أحمد رجب شلتوت - حفنة صور وذكريات.. قصة قصيرة

مهداة إلى روح أبي، ومن محاسن الصدف أن تنشر يوم 24 أكتوبر، في ذكرى معركة كان أحد جنودها.



_ ما شفتش عم رجب؟
ثلاثون عاما مضت ولم يمل سامي توجيه السؤال لكل من يلتقيه من رفاق اللواء 25 مدرع، الصدفة وحدها تتيح له لقاءات عابرة ببعض من بقي منهم، وحده عدلي من امتلك جوابا، جمع بينهما مؤخرا مقر عملهما الجديد بعد عقدين من الشتات أعقبا التسريح من الجيش.
_ شفته صدفة من كم سنة، في الدوادمي.
لم يعقب سامي، نظر له مستغربا، فأوضح عدلي:
_ الدوادمي بلدة سعودية بالقرب من الرياض، في وسطها ميدان، بمثابة مفترق طرق، قصدته خلال عودتي من إجازة لأستقل سيارة منه إلى الطائف، يومها انتظرت وصول السيارة، لأكثر ساعتين قضيتهما متسكعا في البلدة، وهناك قبل وصول السيارة بدقائق لمحته، يعمل في أحد المحلات المطلة على الميدان، تعانقنا وشربت معه الشاي، ثم تعانقنا ثانية قبل أن تتحرك السيارة، ولم أره بعدها.
***
كنت أنتظرهم، في الوقت المحدد بالضبط حضروا، فتحت الباب مع أول دقة للجرس، قال الجار الذي أحضرهما:
_ كأنك يا أحمد كنت واقفا خلف الباب
قال أحدهما وهو يمسح العرق عن صلعته بمنديل ورقي:
_ كأنك عم رجب قبل ثلاثين عاما.
علت وجه الثاني ابتسامة وهز رأسه مؤمنا، وقال جارنا:
_ ألم أقل لكما، أحمد صورة من أبيه
أشار لهما:
_ عمك سامي وعمك عدلي زميلا أبيك في حرب رمضان.
ودعهما وانصرف رافضا الدخول، أكد على أن مهمته انتهت بإحضار الضيفين، تقدمتهما إلى غرفة أبي، كان جالسا في فراشه، تعلو وجهه ابتسامة، رأياه فغاضت ابتسامتيهما، هرعا إليه، احتضناه كل من جانب، ثم انفجروا جميعا في بكاء مرير.
خلعا نظارتيهما، ومسحا دموعهما وهما يسمعان حكاية أبي عن جلطة فاجأته يوم عيد الفطر الماضي، بعد صلاة العيد قضم كعكة ثم رشف رشفة شاي واحدة، شعر بعدها أن يده تنوء بحمل الكوب، الذي سقط فاستشعرت ساقه سخونة الشاي الذي بلل جلبابه، بعدها غاب عن الوعي.
قاوم الأصلع نوبة بكاء ثانية:
_ اليد التي أنقذتني من الموت تعجز عن حمل كوب شاي.
صمت فأكمل صديقه الحكاية وهو يتضاحك محاولا تبديد الأسى:
_ لما انتهت الغارة تعثرت في بيادة سامي، الغارة الكثيفة زرعته في الرمل زرع بصل، شددناه أنا وأبيك حتى أخرجناه من الرمل، عم رجب أفاقه، وحمله على كتفه وكأنه جدي صغير.
عاود سامي احتضان أبي وبكي، ضمه أبي وربت على ظهره:
_ اجمد يا جندي، أنا خلاص عديت الأزمة ويدي تخبط ظهرك بقوة.
غادرتهما لأعود بصينية الطعام، وضعتها في منتصف الحجرة، حاولا رفعها إلى الفراش ليشاركنا أبي الطعام، وهو حاول أن يثبت لهما أنه استعاد عافيته، أبعد الغطاء عن ساقيه، وزحف مقتربا من حافة الفراش، جاهد ليقف، هرعا إليه خشية أن يسقط، سنداه كل من ناحية، خطوتين فقط بين السرير والصينية، خطاهما مجرجرا قدميه، بدا التأثر واضحاعلى ملامح الضيفين، سامي قبل كتفه، أجلساه بينهما، وجلست قبالته.
***
مازال أبي يحتفظ بقوة ذاكرته، اكتشفت أنها تمتلئ بأسماء الشهداء، اختلطت أسماؤهم بكلمات اللواء 25 مدرع والسويس وجبل عتاقة والحصار، هم أيضا لم ينسوا، ضحكوا كثيراً وهم يتذكرون زملاء المعسكر ونوادرهم، استطاعوا استعادة الحكايات بتفاصيلها الدقيقة، قد يختلف أحدهم حول اسم القائل أو الفاعل لكن يتفقون على الحكاية بتفاصيلها، ضحكوا كثيرا، لم يكن أبي قد ضحك منذ داهمته الجلطة، وجاء زميلاه فاستهلك كل موفور ضحكه، فاستعادت الملامح أساها، أشار إلى صورته بالزي العسكري معلقة على الجدار:
_ لم يبق من تلك الأيام إلا حفنة صور وذكريات.
يريه عدلي صورا يخزنها على الموبايل، التقى في الطائف بالأحول والحلاق، عيسى الأحول طوال فترة تجنيده وهو يلعن حظه الذي أوقعه في عميان فحصوه ورأوه لائقا للتجنيد، وبيومي الحلاق يشبه الممثل الكوميدي عبدالمنعم إبراهيم، يقول إنه من أبناء عمومته، لا يزال يقلد ضحكته وطريقته في التحدث بالفصحى، عام كامل قضياه معا في الطائف وهو يحلق لعدلي بالمجان، يشرق عدلي ويسعل حتى تدمع عيناه وهو يحكي عن فضه لخناقة بين الأحول والحلاق، حضرها بالصدفة ذات غداء في مطعم يعمل به الأحول، طلب الحلاق دجاجا فأحضر الأحول دجاجة وحيدة الورك، طلب الحلاق استبدالها ورفض الأحول ليقينه من أن بيومي لن يستطيع التهام الدجاجة كاملة.
***
يعيد أبي الترحيب بضيفيه يكرر المثل: مصير الحي يتلاقى، يتذكر لقاء وحيدا جمعه بموسى الأبيض، أيضا كان عائدا من إجازة، ينتظر سيارة تقله إلى وجهته، كان يرتدي العقال والغترة فلم يعرفه أبي، لكن الأبيض عرفه وعانقه هاتفا باسمه.
يتخلى سامى عن صمته، يمسح نظارته بمنديل وصلعته بآخر:
_ شكلك لم يتغير كثيرا يا عم رجب، فقط زاد بياض شعرك
يسترسل سامي محصيا الصدف التي جمعته ببعض رفاق الجبهة، مرات ليست كثيرة آخرها قبل شهور ذهب إلى بني سويف للمشاركة في تشييع جثمان والد زميل، هناك رأي الصول عوض عطوة، كان يجر حصانا مربوط إلى عربة كارو محملة بالبطيخ. الحصان العجوز يمشي متثاقلا، بينما عوض ينادي علي البطيخ بصوته المبحوح، تحاضنا وسأل كل منهما الآخر: ما شفتش عم رجب؟
يصمت سامي فيكمل عدلي:
_ أحد الزملاء سألنا عمن يكون هذا الرجب الذي لم يره أحد، ذكرنا اسمك كاملا، فقال: أنا شفته.
لم يحك الجار عن مرض أبي، فقط زارنا في المساء ليبلغنا برغبتهما في الزيارة، واليوم أوصلهما، ولما فاجأنا المساء التالي بحلوله انتبه الضيفان إلى أن الوقت سرقهما، فقاما ليعاودا عناق أبي، الذي أصر على استبقائهما، تعللا بحلول المساء وبعد المسافة فأصر على مرافقتهما حتى الباب، وظل يلوح لهما حتى اختفيا، وحينما أعدته إلى غرفته توقف أمام صورته القديمة وفاض الدمع من عينيه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى