محمد بنيس - في ضيافة شارل بودليـــر: علي هامش مؤتمر قصيدة النثر العربية في بيروت.. ألم يكن أجدى القول ان العرب لم يعرفوا قصيدة النثر.. ولم يكت

في ضيافة شارل بودليـــر:
علي هامش مؤتمر قصيدة النثر العربية في بيروت .. ألم يكن أجدي القول ان العرب لم يعرفوا قصيدة النثر.. ولم يكتبوها؟!

عدم المعرفة بقصيدة النثر الفرنسية هو ما اجتمعت (وأجمعت) عليه ورقات كل من عبد القادر الجنابي وأمجد ناصر وعبده وازن وعباس بيضون، مع فوارق في طبيعة التناول. ألم يكن من الأجدي القول بان العرب لم يكتبوا قصيدة النثر؟ إن العرب لم يستوعبوا قصيدة النثر ولم يكتبوها باعتراف جماعي، ولكن قصيدة النثر العربية رغم ذلك موجودة، باستثناء عباس بيضون الذي أعلن، من غير احتراس في رأيي، أن الشعر لم يبدأ بعد. لم أقرأ كلمته بتمامها حتي أفهم جيدا. والتصريح بأن الشعر لم يبدأ مباين لعدم كتابة قصيدة النثر، وقد تنقله عاصفة الكلمات إلي ما سبق لسواه من الشعراء العرب أن احتموا به في التبشير بسيادتهم الشخصية علي مستقبل القصيدة العربية. أما عبد القادر الجنابي، الذي كان نال إعجابي لقناعته، من قبل، في الدفاع سنوات عن السوريالية (والسوريالية، كما نعرف، كانت تمج قصيدة النثر وكان أندري برتون يشعر بالتقزز كلما سمع اسمها ويكره كلا من ماكس جاكوب وريفيردي)، فيختار ليوسف الخال قصيدة “العشاء الأخير” (الصادرة سنة 1960 في ديوان قصائد الأربعين. وهي نفس سنة صدور لن) ضمن الأنطولوجيا ويصنفها في خانة قصيدة النثر فيما هي تنتمي لتصنيف الآية التوراتية ـ الإنجيلية ( نعلم كذلك أن يوسف الخال من مترجمي الكتاب المقدس). في الاتجاه ذاته، يصرح عبده وازن : ” أعترف أنني لم أنتبه يوما إلي أنني أكتب قصيدة نثر. كل ما في الأمر أنني أكتب قصيدة لا أقف عند عتبة اسمها. وأعتقد أن هذا الشأن ينطبق علي سائر الشعراء العرب الذين يكتبون هذه القصيدة تلقائيا (التأكيد من عندي) وهذا أيضا ما يحصل في فرنسا، مسقط رأس قصيدة النثر”.
مـا جاء بـه عبد القـادر الجنـابي أو جـاء فــي اعتراف عبده وازن بصدد قصـيدته أو بوضعية الشعـر في فرنسـا يجعلـنا أمام حالـة أعجز عن فهمها من منظور معرفي صرف. قصيدة بلغة وموضوع إنجيليين، كتابة قصيدة لا يعرف صاحبها بأي استراتيجية كتبها ولا الجنس الشعري الذي تنضوي تحته. فمن له بعد هذا سلطة تسمية قصيدة ما قصيدة نثر ومن لا يملك سلطة التسـمية؟ إما أن ما فعله بودلير وما فعله السابقون واللاحقون عليه وفعله النقاد والدارسون كان عبثاً أو أن ما فعله الشعراء والنقاد العرب كان عبثاً.
لكن ما لا ندركه جيدا هو أن صحافيين في العالم العربي هم الذين أخذوا مكان الناطق باسم المعرفة الشعرية، ولا يعطون الحق لأحد من خارجهم أن يتكلم، أكان شاعرا أم لم يكن. صحافيون وحدهم لهم الحق في أن يهبوا التسمية ما يشاؤون وينزعوها عما يشاؤون. 8تصريحات واعترافات بان العرب لم يفهموا قصيدة النثر ولم يكتبوها. وأضيف إنهم لم يفهموها ولم يكتبوها بمعان متعددة. ليس الشكل وحده ما لم يفهموه، بل تاريخ هذه القصيدة السابق علي بودلير، واسمها، ومكانتها ضمن الشعر الفرنسي (ومنه شعر وكتابات بودلير)، وطبيعة هذه القصيدة التي هي ابنة باريس، تحديدا، المدينة الفرنسية الكبيرة في زمن الثورة الصناعية واكتساح الخطاب العلمي فضاء البحث العلمي كما فضاء الحياة الفرنسية، ثم بعدها الميتافيزيقي، كما أعطاه إياها بودلير، شاعر “الانحطاط ” بامتياز.
في مقدمة أنسي الحاج لديوان لن نعثر علي استعمال غير مضبوط لمفهوم التدمير (“أول الواجبات التدمير”) وفي كلمة عبده وازن نلاحظ التنصيص علي اللاشكل. أما سوزان برنار فكتبت ما يلي:” تأكيداً أن قصيدة النثر تنطوي علي مبدإ فوضوي ومدمر، ما دامت ولدت من ثورة علي قواعد العروض والنظم – وأحيانا ضد القواعد المعتادة للغة: لكن كل ثورة علي القواعد الموجودة مجبرة، إن هي كانت تبتغي إنشاء عمل قابل للحياة، أن تعوض بسرعة هذه القواعد بأخري، حتي لا تصل إلي اللاعضوي، اللاشكلي. من ثم فإن من المتطلبات الخاصة بالشعر الوصول إلي خلق شكل، وبعبارة أخري تنظيم العالم الغامض الذي يحمله الشاعر في داخله والتعبير عنه”(ص. 13.) بهذا المعني أيضا كتبت سوزان برنار ” لا يبدأ الفن إلا حيث يوجد إبداع إرادي وواع”. وهو ما استخلصته من قولة ماكس جاكوب “الفن هو إرادة الإفضاء بوسائل مختارة” (ص. 12. دائما).شعراء عرب لم يفهموا قصيدة النثر ولم يكتبوها بمعان متعددة. لكنهم ، وهم يتبرمون من المعرفة ويتنصلون، مصرون مع ذلك علي أن قصيدة النثر العربية موجودة، وأنهم المالكون لها، الساهرون علي ديمومتها. هناك ما هو أكثر من ذلك. قد لا ينتبه هؤلاء المتكلمون، بغير معرفة، أن بودلير كان تأثر بالشاعر لويس بيرتران، الذي حمل لاحقا الاسم الرومانسي ألوزيوس. كتب بودلير عن ذلك إلي صديقه الشاعر أرسين هوساي:” لدي اعتراف صغير أفضي به إليك. إنني وأنا أتصفح للمرة العشرين علي الأقل، غاسبار الليل لألوزيوس بيرتران (…)، جاءتني فكرة أن أحاول شيئا مماثلا، وأطبق عند وصف الحياة الحديثة، أو بالأحري حياة حديثة وأكثر تجريداً، الطريقة التي طبقها عند وصف الحياة القديمة، المثيرة علي نحو بالغ الغرابة”. تصفحٌ للمرة العشرين (هل هو مجرد “تصفح” في لغتنا؟) لعمل شاعر لم نعد نعرف عنه سوي هذا الشكل، الذي لم يصنع من صاحبه شاعرا كبيرا. بل كان هذا الجنس الجديد يحتاج إلي شاعر كبير، هو بودلير، حتي يصبح له معني في تاريخ الأدب الحديث. بودلير تصفحه للمرة العشرين علي الأقل حتي يتعلم كيف يكتب قصيدة لها خصائصها في قصائد بيرتران. كان بودلير متواضعا عندما اعترف بتأثره بديوان شاعر صغير وبقضاء وقت طويل في التعلم منه. تلك هي العلامة الأولي علي المعرفة وعلي المسؤولية. لم يكتب بودلير جنسا شعريا جديدا لأنه لم يخطر من قبل علي باله ولا يعرف ما هو مثلما لم يحتقر السابقين عليه ولو كانوا من بين الذين يسمون في الثقافة الأدبية الفرنسية من القاصرين أو من القاصرين الكبار. نعلم عند ذاك أن بودلير ليس مخترع هذا الجنس ولكنه هو الذي منحه الحياة. وسوزان برنار، بالمناسبة، كتبت، في الفصل الأول من الكتاب، بخصوص تاريخ هذه القصيدة وتجذرها في تربة الثقافة الفرنسية: “إن قصيدة النثر، بالفعل، لم تتفتح علي نحو مفاجئ في حديقة الآداب الفرنسية: فقد كان عليها لتبلغ ذلك أن تجد لها أرضا ملائمة، أقصد عقولا مهيأة، واعية بهذا القدر أو ذاك، برغبة العثور علي شكل جديد للشعر”.(ص.19.) وأضيف أن بودلير وملارمي، وهما معلما قصيدة النثر بامتياز، كتبا أعمالهما الكبري خارج قصيدة النثر. لا أحد يدحض حتي الآن القيمة الاستثنائية لديوان بودلير أزهار الشر. بل لا بأس من الإشارة إلي أن نيتشه كان يقرأ (هل هناك حاجة لقول كيف يقرأ نيتشه؟) قسماً من المذكرات الحميمة لبودلير، الحاملة لعنوان تعرية القلب، إلي جانب أزهار الشر. كان بودلير استعار عنوان تعرية القلب من إدغار آلن بو. وفي مراسلاته لسنة 1861 أشار أول مرة إلي أنه “يحلم” منذ سنتين بـهذا “الكتاب الكبير”. علي أن ملارمي، من جهته، كان همه الذي كرس له حياته يتلخص في كتابة شيء آخر غير قصيدة النثر، أعني عمله “رمية نرد” وعمله الذي لم ينجزه “الكتاب”.9لو قمنا بإعادة قراءة لتاريخ قصيدة النثر العربية لتأكدنا من أن هذه القصيدة، التي لا تنضبط شكلا ولا فكرة ولا تسمية لقصيدة النثر الفرنسية، تأويل يستند إلي الارتجال والعفوية، مثلما الشعر الحر لدي نازك الملائكة تأويل للشعر الحر الأروبي. تأويل فاسد. فقصيدة النثر، في عرف الشاعر العربي، هي، قبل كل شيء، قصيدة تخلت عن الأوزان الشعرية. بهذا التأويل البعيد كل البعد عن قصيدة النثر الفرنسية يكون الشاعر العربي ألغي طبيعة وتاريخ القصيدة الفرنسية، بمنعرجاتها الألف. إنه بعيد عنها في التسمية والتحديد والفكرة. اختار الشاعر العربي الكسل المعرفي من أجل ممارسة شعرية لا مسؤولة، بقدر ما نقل ممارسة كتابة قصيدة النثر من مكان التعدد لدي الشاعر الواحد (وعدم وجودها لدي كثير من الشعراء أيضا) إلي منطقة الواحدية التي رصد لها وضعية حقيقة القصيدة. كسل ونقلٌ أنشأ كل منهما صراعاً غير مبني علي أسس معرفية، له بعد الامتياز والسيادة، موجه لإلغاء السابق وإلغاء ما عدا الناطق باسم الحقيقة، قبل أن يكون له سند في صرامة بناء قصيدة النثر والبحث مجدداً في معني الشعر واسترتيجيته في زمننا. ذلك هو انبثاق الأشكال الشعرية من خارج الشعر العربي وتاريخه.لنا عناصر تتطلب التوضيح. سوء ترجمة المصطلح أولا. في اللغة الفرنسية هناك مصطلحان: “قصيدة في حالة نثر” و”قصيدة في حالة أبيات”. فالأبيات، في الجنس الثاني، يمكن أن تكون موزونة (ومقفاة) ويمكن ألا تكون. وإذا كان أدونيس اختار ترجمة الأولي بـ”قصيدة نثر” فإن ترجمته الثانية بـ”قصيدة الوزن” (في دراسته) وتحولت لاحقا إلي “قصيدة التفعيلة”، جلبت الالتباسات التي فعلت فعلها في تسييد الفوضوي واللاشكلي. (أنا الآخر وقعت ضحية عدم تدقيق الترجمة، عندما استعملت، من قبل، المتداول من غير انتباه). هناك، إذن، في التعريف الفرنسي، فرق بين الوزن (والقافية) وبين الأبيات. هنا مكمن الخطإ في الترجمة. معني ذلك أن قصيدة النثر هي، بصريا، تلك التي عندما نراها في الصفحة نتبين أنها تتبع وضع السطر النثري وفقراته، القابلة لاستغناء بعضها عن بعض. فكل قصيدة تستعمل البيت (الأبيات) أكانت موزونة (ومقفاة) أم لم تكن، خارجة حتما وفورا من قصيدة النثر. إن الشاعر العربي، الذي لم يعرف قواعد (لا أقول قوانين) هذا الجنس، ظن أن ما يكتبه في شكل أبيات شعرية تتخلي عن الوزن (والقافية)، هو قصيدة نثر، فيما كل استعمال للبيت، بصرف النظر عن شكل البيت، يخرج القصيدة، في عرف معلميها، بودلير وملارمي، ونقادها ومنظريها، من قصيدة النثر ويلحقها مباشرة بالقصيدة، قصيدة الأبيات. المقارنة بين قصيدة النثر وقصيدة الأبيات لدي بول تسيلان، الروماني المطلع حقا علي تاريخ قصيدة النثر الفرنسية وقواعدها، يعفينا من أي استدلال إضافي، ما دام شاعرا غير فرنسي. وعندما نكتب قصيدة أبيات غير موزونة (وغير مقفاة، لأن هناك من ينبذ الوزن ولكنه يستحلي القافية) فلنا آنذاك أن تبحث لها عن اسم وعن تصنيف. ثم هناك ثانيا فكرة قصيدة النثر لدي بودلير. إنها قصيدة الحياة اليومية في باريس، والمدن الأروبية الكبري تحديدا. (هذا من بين ما اختلف فيه بودلير مع بيرتران، الذي كانت قصائده وصفا لمدينة ديجون.) الحياة التي يستنطقها المتجول المتوحد أوالمتسكع الباريسي، كما كان يفكر في عنونة مجموع القصائد. حياة المدينة بعد أن يغادر الشاعر المنزل ويتجول أو يتسكع في باريس (ومدن أروبية أخري) برغبة اكتشاف جمال وتناغم العالم الذي أصبحت عليه المدينة في زمن التحديث الصناعي. يختلط بـالحياة اليومية للمدينة وبـلغة الناس فيها، يطارد “الجمال العابر، الزائل، للحياة الحاضرة”، كما جاء في رسالته إلي هوساي. من ثم تحتاج هذه القصيدة، بصفتها قصيدة مدينة باريس، الضخمة، إلي “نثر مرن، مرن جدا” أو هي تتطلب، كما كتب لصديقه سانت بوف من بروكسيل سنة 1865، ” إثارة غريبة تحتاج إلي مَشاهد، إلي جموع، إلي موسيقي، بل وحتي إلي فوانيس”. من دون هذه الضرورات الشعرية اللازمة لقصيدة النثر تبطل القصيدة في اعتبار بودلير. ونقف، مع بودلير، علي ما آلت إليه قصائد القسم الأول التي كتبها، مقارنة مع نموذج بيرتران. ففي الفقرة الأخيرة من رسالته إلي هوساي، التي يقدم فيها القصائد، يعترف بودلير بخشية وتواضع الكبار: ” حالما بدأت العمل، بدا لي لا فقط أنني بقيت بعيدا جدا عن نموذجي العجيب والمتألق، بل أنني كنت أيضا أقوم بشيء ما (إن كان ذلك يمكن أن يسمي شيئا ما) مختلف علي نحو خاص، حادثة بإمكان أي أحد عداي أن يتباهي من دون شك بها، لكنها التي لا تستطيع سوي أن تعذب بعمق نفساً تنظر إلي أي حد تصل سعادة الشاعر الكبري وهو ينفذ بـصواب ما خطط له.”10تدقيقات استدعاها تأمل، في ضيافة بودلير، وأنا أتابع العودة إلي ماضي بيروت. أسأل، عندها، هل ما وقع يحتمل نتيجة مفاجئة؟ الماضي الذي يفتقد الماضي. فالدعوة إلي عقد مؤتمر قصيدة النثر العربية اكتست مسحة أصولية في غفلة حتي عن المبادرين إليها. أصولية بخلاف الأصولية التقليدية، التي عادت إلي ماض موجود، له تاريخه وله خصائصه وحدوده.إن المسألة، كما طرحتها الدراسات النظرية، الشعرية والدلائلية، في السبعينيات ثم كيف أصبحت اليوم تطرح، لا تنحصر في أن نكون مع أو ضد قصيدة النثر بل كيف نقرأها وبأي متاع معرفي نقرأها. إذا كان كتاب سوزان برنار يقتصر علي التاريخ والمقارنة والتحليل والتوثيق، للقصيدة ونظريتها، فإن المعارف الجديدة أضاءت ما لم يكن ممكناً لسوزان برنار التفكير فيه. إن قصيدة النثر ليست واحدة. وما يهم هو وضعية اللغة ووضعية الذات فيها. ذلك ما عناه رولان بارط عندما نظر إلي النص (الأدبي) من حيث “أن الجسد يعود، ولكن عن طريق غير مباشرة، مقيسة، وموسيقية حتي تقول كل شيء بدقة، عن طريق المتعة لا عن طريق المتخيل (الصورة)”. بين الجسد والمتخيل ترتسم الحدود بين قصيدة نثر وبين قصيدة نثر. فإذا كانت قصيدة النثر قائمة علي المتخيل (علي غرار القصيدة العربية التي تعتبر السريالية أو الاستعارة حقيقتها) فهي تنتمي إلي الأدب، أما قصيدة النثر القائمة علي الجسد فهي من الكتابة. ولنا أن نلاحظ حضور الجسد في قصيدة بودلير وفي وعيه النظري بها. قصيدة النثر بالمعني الأول جنس من الأجناس الأدبية، لها تعريفها الخاص بها، مع مراعاة صعوبة التعريف. أما الكتابة فهي تخترق جميع الأجناس الشعرية والنثرية. معارف جديدة تسمح لنا بأن نقرأ قصيدة النثر من مكان أخر. هناك تناقض في مصطلح قصيدة النثر، علي المستوي الإبستيمولوجي أيضا. نعم، إن قصيدة النثر تعني أن النثر فيها يرتفع إلي مستوي الشعر. وهي لذلك لا تستعمل البيت كما في القصيدة، قصيدة الأبيات. إنه شرط سابق علي كل شرط. لكن التناقض في استعمال المصطلح يأتي من كون درجة الإيقاع في الخطاب هي ما يميز النثر عن الشعر. فالخطاب إما أن يكون شعرا أو نثرا. فإذا اكتسب النثر خصائص الشعر أصبح شعرا وكذلك إذا اكتسب الشعر خصائص النثر أصبح نثرا. لذلك فإن وجود الوزن (والقافية) ليس ما يحدد الشعر، وغياب الوزن (والقافية) ليس ما يحدد النثر. هناك ما هو أبعد من الوزن (والقافية). إنه الإيقاع. كان همبولد في كتاب المدخل إلي العمل عن الكافي ثم فردناند دو سوسير في دروس اللسانيات العامة وفي الكلمات تحت الكلمات وبنفنيست في قضايا اللسانيات العامة تناولوا العلاقة بين النثر والشعر. وجميعهم برهنوا علي أن العلاقة بينهما موجودة، من خلال الخطاب، في كل زمان ومكان. والفرق بينهما هو فرق في الإيقاع والمعني. هذه القراءة هي نفسها التي نعثر عليها لدي شعراء أساسيين في كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. ولا نعدم شيئاً من ذلك في الشعريتين العربية والصينية القديمتين. نستشير هنا اسمين من كبار شعراء العصر الحديث.
نبدأ بإزرا باوند، لقربه التاريخي. لم يكن باوند يري الفرق بين الشعر والنثر إلا في درجة المعني. كتب باوند في كيف نقرأ “الأدب العظيم هو ببساطة الكلام المحمّل بالمعني حتي أقصي درجة ممكنة” و” كلام النثر محمل بـ[معني] أقل علواً بكثير، وهو لربما الفرق الصالح بين النثر والشعر”. ولدينا ملارمي، البعيد عن زمننا، القادم من مستقبلنا. نعثر لديه علي الفكرة الشعرية، التي لا تزال غريبة عن العالم العربي. فهو، مثلا، في جوابه علي جول هوري، كتب ” ولكن، في الحقيقة، لا يوجد نثر: ثمة الحروف الأبجدية ثم الأبيات المضغوطة بهذا القدر أو ذاك”. وكتب في مكان آخر:” تبقي القصيدة مختصرة، تتعدد، في كتاب واحد؛ ثباتها كان يشكل معيارا، كما البيت. كذلك هي، علي الأقل، رؤيتي. والآن، بالنسبة للتنغيم الشعوري المتجزئ، إنني أتذوقه تماماً، لكن كـنثر، رهيف، عار، مخرم”. وعن تجاوزه للثنائية، التي عرفتها فرنسا نهاية القرن التاسع عشر، بين الشعر الحر والقصيدة الموزونة والمقفاة (وهما معا من قصيدة الأبيات)، بين القدماء والشبان، كتب إلي غوستاف كاهن، مخترع الشعر الحر، عما يفكر فيه من” عمل أعلي قادم ليعوض الشكلين معاً”. وتلك إشارة إلي ما قام به في “رمية نرد” التي لم يتخل فيها عن الوزن والقافية والبيت، بل أنشأ تركيباً جديداً للوزن والقافية والبيت، في بنائه لعمل شعري أساسه المكان، بياض الصفحة، الإقامة علي حدود المسرح والموسيقي. كل ذلك جعل هنري ميشونيك يخلص إلي فرضيته القائلة بـ”أن الإيقاع أوسع من العروض”. وللإيقاع هو الآخر معرفته.11نحن هنا في أرض معرفية لا تقبل أي تبرم أو تملص. وما دام كتاب سوزان برنار كان مصدر الحديث باسم قصيدة النثر العربية في المشرق والمغرب، فإن كل نقاش في موضوع قصيدة النثر يتبرم أو يتملص، اليوم، من المعرفة ومن زمن المعرفة، يفيد أن العودة إلي الماضي تظل بدون ماض فيما هي متخلية عن المستقبل. ولكن التبرم أو التملص لا يلزم الباحثين عن المعرفة الشعرية، المنشدين إلي زمن هذه المعرفة. المعرفة، التي أقصد، هي التي سعي شعراء وشاعريون حديثون إلي بلورتها، منذ نهاية القرن الثامن عشر حتي اليوم. هذه المعرفة هي ما يدل علي أن الشعر فعل مسؤول ضمن الأنساق الثقافية البشرية. وكل تجاهل لهذه المعرفة يترك خطابنا عن الشعر لا معرفيا، أي لا مكان له في فهم الحركة الشعرية في العالم الحديث ولا في فهمها في العالم القديم، ومنه العالم العربي. ولعل الخطاب الصحفي، الفضفاض، المتأفف، المجنح، الذي يستبد بالخطاب المتداول عن قصيدة النثر، يقنع بالقراءة المتعجلة التي لا تطالب صاحبها بصرامة معرفية ولا نظرية ولا منهجية. بمعني أن انتفاء الصفة المعرفية والنظرية والمنهجية عنه يجعل منه خطابا غير قابل للهدم لأنه ليس مبنياً. فما يستحق الهدم هو وحده ما هو مبني. لذلك كنت بالإجمال أجد صعوبة في قراءة خطاب كهذا، مثلما كنت أجد صعوبة في قراءة قصائد تعتبر التنصيص وحده علي أنها قصائد نثر يمنحها الامتياز. لكن الأصعب هو أن استبدادية هذا الخطاب بالصحافة الأدبية، مشرقا ومغربا، يجسد الرداءة فيما هو يحولها إلي قوة، كما يقول أرسطو. ومع قوة كهذه للرداءة يبطل كل نقاش معرفي. ذلك ما يفرض علي أن أقر بأن مثل هذا الخطاب ينقلب إلي عائق كبير في بناء خطاب معرفي عن الشعر في العالم العربي، وإلي إمكانية حدوث حوار بيننا وبين أنفسنا وبيننا وبين العالم. ذلك ما اختبرته في مناسبات عديدة. ورقات ومواقف مؤتمر بيروت تدل علي ذلك. ونحن سعداء بهذا الخطاب السهل، الذي نرفع له ألوية انتصار في معركة لم تقع أصلا.12صمت في المغرب، أقول المغرب العربي. أهل قصيدة النثر يحتفلون، دعوة وتكريما واحتفاء، في بيروت، بما كان لهم (وحدهم) مع هذه القصيدة. من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن ومصر. حتي المدعوون الغائبون احتفلوا. في هذه المنطقة المغلقة، التي اقتطعها المتخيل الثقافي العربي، في الماضي القريب، للثقافة العربية وتحديثها. شعراء من المغرب العربي وما كتبوه باسم قصيدة النثر وبغيرها من الأسماء، نقاد وباحثون، لا مكان لأي منهم في الدعوة، الاحتفال، الاحتفاء والتكريم. حتي عبد القادر الجنابي ( المدعو الغائب) لم يعثر في ما كتبه شعراء المغرب العربي علي قصيدة واحدة تستحق أن تدرج ضمن القصائد النموذجية التي اختارها لشعراء يمثلون برأيه هذه القصيدة. مكان المغرب العربي كان مبعدا عن المتخيل الثقافي العربي في القديم القريب. وهو لا يزال. تلميحٌ صديقٌ من أمجد ناصر وجمانة حداد يتضامن مع شعراء من المغرب، المغرب العربي، ومع آخرين من المشرق (قاسم حداد، بندر عبد الحميد، سيف الرحبي، سليم بركات، عبد المنعم رمضان، بول شاوول، حلمي سالم، من بين آخرين). تلميح أسميه صديقاً لأنه لم ينس مغاربة ولا مشارقة، لأنه يدافع عن فكرة جديدة عن العالم العربي، مثلما أدافع عنها أنا الآخر. مشرق غائب (ومن داخل بيروت نفسها) من دعوة تختار فكرة عن القصيدة تنتمي إلي الماضي ، بما هي دعوة تعترض علي القبول بالتعدد والاختلاف. صوت واحد يبدأ المؤتمر لينهيه. تلك هي أيضا العودة إلي الماضي بوعي لا نقدي، ينفر من زمن القصيدة، اليوم، ومعرفتها، اليوم، عربيا وعالميا. علي أن عدم توجيه دعوة لأي شاعر من خارج الدائرة المغلقة للمشرق يؤكد بدوره أن فكرة المؤتمر لا تجيء من المستقبل، ويؤكد أن المغرب، المغرب العربي، هناك لا يزال، منطقة غير مرغوب فيها ككل. داخل أسوار ذلك الماضي، معتقـلة. دعوة واحتفاء وتكريم هناك، صمت هنا. وأنا لهذا الصمت أنتصر، كما كان ابن عربي في “رسالة الانتصار” وقف، في الماضي، إلي جانب المتصوف المغربي الشيخ أبي عبد الله الفاسي المعروف بالصيقال وقد صمت عن الجواب علي أسئلة كان طرحها عليه عبد اللطيف بن هبة الله البغدادي. رد ابن عربي صمتَ المتصوف المغربي إلي موانع أربعة. وأنا اختار المانع الرابع لأنه يعلل به صمت الشيخ عبر النظر إلي المغرب كمكان مولود من رحم الليل. لذلك كتب أن”فتح المغرب لا يجاريه فتح” وأن فتحه “فتح أسرار”. لسنا في زمن ابن عربي. ومعني الانتصار، في خطابه، تكسوه طبقات عليا من الرمزية ليس هنا سياقها. وأنا، بانتصاري لصمت المغرب، المغرب العربي، لا أنتصر للمغرب علي المشرق. إنني بالأحري أنتصر للفكرة المفتوحة علي الفكرة المغلقة، للوعي النقدي، الذي لا يعنيه الماضي إلا بمقدار ما تكون للماضي قوة القدوم من المستقبل، علي الوعي الأصولي، الذي يريد عودة الماضي ذاته أو العودة إليه.زمني هو زمن المغلق، زمن الوعي غير النقدي. وهو، في الوقت نفسه، زمن القصيدة في المغرب، المغرب العربي، وزمن الشعر العالمي في المغرب، المغرب العربي. ذلك ما يجب إدراكه. فالمغاربيون، منذ السبعينيات، ترجموا ونشروا أهم النظريات الشعرية في القرن العشرين. وهم كانوا المنجزين لدراسات فتحت طرقاً مجهولة في قراءة الشعر العربي الحديث وفي التنظير له، وكانوا أول من أنشأ بيتاً للشعر في العالم العربي وأول مهرجان عالمي للشعر علي أرض عربية، فيه يلتقون مع شعراء من أقصي الأرض إلي أقصي الأرض. والشعراء، الذين لم يعثر أي واحد منهم علي مكانه في دعوة بيروت، يهاجر شعرهم اليوم بين لغات لا حصر لها وبين مهرجانات في العالم.المغاربة، المغاربيون، يختارون صمتا هو فتح الأسرار. به يؤالفون بين المغرب والمشرق. وبه ينادون علي أصدقائهم المشرقيين. يهيئون لاستضافتهم، والاحتفاء بهم وتكريمهم. دعوات لا تتوقف. بيوت مفتوحة الأبواب. ابتهاج يمتد ليل نهار. هذا هو المغرب، المغرب العربي. وأنا أعلم أن شعراءه، نقاده وباحثيه، يفعلون ذلك دفاعا عن فكرة جديدة عن العالم العربي، عن ثقافته ومستقبله. وهم في صمتهم يقاومون. صمت لا يبلغ مقصده إلا أهل الذوق، من اًصحاب العلم العرفاني بما نحن فيه وما نحن إليه سائرون. صمت أقسي من الكلام، في زمن نفتقـد السؤال عما نفعل ولماذا نفعل وكيف نفعل. صمت هو تجربة الإقامة في الزوابع، علي حافة الخطر، بجسد كله عيون. صمت هو سيد الكلام. 13مؤتمر عن قصيدة النثر في بيروت نسي الاحتفاء ببودلير وتكريمه، بخلاف ما فعله بودلير وهو يحتفي بشاعر صغير (قاصر) تعلم منه كيف يكتب قصيدة النثر. ولأن بودلير أحد أساتذتي الكبار، علي يديه حاولت أن أتعلم (هل تعلمت؟) القـياس والحرية في آن، فأنا رمزيا أحتفي به، هنا، وأكرمه، شاعراً بحث عن قصيدة جديدة وفكرة جديدة للقصيدة، لأجل زمن جديد. باسم قصيدته كتب شعراء عرب قصيدة النثر العربية، وباسمه أدافع، اليوم، عن المعرفة بها في زمنه وفي زمننا، مثلما أدافع عن جميع شعرائها، مغربا ومشرقا. وأنا سعيد بأن أكون في ضيافته

كتبت هذه الكلمة.المحمدية، في 28 . 04 . 2006

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى