الحياة بالنسبة له قضبان حديدية لاتنتهى، يقطعها ليلا أونهارا ،لايرى فى الأفق سواها يميز معالمها بوضوح شديد عندما يبطءالقطار الذى يقوده من حركته، لم تسلم هى الأخرى من اللطمات الغادرة للزمن فبعضها صار عتيقا مثله تماما بعد أن أصبح شعره الأسود اليوم ناصع البياض كالثلج.
حياته موزعة بين مجموعة من محطات الوصول والمغادرة أعتاد أن يخرج رأسه من الشباك قبل أن يعطى للقاطرة أمرا بالتحرك ليلقى نظرة على ما يجرى فى الخلف ودوما يشاهد معركة الأكتاف التى لا تنتهى بين الصاعدين والهابطين فى صراع لم تخبو جذوته يوما ما بين الواصلين والمغادرين فكلا الطرفين يحاول جاهدا أن يصل إلى هدفه قبل أن تنطلق صافرة القطار معلنة عن شروعه فى التحرك.
أشد ما يخشاه أن يصل يوما ما فى رحلته إلى المحطة الأخيرة مثل هذا القطار الذى يقوده منذ أكثر من ستة وثلاثين عاما ،أكتشف أن العمر قد تسرب سريعا من بين يديه بعد أن قضى جله فى قطع مسافات لاتعد ولا تحصى على متن قطاره من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، لقد ودع فى الأسبوع الأخير ثلاثة من رفاق العمر من كبار سائقى المصلحة ،كانت الشلة مكونة من خمسة لم يتبقى منهم سوى هو وعبد العال وكانوا جميعا قد بدأوا العمل معا وتدرجوا من مساعدين إلى سائقين على المسافات القصيرة والمتوسطة إلى أن أصبحوا سائقين أكفاء على الخطوط الطوالى أو المسافات البعيدة.
استيقظ كعادته فى الصباح الباكر وأرتدى ملابسه كاملة وانطلق إلى وجهته، لايتخيل أن يتقاعد يوما ما فهو لايعرف فى حياته شيئا سوى العمل ،هو دائما على سفر والوصول بالنسبة له ليس سوى دقائق معدودات يلتقط فيها أنفاسه أستعدادا لرحلة جديدة ،لا يدرى كيف تمضى الحياة بمن تجاوزوا الستين من العمر فكل الأيام بالنسبة لهم كما يسمع نسخة واحدة ،لا فارق بين الليل والنهار ،ليس أمامهم من سبيل سوى إجترار الذكريات على المقاهى وانتظار ساعة الرحيل على فرشهم حتى يتخلصوا من نظرات الشفقة حينا وإتهامهم بأنهم صاروا عبئا على ذويهم فى أحيان أخرى ولا تأتى الطعنات أبدا إلا بسكين الأقربين الغادرة.
ليس لديه أدنى شك فى أن الأجل قادم لامحالة رغم حبه الشديد للحياة ورفضه الدائم الأعتراف بأن للزمن أحكاما قسرية على كل شىء ولكنه واثق أنه سيموت كالفرسان وهو يعارك الحياة من قلب قاطرته ،لكنه أكتشف شيئا غريبا هذا الصباح فكل المحطات خاوية تقريبا ،لا وجود للركاب المنتظرين على الأرصفة ، لا أحد يصعد ولا أحد يهبط وكأن الساعة قد قامت ،لم يرى فى حياته منظرا كهذا من قبل وكأن كل المدن قد خلت من البشر، أين ذهب الناس إذا؟ لايحدث هذا حتى فى العطلات الرسمية، ولكنه سيواصل رحلته على أية حال حتى لو كان القطار خاويا على عروشه وربما تختلف الصورة فى المحطات القادمة ليعود عراك الأكتاف بين الراغبين فى الصعود والهبوط وهو ما يضطره لإطلاق صافرة القطار لتنبيه الطرفين إلى أنه سيقلع بعد ثوان معدودات وأن كلاهما يجب أن يعد للأمر عدته.
لكن الصورة ظلت على حالها وبقيت المحطات خاوية على عروشها بلا ركاب، ولكن ليس أمامه أى خيار أخر سيواصل الرحلة حتى نهايتها فالقطار لايمكن أبدا أن يظل واقفا فى منتصف الطريق وهو كسائق ماهر يعرف دوره كاملا فى أن يعب كل تلك القضبان من محطة الانطلاق إلى محطة الوصول حيث يودع قطاره فى المخزن استعداد لاستقلاله فى اليوم التالى.
بحث عن مساعده كى يتجاذب معه أطراف الحديث كما يفعل دائما بعد أن يناوله كوب الشاى الساخن ولكنه لم يجد له أثرا وصاح غاضبا " أين اختفى محمدين هذا الشاب غير المنضبط ؟ إن تسيبه هذا لن يخلق منه سائق قطار محترف كما يتمنى أن يصبح يوما ما" .
لا يدرى سر تلك الكآبة التى تسكن صدره فى ذلك الصباح ، يشعر بأنه يترك بعضا من سنوات عمره فى كل محطة يغادرها ،هل يمكن أن يكون قد تحرك بهذه السرعة الجنونية كى يلحق برفاق عمره الثلاث؟ ، ولكنه طرد هذا الخاطر من رأسه سريعا فربما يكون السبب فى موتهم دون سابق إنذار أنهم جميعا قد أحيلوا إلى التقاعد فلم يعد لأى منهم ما يقدمه فى دنياه أما هو فمازال يعمل لم يترك موقعه على ظهر القاطرة و يتحرك حتى الآن بالقطار فى المواعيد المحددة له رغم أنه لم يصادف فى طريقه راكبا واحدا..
طمأن نفسه بأنه سوف يصبح افضل حالا عندما يصل إلى بيته حيث سيحصل على عدة ساعات من الراحة ستهدأ فيها نفسه ويصبح فيها مقبلا من جديد على أن يواصل عراكه الذى لاينتهى مع الحياة وسيقيم أوده الطعام الشهى الذى تعده له زوجته أم أحمد.
أنتبه فجأة لوقع خطوات شخصان يقتربان منه ويخبط أحدهما كفا بكف بينما يمصمص الأخر شفتيه قبل أن يتسلق السلم ويفتح باب القاطرة وصرخ حينها مذعور " من أنتما وماذا تريدان ؟"
ربت أحد الشابين على كتفه برفق" أما آن لك يا عم إبراهيم أن تستريح، لقد تمت إحالتك إلى التقاعد منذ خمسة أشهر بعد بلوغك الستين من العمر ولكنك لم تتخلف خلالها يوما عن التسلل إلى المخزن وركوب القاطرة، أما آن لك أن تخلد إلى الدعة قليلا" صدمته الكلمات فلم ينبس بحرف واحد فواصل الشاب "هلا هبطت من القاطرة قبل أن يصل الأسطى محمدين السائق حيث سيتحرك بالقطار إلى الصعيد بعد نصف الساعة تقريبا وأخشى أن يغضب إذا شاهدك تجلس فى مكانه"، نكس رأسه وولى بعيدا عنهما وهو يجر قدميه وهو لا يكاد يصدق أن قطار العمر قد وصل إلى محطته الأخيرة بهذه السرعة وأنه قد أنضم منذ عدة أشهر إلى طابور المتقاعدين.
قرع باب الشقة عدة مرات فلم يجبه أحد ، صاح بأعلى صوته مناديا " أم أحمد " ولكنها لم ترد على ندائه وبعد أن بدأ القلق يتسرب إلى صدره انفتح الباب أخيرا ولكنه لم يكن باب شقته لقد كان باب الجيران ،كانت زينات زوجة الأسطى فتحى الحلاق تزم شفتيها وهى تتفحصه من أعلى رأسه لأسفل قدميه بشعرها المنكوش وعينيها اللتين تكافحان النعاس، كان من الواضح أنها قد أستيقظت من نومها للتو وأقتربت منه وهى تشيح بيديها وهى تصيح به" أم أحمد توفاها الله منذ عشرة أشهر وأنت تعلم هذا جيدا فهل ستوقظنا كل صباح على هذه الجلبة ،لو كانت أوحشتك إلى هذا الحد يمكنك أن تفكر فى طريقة تساعدك على اللحاق بها" وصفعت الباب خلفها بينما ظل لدقائق متجمدا فى مكانه وهو يتوجع من أثر الطعنات الغادرة وببطء شديد أخرج مفتاحا من جيبه ودلف إلى الشقة وهو يتجرع وحيدا مرارة المحطة الأخيرة التى لم يتوقع أن يصل إليها بهذه السرعة .
حياته موزعة بين مجموعة من محطات الوصول والمغادرة أعتاد أن يخرج رأسه من الشباك قبل أن يعطى للقاطرة أمرا بالتحرك ليلقى نظرة على ما يجرى فى الخلف ودوما يشاهد معركة الأكتاف التى لا تنتهى بين الصاعدين والهابطين فى صراع لم تخبو جذوته يوما ما بين الواصلين والمغادرين فكلا الطرفين يحاول جاهدا أن يصل إلى هدفه قبل أن تنطلق صافرة القطار معلنة عن شروعه فى التحرك.
أشد ما يخشاه أن يصل يوما ما فى رحلته إلى المحطة الأخيرة مثل هذا القطار الذى يقوده منذ أكثر من ستة وثلاثين عاما ،أكتشف أن العمر قد تسرب سريعا من بين يديه بعد أن قضى جله فى قطع مسافات لاتعد ولا تحصى على متن قطاره من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، لقد ودع فى الأسبوع الأخير ثلاثة من رفاق العمر من كبار سائقى المصلحة ،كانت الشلة مكونة من خمسة لم يتبقى منهم سوى هو وعبد العال وكانوا جميعا قد بدأوا العمل معا وتدرجوا من مساعدين إلى سائقين على المسافات القصيرة والمتوسطة إلى أن أصبحوا سائقين أكفاء على الخطوط الطوالى أو المسافات البعيدة.
استيقظ كعادته فى الصباح الباكر وأرتدى ملابسه كاملة وانطلق إلى وجهته، لايتخيل أن يتقاعد يوما ما فهو لايعرف فى حياته شيئا سوى العمل ،هو دائما على سفر والوصول بالنسبة له ليس سوى دقائق معدودات يلتقط فيها أنفاسه أستعدادا لرحلة جديدة ،لا يدرى كيف تمضى الحياة بمن تجاوزوا الستين من العمر فكل الأيام بالنسبة لهم كما يسمع نسخة واحدة ،لا فارق بين الليل والنهار ،ليس أمامهم من سبيل سوى إجترار الذكريات على المقاهى وانتظار ساعة الرحيل على فرشهم حتى يتخلصوا من نظرات الشفقة حينا وإتهامهم بأنهم صاروا عبئا على ذويهم فى أحيان أخرى ولا تأتى الطعنات أبدا إلا بسكين الأقربين الغادرة.
ليس لديه أدنى شك فى أن الأجل قادم لامحالة رغم حبه الشديد للحياة ورفضه الدائم الأعتراف بأن للزمن أحكاما قسرية على كل شىء ولكنه واثق أنه سيموت كالفرسان وهو يعارك الحياة من قلب قاطرته ،لكنه أكتشف شيئا غريبا هذا الصباح فكل المحطات خاوية تقريبا ،لا وجود للركاب المنتظرين على الأرصفة ، لا أحد يصعد ولا أحد يهبط وكأن الساعة قد قامت ،لم يرى فى حياته منظرا كهذا من قبل وكأن كل المدن قد خلت من البشر، أين ذهب الناس إذا؟ لايحدث هذا حتى فى العطلات الرسمية، ولكنه سيواصل رحلته على أية حال حتى لو كان القطار خاويا على عروشه وربما تختلف الصورة فى المحطات القادمة ليعود عراك الأكتاف بين الراغبين فى الصعود والهبوط وهو ما يضطره لإطلاق صافرة القطار لتنبيه الطرفين إلى أنه سيقلع بعد ثوان معدودات وأن كلاهما يجب أن يعد للأمر عدته.
لكن الصورة ظلت على حالها وبقيت المحطات خاوية على عروشها بلا ركاب، ولكن ليس أمامه أى خيار أخر سيواصل الرحلة حتى نهايتها فالقطار لايمكن أبدا أن يظل واقفا فى منتصف الطريق وهو كسائق ماهر يعرف دوره كاملا فى أن يعب كل تلك القضبان من محطة الانطلاق إلى محطة الوصول حيث يودع قطاره فى المخزن استعداد لاستقلاله فى اليوم التالى.
بحث عن مساعده كى يتجاذب معه أطراف الحديث كما يفعل دائما بعد أن يناوله كوب الشاى الساخن ولكنه لم يجد له أثرا وصاح غاضبا " أين اختفى محمدين هذا الشاب غير المنضبط ؟ إن تسيبه هذا لن يخلق منه سائق قطار محترف كما يتمنى أن يصبح يوما ما" .
لا يدرى سر تلك الكآبة التى تسكن صدره فى ذلك الصباح ، يشعر بأنه يترك بعضا من سنوات عمره فى كل محطة يغادرها ،هل يمكن أن يكون قد تحرك بهذه السرعة الجنونية كى يلحق برفاق عمره الثلاث؟ ، ولكنه طرد هذا الخاطر من رأسه سريعا فربما يكون السبب فى موتهم دون سابق إنذار أنهم جميعا قد أحيلوا إلى التقاعد فلم يعد لأى منهم ما يقدمه فى دنياه أما هو فمازال يعمل لم يترك موقعه على ظهر القاطرة و يتحرك حتى الآن بالقطار فى المواعيد المحددة له رغم أنه لم يصادف فى طريقه راكبا واحدا..
طمأن نفسه بأنه سوف يصبح افضل حالا عندما يصل إلى بيته حيث سيحصل على عدة ساعات من الراحة ستهدأ فيها نفسه ويصبح فيها مقبلا من جديد على أن يواصل عراكه الذى لاينتهى مع الحياة وسيقيم أوده الطعام الشهى الذى تعده له زوجته أم أحمد.
أنتبه فجأة لوقع خطوات شخصان يقتربان منه ويخبط أحدهما كفا بكف بينما يمصمص الأخر شفتيه قبل أن يتسلق السلم ويفتح باب القاطرة وصرخ حينها مذعور " من أنتما وماذا تريدان ؟"
ربت أحد الشابين على كتفه برفق" أما آن لك يا عم إبراهيم أن تستريح، لقد تمت إحالتك إلى التقاعد منذ خمسة أشهر بعد بلوغك الستين من العمر ولكنك لم تتخلف خلالها يوما عن التسلل إلى المخزن وركوب القاطرة، أما آن لك أن تخلد إلى الدعة قليلا" صدمته الكلمات فلم ينبس بحرف واحد فواصل الشاب "هلا هبطت من القاطرة قبل أن يصل الأسطى محمدين السائق حيث سيتحرك بالقطار إلى الصعيد بعد نصف الساعة تقريبا وأخشى أن يغضب إذا شاهدك تجلس فى مكانه"، نكس رأسه وولى بعيدا عنهما وهو يجر قدميه وهو لا يكاد يصدق أن قطار العمر قد وصل إلى محطته الأخيرة بهذه السرعة وأنه قد أنضم منذ عدة أشهر إلى طابور المتقاعدين.
قرع باب الشقة عدة مرات فلم يجبه أحد ، صاح بأعلى صوته مناديا " أم أحمد " ولكنها لم ترد على ندائه وبعد أن بدأ القلق يتسرب إلى صدره انفتح الباب أخيرا ولكنه لم يكن باب شقته لقد كان باب الجيران ،كانت زينات زوجة الأسطى فتحى الحلاق تزم شفتيها وهى تتفحصه من أعلى رأسه لأسفل قدميه بشعرها المنكوش وعينيها اللتين تكافحان النعاس، كان من الواضح أنها قد أستيقظت من نومها للتو وأقتربت منه وهى تشيح بيديها وهى تصيح به" أم أحمد توفاها الله منذ عشرة أشهر وأنت تعلم هذا جيدا فهل ستوقظنا كل صباح على هذه الجلبة ،لو كانت أوحشتك إلى هذا الحد يمكنك أن تفكر فى طريقة تساعدك على اللحاق بها" وصفعت الباب خلفها بينما ظل لدقائق متجمدا فى مكانه وهو يتوجع من أثر الطعنات الغادرة وببطء شديد أخرج مفتاحا من جيبه ودلف إلى الشقة وهو يتجرع وحيدا مرارة المحطة الأخيرة التى لم يتوقع أن يصل إليها بهذه السرعة .