و من ثم تصاعد من داخلي احتجاج صاعق: حياتك ليست بخسة لهذا الحد، كي تنتهي على هذا النحو.
عكس المتوقع، مددت يدي متسلما تذكرة الذهاب الى "ملقة". بدأت اتصفح فحواها. و ابتداء من تلك اللحظة، شعرت اني اغوص. و تحولت الى مجرد طيف لا يمكن ان تعاوده الحياة الا بعد ان يضع قدميه على ارضية المطار الذي ستنتهي اليه الرحلة.
ابنتي كانت تحاول ان تقرأني انطلاقا من ملامح وجهي. و ربما كانت المرة الوحيدة التي سنح لها ان تراني في وضع الخائف.
مع وصولنا إلى المطار، و اقتراب موعد الإقلاع،كنت في وضع المواجه لحقيقة طالما تحاشيتها. و لهذا كان يهيمن علي الاحساس بالفقد. لم اتكلم. و لم اكن لاركز على شئ باستثناء حركية المطار التي كنت اتابعها من الجدار الزجاجي من خلال الاقلاع و الهبوط. لكنني كنت اتابع الطائرات المغادرة. و كيف تنطلق شاقة عنان السماء. و اتخيل حالة الركاب وهم في ذلك الصعود العمودي. و أتصور أني سأكون بعد حين في جوف إحداهن. لن يكون بإمكاني فعل شئ. استمراري في الحياة أو نهايتي سأكون فيها مجرد متفرج أمام حنكة أو تهور لفاعل قد يكون محرك أو جناح أو عطب او سهو لقبطان او مزاج متعكر. بكل ما مثلته و سأمثله سأصبح مجرد صدى يمتثل بطواعية لما سيقرر في حقه.
وصلت إلى آخر مكان يسمح للمودعين بمرافقة المسافرين. اندفعت للداخل. علا صوت ابنتي منبهة اياي الى كوني لم اودعها. و الحقيقة ان تلك لم تكن غفلة مني. و ربما تعمدت ذلك لتجنب ما يمكن اعتباره النظرة الاخيرة.
بدأت صعود سلم الطائرة.خوفي كان يتصاعد على قد اقترابي من البوابة. ثم وضعت نفسي في كف القدر. لم اكن بالحي و لا بالميت. الضحكات التي تناهت الي وحدها استطاعت ان تنتشلني من الاحساس الذي كنت تحت تأثيره. وهذا نبهني الى حجم الفارق بيني و بين الاخرين بالرغم من اننا نعيش نفس الوضع. لكن مقاومتي تلاشت بعد ان اكتشفت ان مقعدي كان ملتصقا بالنافذة. لقد كنت اتمناه ان يكون في الوسط.
حين تحركت الطائرة، صرت على المحك. سمعت من قبل عن حركتي الاقلاع و النزول، و انهما ما قد يثيرا بعض الخوف. و احسست فعلا لحظتها و كأن الطيارة أشبه بجني تحرر فجأة من قمقمه، و انطلق بكل قوته نحو الاعالي ، باحثا عن حرارة تخلصه من برودة الدهور التي سكنت أوصاله. لكن هلعي لم يصل للحد الذي كنت أتوقعه. و حين بدا أن الطائرة قد استوت على خط طيرانها، عاودني بعض الهدوء بحيث تجرأت و فتحت النافذة. و حاولت أن أنظر للأرض من الأعالي كيف تبدو. لكن يدي كانت لأول مرة أسرع من لمح بصري وهي تعيد إغلاق النافذة. وفي المتبقى من الصورة التي التقطتها، عرفت أني أسبح في برك ضبابية. وقلت: ماذا لو تحركت صاعقة ، أو انطلق رعد هادر؟
السؤال أزم وضعي أكثر، و تحولت فورا إلى ناصح و منصوح و أنا أخاطب نفسي: لا يجب أن تطرح أسئلة عندما تكون عديم الجدوى. لأن الأسئلة في هذا الحال تصبح هي و اللعنة شيئا واحدا.
قررت الا انظر إلا في اتجاه وحيد. أن أتابع فقط حركة المضيفات. لم تكن شابات. و هذا يعني أن العمر الذي قضينه في الفضاء، قد يفوق ما عشنه على الأرض. فهل كان ذلك غباء أم جرأة؟
تابعت حركة المضيفات بتركيز شديد. فلا شي افضل من ملامحهن من أجل قراءة بيانات الرحلة. خصوصا حين يدخلن مقصورة القيادة و يخرجن منها. و ابتسامتهن وحدها كانت تؤكد أن كل شئ على ما يرام. و ذلك ما مكنني أخيرا من أن ألقي نظرة على الركاب. أشخاص في مختلف الأعمار. تصنيف أجد نفسي فيه من شيوخ الرحلة. و من ثم فكرت أنه إن توجب على أحدأن يحاف، فحتما سيكون هؤلاء الشباب لهم كل المبررات كي ينتابهم ذلك الشعور. لأن كل أطوار حياتهم الهامة تقع في المستقبل. وهو العكس بالنسلة لي. فما هذا المتبقى الذي يمكن خسرانه ؟
ألقيت نظرة على سيدة كانت تجلس قبالتي في الصف الآخر. كانت سيدة تفوقني سنا. لكن مظهرها الأنيق، و العناية البادية التي تحيط بها نفسها كانت تجعلها أصغر مني بكثير. جلستها كان فيها الكثير من الثقة و الإتزان. توقفت أمامها مضيفة و مدت لها بطريقة فيها الكثير من التهذيب قنينة جعة. نظرت للمشهد غير مصدق. قلت في نفسي مستنكرا: جعة في اعالي السماء؟ إن قصفنا رعد، فسيكون ذلك بسببها.
ضحكت من نفسي و قلت: لا تقلق. فإن حدث الاسوء، فسيكون لك على الأقل ما يكفي من الوقت كي تستعيد تركيزك قبل استنطاقك، بسبب انشغال أهل الزبانية بها.
بدأ النزول. لكني بشكل ما كنت اشعر أنه صعود. صعود من هاوية تلقي فيها الحياة فضلاتها و متلاشيات الدهور التي تشوه وجهها الجميل. وهو ما حدا بي كي اسأل نفسي ما إن كنت قد ركبت حقا طائرة أم دخلت مختبرا. لقد كانت فعلا رحلة، و لا احسبها قد حلقت بي في الفضاء بقدر ما اشعر انها طارت بي فوق عوالمي الداخلية، و مكنتني من أن ارى بوضوح كل تضاريس الجهل و التخلف الذي يسكنني.
مددت خطوات غابت عنها الرشاقة. كنت مثقلا. و احيانا عابسا. و لم تعاودني الابتسامة الا بعد ان رأيت وجه منعم و زوجته آنا وهما ينظران إلي و يبتسمان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى