سامح عسكر - الغباء ودوره في صناعة الكراهية.. تحليل فلسفي

توجد علاقة بين الذكاء والتسامح وبين الغباء والكراهية

فأكثر الناس ذكاءً هم أكثرهم تقبلا للآخر وتسامحا مع الناس، والعكس صحيح، والسر في امتلاك القدرة المعرفية على السؤال والذي مفاده " أن تسأل يعني أن تفكر، والفكر نوع من الذكاء" بينما فقدان القدرة المعرفية يعني توقف التفكير وعُطل في مستقبلات المعلومة، لذلك عدت علوم النفس المقلدين بأكثر الناس غباءً، فالمقلد لا يعرف ليس لأنه لا يعرف، ولكن لأنه غير جاهز لتقبل المعلومة، والسبب أن وضعه النفسي والعقلي يجعله كارها متمردا على أي معلومة جديدة، وبالتالي هو يفضل الاستكانة والقعود والتسليم بما هو حاصل على أن يحاول تغيير شئ.

في المنطق يوجد ما يسمى "القابل والفاعل" الأخير فيه معروفا هو أنت عندما تضرب اثنين مثلا ضربة واحدة بيدك و بنفس القوة والسرعة تكون فاعلا، أما القابل هما المضروبين الذين سيشعروا بضربتك لهم حسب وضعيتهم الخاصة، لكن ولأن أحدهما ضعيفا والآخر قويا لن يتألموا ولن يشعروا بتأثير واحد لضربتك رغم أنك سددتها لهم بقوة واحدة.

هذا يعني أن مصدر المعلومات غالبا واحد، لكن الناس أصبحوا جهلة وعلماء لأنهم اختلفوا في قابليتهم لتلك المعلومات، وبالتالي فالمطلوب أن تُحسّن من وضعيتك كمتلقي وقابل للمعلومات، وهذا لن يكون سوى بالتسامح والرقي الإنساني لئلا ترفض معلومة جاءت من طرف مكروه، وقتها لن تتعلم، بينما مصادر المعلومات لا يشترط فيها الأخلاق ، فالمصدر يتصرف حسب وضعيته كفاعل، وأنت مستقبِل تتصرف حسب وضعيتك كقابل، كواحد مثلا يكره الملحدين بجنون، هذا سيرفض أي معلومة من ملحد حتى لو كانت صحيحة، ولو قدر أن يكون هذا الملحد صاحب كاريزما وحضور سيرتفع معدل الكراهية له ولكل منتجاته، وهذا سر من أسرار حدوث الفتن الطائفية، مجموعات تكره شخص بعينه وفور نشاط هذا الشخص يصدر من المجموعات ردود أفعال عنيفة لمقاومة ما توهموه أنه خطرا من فرط نفوذ وقوة وهيمنة هذا الفرد عليهم.

أما لو كان متسامحا فلن يرفض أي حديث أو معلومة من أي مصدر حتى لو كان الشيطان نفسه، سيتقبلها بارتياح ويعتمدها في منظومته العقلية، مما يرفع تلقائيا معدل الذكاء لديه..ويصبح أكثر رغبة في توضيح موقفه أنه متسامح ويفهم مخالفيه..لكن الآخرون لا يفهموه أو بعضهم يتعمد ألا يفهم، وتلك الجزئية رأيتها في جماعة الإخوان في السابق حين رأيت غباء قادتهم وزعمائهم قد صنع لدى التنظيم كراهية خاصة للغير تدفع العنصر لتصديق أي داعٍ للكراهية حتى لو من مخالفي وخصوم التنظيم، فالسلفية المدخلية مثلا لم تكن متفقة مع قادة التنظيم بمعارضة الحكم لكنها داعية لكراهية أي غير مسلم وغير سني ، فالإخواني يكون مهيئا للكراهية على نفس النمط ، مما يعني أن تعاملك مع الإخواني وقتها لم يكن مع شخص طبيعي كامل الأهلية ومستقل، بل مع شعارات وكلمات استحوذت عليه بمفعول سحر غير عادي لا يمكن تهذيبه..

شخصيا أعتبر أن الغباء هو أكثر خطورة من الخُبث، واسمحوا لي باستخدام لفظ "خبيث" فلست ممن يكثرون من استعماله لارتباطه غالبا بالخوف والعقلية الإقصائية المشبعة بوهم المؤامرات، لكني أذكره هنا للدلالة على شخص ذكي يستعمل ذكاءه في الشر والإيذاء، لكنه في العموم ذكيا قبل أن يكون شريرا..مما يحمله أحيانا على التصرف كرجل صالح وفقا لما تقتضيه مصلحته..

وقد تنبه الفيلسوف الأسكتلندي مؤسس الرأسمالية "آدم سميث" لهذه المشكلة حين قال بأن الرأسمالية تُشجع الأشخاص الأنانيين لخدمة غيرهم لكسب الثروة، وهذا يُحوّل ملايين الناس للفضيلة حتى لو لم يقتنعوا بها في داخلهم..علما مشكلة الرأسمالية الكبرى هي في مراكز القوى التي تنشأ نتيجة لفارق الطبقات الناتج من نظام السوق الحر..وهذه قصة أخرى، فتلك المراكز هي التي تحكم وتسيطر على الثقافة..لكن جزئية دفع الأشخاص العاديين للفضيلة عن طريق خدمة الناس وإشباع رغباتهم لكسب الثروة تبقى وتظل أحد أفضل ميزات الرأسماليين بالمطلق، وتطبيقا لجزئية تسامح الأذكياء الخُبثاء والأنانيين جبرا..وهي الفكرة التي سيطرت على أذهان فلاسفة البراجماتية وقالوا عنها بأن الشر كامن في نفس الإنسان لا يمكن تهذيبه وإصلاحه والسيطرة عليه سوى (بالمصلحة)

فالشر في ذاته هو جرثومة هدم وتخريب دون عقل أو عن أنانية وتسلط وطمع، فإذا ما اطمئن الإنسان انخفضت لديه معدلات الخوف اللازمة لدفاعه تلقائيا عن طمعه وأنانيته..وهذا سر لجوء الأشرار للعمل الصالح أحيانا أنهم شعروا بالاطمئنان ليس إلا، مما يدل على أن الدافع الأبرز لارتكاب الشر عند الإنسان هو (الخوف) فإذا كان الشخص غبيا زادت لديه مساحة اليقين حتى تتجاوز مساحات اليقين لدى الآخر فيعتدي على خصوصيات الغير..مما يتسبب في نشوب الصراعات والحروب والانقلابات السياسية والاجتماعية والدينية، وهو ما قلته قديما بأنه كلما زاد حجم اليقين كلما زاد حجم الغباء..فبمجرد ظهور زعيم ديني أو سياسي نفهم مباشرة أن حجم اليقين سيرتفع وبالتالي حجم الغباء سيتخضم..

فالشخص الغبي على عكس الشخص الخبيث.هو راض تماما عن نفسه وعن قناعاته حتى لو انتهكت حقوق الغير، بينما الخبيث لأصالته الذكية يعلم جيدا أن ما يريده ليس مشروعا لكنه يتسلط بدافع طمعه وأنانيته وحبه للسلطة لا غير، فإذا ما ارتأى لنفسه مصالح من الخير سيفعل الخير على أمل كسب الناس وثقتهم فيه كإنسان صالح، أما الغبي فلن يميز الخير من الشر أساسا وسيكون هجوميا بدعوى أنه يفعل الخير ..وهؤلاء الذين وصفوا في القرآن بقوله تعالى "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون" [البقرة : 11] مما يدل على أن الأنبياء والمصلحين في فترة زمنية ما بُعثوا لمجتمعات غبية بالأساس تفعل الشر دون رادع أو وعيٍ منها بخطورة ما تسلكه، ولأن الشخص الغبي سهل الغضب جدا ويكون هجوميا عدوانيا إذا خالفته بأبسط الأمور..

هنا الزعيم الديني أو السياسي لو لم يكن مستنيرا سوف يُصبح كارثة، كونه يفرض جهله وتسلطه على الناس فيتشبع المجتمع بأفكار سلبية أو عدوانية محضة..وهو سر من أسرار التاريخ الذي يشهد بحروب وصراعات دينية تافهة وحمقاء بتسلط رجال دين أو زعماء أغبياء مستبدين، وبملاحظة دقيقة نرى أن قوة (المعبد والسلطة) يقابله زيادة في معدلات الغباء الشعبي بالضرورة..فاستقلالية الفرد عن تلك القوة تكون ضعيفة أو معدومة، وهو ما أشرت إليه سابقا في أعمالي الفلسفية بأن الشعوب التي تعيش في ظل الاستبداد تكون متصفة (بالعجز المكتسب) وهو عدم القدرة على التفكير والخيال والإبداع للتأثير الساحق للمعابد والحكومة في ذات التوقيت، فإذا ما ترافقت تلك القوة بتحالف المعبد والسلطة يتخلف الشعب فورا ويتراجع حضاريا بشكل مثير، وبالتالي يفقد القدرة على التعامل مع أي ظروف ناشئة ويعجز عن حل مشاكله بنفسه..

وقد أتفهم أحيانا لجوء المجتمع المتخلف لطلب الحماية من أقوياء آخرين نظير أجر أو خضوع تام، فمشاكله سوف تصبح مرهونة لعلاقة مصالح بينه وبين قويا آخر فلن تتعقد مشاكله التي يصنعها تلقائيا جراء تخلفه، بينما المجتمع المتخلف حضاريا والذي يرفض الحماية ولا الخضوع ستتراكم وتتضاعف مشاكله بأثر الحلول السيئة وشيوع الغباء في مؤسسات الدولة، ولأن الحل السئ يخلق مشكلات من باطن المشكلة بالأساس لم تكن موجودة في السابق، مما يعني أن عدم الحل أحيانا يكون أفضل من الحلول السيئة التي تتدخل بطريقة سلبية تزيد من آلام ومعاناة هذا الشعب دون الوعي بجوهر المشكلة الأصلي..

وهذه ليست دعوة للخضوع ولكن تحليلا لظاهرة الغباء وقدرتها على الحلول ومواجهة التحديات، فالغباء عندي مشكلة نفسية اجتماعية أكثر مما هي فكرية دينية..فالشخص الغبي لا يرى أفعاله الشريرة على حقيقتها ولا يرى غباءه كذلك، وبالتالي سيكون مهيئا لارتكاب أي شر دون رادع من عقل أو ضمير أو دين أو مصلحة..وهنا تأتي حاجته الإنسانية للوصاية حتى لو لم يفطن إليها..لكن الوصاية على الذي يدمر نفسه ضرورية لإبقاء الحياة واستمراريتها على الأرض، وقد طالبت قديما بهذه الوصاية على بعض مشعلي الأزمات وعدم تقديمهم كثوار مصلحين ومن هؤلاء ثوار سوريا ، فقد دمروا بلادهم وأنفسهم دون وعيٍ منهم بخطورة ما يفعلوه، وأن الحقد الطائفي كان محركهم الأصلي بالأساس..وهو الذي شجع مئات الآلاف من الأغبياء للانضمام إلى الثورة بدعوى الجهاد مما تسبب في اشتعال الموقف واستحالة حله سوى بالقضاء على تلك المجاميع الغبية..

علما بأنني قد سبق لي محاورتهم على الإنترنت لسنوات، ووصلت إلى أن الغباء المتفشي الذي يعانوه هو وليد ظروفا معينة وأنساق محددة يعملون من خلالها فيتعزز غبائهم أكثر، وطالما ليست لي القدرة على التحكم في تلك الظروف وتلك الأنساق فالحوار معهم بالأصل هو غير مجدي ولا معنى له، كون المسألة من جذورها لديهم غير مرتبطة بالفكر ولا العقلية البرهانية والاستدلال..بل بالنفسية الثائرة والمجتمع والإعلام الذي يضغط..وهذين الأمرين يمنعان الأغبياء من رؤية أنفسهم في المرآة بل ويزيد من غبائهم بصورة مفزعة كلما حاول البعض إقناعهم بخطورة وخطأ ما يفعلوه، ولكون غبائهم مرتبط بصناعة تاريخية تراكمية عملت ضمن هذه الأنساق والظروف يستحيل معها الإصلاح سوى بمغادرة تلك الأنساق والتفكير من خارج الصندوق..

لذا فالغبي قد يرى خطورة فعله ليس في حينه ولكن في مرحلة زمنية لاحقة يكون قد غادر تلك الأنساق والظروف التي عاشها في السابق، وهو ما أقصده دائما بالأجواء اللازمة للتنوير، فالتفكير النقدي لن يُوجَد في ظل أجواء غير مواتية..لكنه يصبح مقبولا إذا وفّرت السلطة له تلك الأجواء من قرارات وتصريحات وقوانين عامة تكون مهيمنة على المجتمع..فيراها المثقف حتى يتشجع للخروج والإدلاء برأيه الصريح دون خوف، مما يعني أن عمليات الإصلاح والتنوير لن تكون سوى بإرادة سلطوية وتعاون من كافة أجهزة الدولة بالأساس، وأما المفكرين والأذكياء فدورهم سيكون محدودا بإقناع الجماهير والتأثير عليهم لخفض مساحة الغباء – وليس القضاء عليه لاستحالة ذلك – وبالتالي يتمرد المجتمع على قادته الأغبياء في السابق ويرى عيوبهم لأول مرة..حتى أنه عندما ينظر للماضي يضحك من فرط سذاجته وتصرفه بشكل غير مسئول..





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى