خيري حسن - حسن عابدين فى - ذكراه - يعترف: (أنا اللى سرقت الونش)!

(القاهرة ـ 1987)
(أنا معترف يا سيادة الريس - يقصد رئيس المحكمة - معترف بكل التهم.. وبأي تهم تحبوها.. أنا معترف بكله.. (وكله على كله )..وأما تشوفه قوله.. أنا اللى زورت الدولارات، وبعتها فى السوق السودة. وأنا اللى هربت السموم البيضا، وحرقت القاهرة، والأوبرا، وقصر الجوهرة! وأنا اللى سرقت مجوهرات أسرة محمد على. وأنا المسئول عن الانتخابات، وعن الترشيح بالقايمة، والنايمة، والواقفة، والقاعدة. وأنا المسئول عن أزمة الإسكان، والمواصلات، والتليفونات! وأنا المسئول عن الإكراميات، والمحسوبيات، والاستثناءات، والانتدابات، والشرابات، والفانلات!
وأنا المسئول عن معاهدة 36 وعن حرب 56 وعن الحرب فى اليمن، وعن ميزانية مصر اللى راحت فى اليمن. وأنا المسئول عن الحرب فى الكونغو. أنا المسئول عن هزيمة 67. وأنا المسئول عن الصرف فى البر والبحر والجو! وأنا اللى سرقت الونش ـ هو ونش عملاق كان من معدات العمل فى حفر مترو الأنفاق خط "حلوان ـ المرج" وسُرق من ميدان التحرير، أثناء العمل عام 1987 ـ أيوه أنا اللى سرقت الونش.. ومتقلش آيه اديتنا مصر؟) كانت هذه اعترافات "عبد الصبور أفندي" المواطن المصري الذى لعب دوره ببراعة، وإتقان الفنان حسن عابدين فى مسرحية "ع الرصيف" مع الفنانة سهير البابلى وعرضت فى شهر مايو 1987. وبعد مرور 3 سنوات على هذه الاتهامات أو الاستفسارات أو الاستغاثات التى أطلقها فى المسرحية، ولم يجد لها إجابات.. مات.
لقد رحل الفنان حسن عابدين ـ اليوم ذكري وفاته ـ دون أن يعرف من هو المسئول عن كل هذا.. وما هو غير هذا.. ومن هو (هذا ) الذى سرق الونش!
***
(حى الدقى ـ 1979 )
- شفيق يا راجل
- أيوه.. يا ابنى شفيق مين؟
- شفيق.. القصير.. التخين.. الطويل؟
- يا ابنى مش عارفه.. فكرنى بيه كده؟
- شفيق ياااا راجل!
نحن الآن أمام العرض المسرحى «عش المجانين».الجمهور يستعد للوقوف استعدادًا لتحية أبطال العرض. يدخل الفنان حسن عابدين. التصفيق مدوٍ. الرجل من فرط تواضعه يكاد يبكى، وينحنى احترامًا وإجلالًا وتقديرًا للجمهور. بعد ساعات سيغادر القاهرة، متجهًا للسعودية لأداء العمرة..وقد كان!
***
( المدينة المنورة ـ 1979)
بدأ حسن عابدين يلف بجوار قبر الرسول. اقترب منه، وتوقف أمامه. وجلس بجواره ثم رفع يديه بالدعاء. ودعاء وراء دعاء، دموعه بدأت تتساقط، ومع صوت نحيبه بدأت تنهمر. بعد دقائق اقترب منه حُراس الأمن.
- من هذا أخى الكريم؟
- رد زميله، بعدما اقترب منه قليلاً: هذا ممثل مصرى.
- قال: ممثل.. إيش؟! ابعده لا تجعله يقترب! وبالفعل نفذ فرد الأمن الأوامر. الآن حسن عابدين يُبعد من المسجد النبوي.. لماذا؟ لأنه.. ممثل!
***
( مصر الجديدة ـ بعد عدة ساعات )
على أول طائرة عاد الرجل للقاهرة.. مصدوماً، ومهموماً، والصدمة، والهم، والحزن جعله يتخذ قراره الصعب. والقرار هو «اعتزال التمثيل»! فى منزله، رن جرس التليفون.
- ألوه.. أنا محمد نجم. حمد الله على سلامتك يا أستاذ، جمهورك فى انتظارك. «هه.. هنشتغل إمته»؟
ـ رد: يا نجم.. لن أعود للتمثيل مرة أخرى.. سأعتزل!
ـ طيب والمسرحية، والنجومية، والستارة، والجمهور، والشهرة.
- يرد: قلت لن أعود للتمثيل، ابحث عن فنان آخر يؤدى الدور. محمد نجم يحاول تلطيف الأجواء، و«يقلبها» هزار ويداعبه قائلًا «طيب.. وشفيق.. شفيق.. ياااااا راجل»!
ـ يرد بلهجة صارمة، حازمة.. لو سمحت يا نجم.. كل شىء انتهى! ثم يضع السماعة..ويغلق الخط.
مر على هذا القرار 30 يوماً تقريبا. الرجل لا يفعل فيها؛ سوي تأدية الصلاة فى المسجد والعودة للبيت. وما بين مشوار المسجد والبيت، لا يوجد فى ذهنه سوى جملة حارس الآمن السعودي، وهو يقول لزميله: «آيش ممثل.. شوى جاى يسوى هنا.. ابعدوه ! »
***
فى هذه الفترة كان يتردد عليه صديقه الحميم الفنان الراحل «إبراهيم الشامى»، وذات يومًا قال له «ما تيجى يا حسن نزور الشيخ الشعراوى، ونصلى معه الجمعة.
ـ طبعاً.. ياريت!
ـ وفى حضرة مولانا الشيخ حكى «إبراهيم الشامى» حكاية حسن عابدين، وقراره باعتزال الفن. قال الشيخ: «وإذا اعتزلت.. أنا أتفرج على مين؟ » تبسم وجه الفنان حسن عابدين وقال:«يا مولانا.. هو حضرتك بتتفرج علىَّ؟ »
ـ طبعاً.. أنت طالما تقدم فنًا يفيد الناس، كلنا بالطبع نشاهده. وأنت إذا تركت مكانك، سيأتى غيرك ويقدم فنا مبتذلاً، لا معنى له.
يا مولانا - الشيخ يقول للفنان - عد لفنك طالما تقدم فيه ما ينفع الناس، وأكمل مشوارك، واحكم بنفسك على ما تقدمه. فتهلل وجه «حسن عابدين» فرحاً، فهو يحب التمثيل.. ويحب طاعة الله أيضاً. فى هذا الجو الصادق الودود، يبتسم الفنان ابراهيم الشامى ويقول «خلاص.. يا أبوعلى.. فكها بقى يا أخى» ثم قال وهو يضحك: «شفيق.. ياااا راجل»! فيضحك الثلاثة معاً، ومن هنا بدأت صداقة الفنان حسن عابدين بالشيخ الشعراوى، والتى امتدت ولم تنقطع إلا بالرحيل. ***
( مصر الجديدة ـ 2016 )
التقيت ذات مرة مع ابنه طارق ـ رحل منذ سنوات ـ حتى أعرف منه حسن عابدين الإنسان؟ قال: كان القوة والتواضع، والشدة واللين، والقسوة والطيبة، والنرفزة والهدوء. كان كل هذه الأشياء معا. كان يبكى مثل الأطفال ـ ونقف نحن أولاده فى حالة دهشة من مشهد بكائه ـ إذا شاهد طفلًا يبكى، أو شاهد رجلًا مسنًا يمد يده. أو شاهد أمًا تحمل أطفالها وتقف تبيع ورق مناديل فى اشارة مرور. أو زار مريضا. وكان عندما يقرأ القرآن يبكى.. وبشدة.
***
(محافظة بنى سويف ـ 1931 )
فى هذه المدينة التى تقع شمال الصعيد ولد يوم 21 أكتوبر من ذلك العام. وبدأ نشاطه الفنى عام 1972 وحقق فى السنوات القليلة التى ظهر فيها ما لم يحققه غيره من نجومية وشهرة. وأجاد أدوار الأب المصرى الحنون، والموظف المطحون، والإنسان الذى يبحث عن القيم، والأخلاق. هرب من حكم إعدام صدر ضده، وهو فى سن الـ 17 عاماً، بعد انضمامه للمقاومة الفلسطينية عام 1948 وقتله اثنين من الصهاينة، ولم يخرج من المحكمة؛ إلا بعدما هدد فدائى آخر بنسف مبنى المحكمة، إذ لم يُفرج عنه. وقتها أصدر القاضى أمره، بخروج كل من بالقفص، لينجو من حكم الإعدام!
***
( مصر الجديدة ـ 2016 )
عدت للابن طارق وقلت: يسأل الناس.. لماذا ظهر على الساحة متأخراً؟ قال: هو كان يقول: أنا ظهرت فى الموعد والزمن المقدر لى الظهور فيه، فهو كان يؤمن بالقدر خيره وشره. أما من الناحية الحياتية والمهنية، دعنا نعد إلى الوراء قليلًا لنعرف أن «جدى» رفض مبكرًا فكرة التحاقه بجامعة القاهرة، خوفًا من أن يلتحق بالتمثيل، سواء بالدراسة أو بالممارسة، فبعدما أنهى المرحلة الثانوية، فرض عليه «جدى» حصارًا شديداً، حتى لا يغادر بني سويف. وقال له: ستكون أنت المسئول الأول عن زراعة أرضنا، وبالفعل لم يرفض ـ رغم أنه قاوم فى البداية ـ وبدأ يمارس المهام التى طلبها منه أبوه، فهو لم يكن يقبل أن يرفض لأبيه طلباً. وتأجل حبه للتمثيل سنوات أخري. وذات يوم جاءت الفرصة من خلال فرقة المسرح العسكرى التى كانت تجوب المحافظات، وفى زيارة لها لبنى سويف، جلس فى انتظارها. وبعدما شاهد عرض الفرقة طلب منهم الالتحاق بها، وبالفعل تمت الموافقة. وقتها شعر بأن حلمه سيتحقق من خلال هذه الفرصة، التى بدأ مشواره معها، ومنها انتقل إلى كبرى مسارح القاهرة، لدرجة أننى يومًا كنت معه وأنا طفل ووجدت نفسى أمام يوسف بيه وهبى.. وأذكر وقتها أنه قال لى" والدك ممثل عظيم"! ***
( القاهرة ـ 1994 )
- أنا وأنت وبابا.. فى المشمش
- ارسم لى مرايا.. فى المشمش
- طب قولى أنا جاى..فى المشمش
- هات لى البوتاجاز.. فى المشمش
- وسرير هزاز.. فى المشمش
- طب لمبة جاز.. فى المشمش.
كانت هذه الكلمات التى تغنت بها الفنانة فردوس عبد الحميد، فى تتر مسلسل «أنا وإنت وبابا فى المشمش»، الذى لعب بطولته معها، وحارب من خلاله الفساد فى مشروع قرية طعمة السياحية، مثلما حارب القبح، والمحسوبيات، وفساد الذمم، والنفاق، والظلم ، والتدهور الأخلاقى والاجتماعي فى أغلب ما قدمه حتى رحيله.
***
( مجلة الكواكب ـ 1985 )
عدت لحديث أُجراه للمجلة فى ذلك العام، رد فيه على سبب ظهوره متأخراً فى التمثيل قائلاُ: أنا راضى بالتوقيت الذى وصلت وظهرت فيه، ثم إن «الفقاقيع» التى على الساحة الآن هى التى تتصدر المشهد. ومن الممكن أن تسألنى ولماذا تصعد «الفقاقيع» على السطح؟ فأقول لك المسألة حظ ونصيب، وأنا نصيبى أخذته.. والحمد لله. ثم قال: والمجتمع فى كل المهن والتخصصات يصعد فيه على السطح من لا يستحقون الصعود، ويختفى فيه من يستحقون الظهور"!
***
( مصر الجديدة ـ 1989 )
قلت للابن طارق: أنت كنت معه أيام مرضه فى رحلة علاجه بالداخل والخارج؟ قال: نعم .. بعدما شعرنا بقسوة المرض وصعوبة العلاج هنا قررنا السفر إلى لندن. وأذكر أننى كنت أتلقى باستمرار مكالمات تليفونية من كافة أرجاء الوطن العربى، الجميع يطمئن عليه، لكن كانت مكالمة الشيخ محمد متولى الشعراوى هى الأكثر سعادة له، فالشيخ كان يوماً بعد يوم يتصل ويسأل ويقول لى: «مولانا عامل إيه؟» فأقول لأبى مولانا يقول كذا.. فيبتسم، ويقول: «بارك الله لنا فى الشيخ.. بقى أنا برضه اللى مولانا».. ***
( لندن ـ المستشفى ـ بعد عدة أيام)
يكمل الابن قائلاً: يوم الوفاة.. جاء الطبيب وبدأ يراجع التحاليل والتعليمات ومسار الأدوية، وكنت أنا أترجم لأبى.. ولحظة بعد لحظة.. ودقيقة بعد دقيقة.. بدأ لا يسمع للطبيب ولا يسمع لى.. أقول: بابا.. فلا يرد، يا حاج لا يسمع. يا مولانا.. لا يتحرك له ساكناً، فأدركت - أو تخيلت - أنه يموت والروح تخرج منه فى تلك اللحظة، فألهمنى ربنا أن استنطقه الشهادة.. فوجدته يردد معى.. ثم سكت.. ومات! ***
( المستشفى ـ بعد مرور 30 دقيقة تقريباً )
جلست فى الحجرة لا أعرف ماذا أفعل؟ كنت مازلت شاباً، وخبرتى بالحياة قليلة، والموقف بالنسبة لى كان صعباً، ووسائل الاتصالات لم تكن كما هي الآن. ثم فجأة رن جرس الغرفة. رفعت السماعة.
ـ ألوو.. السلام عليكم.. صحة مولانا عاملة إيه؟ هذا صوت الشيخ محمد متولى الشعراوى.. قلت: البقاء لله يا فضيلة الشيخ.. كان هو أول من اتصل بى بعد الوفاة بدقائق.. وكأنه كان يشعر بنهاية حياته! عدنا للقاهرة.. وكان فى انتظارنا.. ومن المطار إلى المسجد.. حيث عشرات بل مئات المصلين.. يتقدمهم الشيخ الشعراوى. ****
«إن خروج الجنس البشرى من هذه الدائرة المغلقة.. متوقف على خلاص "حارة المناديللى".. وبالدرجة الأولى متوقف على خلاص العالم الثالث الذى هو متوقف على كل ما يعانيه كل واقع الجنس البشرى» تلك الكلمات كانت رسالة من "رياض عبد ربه" مدرس الفلسفة الذى لعب دوره عام 1983 فى مسلسل «نهاية العالم ليست غداً» فهل استمع له أحد.. وهل يتذكر كلماته اليوم أحد؟! لقد عاش ومات حسن عابدين يحاول تصحيح اتجاهاتنا.. ويضبط نظر بصائرنا.. ويحاول إحياء ضمائرنا.. لكنه فيما يبدو رحل ونحن ما زلنا - كشأن سكان العالم الثالث - لا نعرف أننا بأيدينا نحفر مقابرنا. وربما كلماته التى قاله فى مسلسل «أهلا بالسكان» تؤكد هذا المعنى. أليس هوالقائل بإحساسه الصادق:
( لفيت وجيت وهسكن
- مش لاقى حل تاني
- إيه يعنى خلاص يا عالم
- خلاص مفيش مكان)
وبالفعل.. رحل حسن عابدين.. وهو يدرك أنه ليس له بيننا مكان، فنحن نكذب.. وهو صادق، ننافق.. وهو واضح.. نساند الباطل ـ أحياناً ـ ضد الحق؛ وهو يساند الحق ولا يساند الباطل. لذلك رحل وتركنا مع الباطل.. ليسكن هو فى دار الحق، ونظل نحن فى مشاويرنا، نتأرجح ما بين الباطل والحق.. مفروض علينا الاختيار.. أما هو فقد اختار..!
خيري حسن
القاهرة ـ نوفمبر ـ 2020




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى