- رسالة من د.شاكر خصباك إلى د.عبد العزيز المقالح
أخي العزيز، الشاعر الكبير/ الدكتور عبد العزيز المقالح..
لقد سألتني أن أحدثك عن علاقتي بالمجلات الأدبية خصوصاً، والأدب عموماً. ولكن قبل أن أحدثك عن ذلك، أود أن أطرح سـؤالاً يتردد في أعماقي دوماً: هل الفن -بمختلف أشكاله- إحدى غرائز الإنسان، شأنه شأن غرائزه الطبيعية الأخرى؟ أم أنه من نزواته العارضة؟ وأنا شخصياً لم أصل إلى جواب لهذا السؤال. ولعل غيري قد توصل إلى الجواب. وأصارحك يا أخي الدكتور عبد العزيز بأنني كثيراً ما وجدتُني أصل إلى الاعتقاد بأن غريزة الإنسان الفنية لا تقل سطوة عن غرائزه الأخرى، بدليل أنها رافقته منذ تبلورت شخصيته وانفصل عن الحيوان وانتقل إلى مرحلة ما نسميه (مرحلة الإنسان العاقل) Homo Sapience، وهي المرحلة التي بلغ فيها حجم مخه درجة النضج (2500سم3). في هذه المرحلة هجر الإنسان السكنى في العراء، واتخذ الكهوف سكناً له، وعرف أول صورة من صور المجتمع البشري. وفي هذه المرحلة مارس الإنسان غريزته الفنية، وتمثلت ملامحها في الرسوم التي خلَّفها لنا على جدران الكهوف. ولا ريب في أنه مارس أيضاً صوراً أخرى من صور الفن، تتمثل بممارسته للموسيقى والغناء.
أما صور الفن الأخرى، كالشعر والحكاية، فقد مارسها في وقت لاحق، بعد أن تقدم في مدارج الرقي. ولدينا نصوص متفوقة من الشعر والحكاية والنصوص الدينية، يعود تاريخها إلى ما يتجاوز السبعة آلاف عام في الحضارتين المصرية والعراقية.
أستخلص من هذه المقدمة أن ممارسة الفن بأشكاله المختلفة ليست نزوة طارئة من نزوات الإنسان، يختص بها أناس معينون؛ بل هي غريزة من الغرائز التي لحقت به منذ تميز عن عالم الحيوان. وكل ما في الأمر أن طائفة من البشر طوروا تلك الغريزة لديهم ومارسوها بشكل من الأشكال (فنوناً تشكيلية أو موسيقى أو غناء أو أي لون من ألوان الكتابة الأدبية)، وآخرون أهملوها، لسبب أو لآخر، فضمرت لديهم وضعف دورها في حياتهم. وخلاصة القول: إن ممارسة الفن بأشكاله المختلفة ليست قدراً يختص به أناس معينون، بل رعاية لهذه الغريزة البشرية.
ويبدو لي يا أخي الدكتور عبد العزيز أنني كنت ممن وفَّرت له ظروف حياته رعاية هذه الغريزة وتطويرها. ففي وقت مبكر من حياتي (وبالتحديد منذ كنت في السادسة من عمري، وكنت في الصف الثاني الابتدائي) بدأتُ برعاية هذه الغريزة عن طريق قراءة المجلات المخصصة للأطفال، واستهواني ما تضمنته من حكايات ساذجة. وهكذا تعرفت على مجلة (سمير التلميذ) التي كانت تصدر في مصر. إذن بوسعي القول: إن هذه المجلة هي معلمي الأول في فن القصة، وهي التي عززت في نفسي حب الأدب. وفي وقت مبكر أيضاً أسلمتني مجلة (سمير التلميذ) إلى مجلة أخرى هي مجلة (الرواية) المصرية، التي كان يصدرها الأستاذ أحمد حسن الزيات، في الثلاثينيات من القرن الماضي، وكنتُ يومذاك قد بلغت الصف الخامس الابتدائي. ومعنى ذلك أنني قمت بقفزة نوعية من حياتي الثقافية؛ فلا مجال للمقارنة بين مجلة (سمير التلميذ) الخاصة بالأطفال وبين مجلة الرواية التي كانت تشتمل على قصص هي من عيون الأدب العالمي. وإنني لأعجب، وأنا أستذكر تلك المرحلة من حياتي الآن كيف تسنى لي القيام بتلك القفزة النوعية خلال سنوات قلائل. ومما يحيرني أيضاً أنني لا أتذكر أية مجلة وسطية بين هاتين المجلتين. ولابد لي أن أؤكد هنا أنني تتلمذت في الأدب القصصي على أقلام مجلة (الرواية)، وأن فضلها عليّ لا حدود له. وبهذه المناسبة أُحيِّي المرحوم أحمد حسن الزيّات على ما أسدى للأدب العربي من خدمة لم تقتصر على إصدار مجلة (الرواية) بل وإصدار زميلتها مجلة (الرسالة)، العظيمة أيضاً، التي تتلمذ على أيدي كتّابها أجيال عديدة من الكتّاب والمثقفين العرب.
وفي مرحلة الدراسة الإعدادية بدأت أتابع المجلات الثقافية والعربية عموماً، فضلاً عن الصحف اليومية التي كانت تخصص أبواباً للأدب. لكنني لا أستطيع القول إنني أدين لإحداها بفضل كبير عليَّ.
وأعود مرة أخرى إلى رصد مجلتين أدين لهما بالفضل أيضاً في مسيرتي الأدبية: إحداهما عراقية هي مجلة (الهاتف) النجفية، والأخرى لبنانية هي مجلة (الأديب).
فأما مجلة (الهاتف) فقد كان يصدرها المرحوم جعفر الخليلي، وهو كاتب قصصي. وقد أصدر بضعة كتب قصصية، لعل من أبرزها (في قرى الجنّ). وهو يصنف في العادة ضمن المرحلة المبكرة من تاريخ القصة العراقية التي مهّد كتّابها لمرحلة القصة العراقية الفنية. ومن أبرزهم: محمود أحمد السيد، وعبد المجيد لطفي، وعبد الوهاب الأمين، وعبد الحق فاضل. وعلى الرغم من أن مجلة (الهاتف) كانت مجلة أدبية عامة، لكنها كانت تعنى عناية خاصة بأدب القصة. ولا شك في أن لها فضلاً كبيراً على القصة العراقية، وقد كانت تُصدر دوماً أعداداً خاصة بالقصة ونقدها. فمن الطبيعي أن تجتذبني هذه المجلة. وقد صرتُ من كتّابها الدائمين، وذلك في مرحلة دراستي الإعدادية، وقد ربطتني فيما بعد بصاحبها صداقة لطيفة. وعلى صفحاتها تعرفت بصديقي الأستاذ عبد المجيد لطفي، الذي تفضل فكتب المقدمة لأول مجموعة قصصية صدرت لي في القاهرة عام 1948، هي مجموعة (صراع) والتي كانت قصصها قد كتبت بين أعوام 1945 و1948. وكان قد بعث إليَّ قبل ذلك رسالة يطري فيها على قصصي التي كانت تنشر تباعاً في المجلات العراقية والعربية. وقد ربطتني به صداقة متينة إلى آخر عمره المديد. وقد ظلّ يكاتبني باستمرار بعد مغادرتي وطني، العراق، وإقامتي في اليمن. وما زلت أحتفظ بالعديد من رسائله التي تُعدّ من أجمل الرسائل الأدبية.
وأما المجلة الثانية التي أدين لها بالفضل في هذه المرحلة المبكرة من حياتي الأدبية، فهي مجلة (الأديب) اللبنانية لصاحبها البير أديب. وأزعم أن هذه المجلة كانت تلي مجلة (الرسالة) المصرية في أهميتها في عالم الأدب يومذاك. ولعل أبرز خصائصها أنها كانت تشجع التيارات الحديثة في الأدب العربي، ولاسيما الشعر. لذلك كانت تعنى عناية خاصة بأدب الشباب. ولم يكن غريباً أن تشجع هذه المجلة التيارات الحديثة في الشعر، فقد كان صاحبها شاعراً مجدداً بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى. والحقيقة أن قصائد البير أديب بأجمعها كانت تخرج على النمط التقليدي للشعر العربي السائد يومذاك. وكان مجدداً بحق. ومن المؤسف أنه نادراً ما يُذكَر اليوم باعتباره من الرعيل الأول من مجددي الشعر العربي. وهذا إنكار مجحف بحقه، ولست أفهم سببه. ولا شك في أن روّاد شعرنا الحديث كانوا قد تتلمذوا بشكل أو بآخر على صفحات مجلته. وفي عقد الأربعينيات كانت مجلة (الأديب) هي الأولى بين المجلات الأدبية التي تفتح صفحاتها على مصراعيها للتيارات الحديثة للشعر والقصة. وقد ربطتني بألبير أديب يومذاك صداقة طيبة. وحينما مررت ببيروت في صيف عام 1951 عند عودتي من القاهرة إلى وطني إثر انتهاء دراستي الجامعية، دعاني إلى وليمة في بيته، حضرها بعض الأدباء اللبنانيين، وتسنى لي بذلك التعرف عليه شخصياً، فأسرني بدماثة خلقه.
في مرحلة دراستي الثانوية، وقبل سفري إلى القاهرة مبعوثاً من وزارة المعارف العراقية، انعقدت الصلة بيني وبين مجلات وصحف عديدة، في العراق ولبنان ومصر وسورية، وكان على رأسها مجلة (الرسالة) المصرية، ومجلة (الطريق) اللبنانية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي اللبناني، ومجلة (شهرزاد) التي كان يصدرها الأديب المرموق رئيف خوري. وكنت أثناء ذلك أحرص على كتمان حقيقتي عن تلك المجلات، أي حقيقة كوني تلميذاً في المدرسة الثانوية. فكانت مجلة (الرسالة) مثلاً تقرن اسمي بلقب (الأستاذ). وكذلك بقية المجلات الأخرى العربية والعراقية. وكنت في تلك المرحلة المبكرة من حياتي غزير الإنتاج، ولم يكن يمرّ أسبوع دون أن تظهر لي مقالة أو قصة في إحدى الصحف أو المجلات العراقية. بل كثيراً ما كنت أُستكتَب من قبل أصحاب المجلات للإدلاء برأيي في القضايا الاجتماعية والأدبية. وكان نقدي للكتب القصصية يلقى ترحيباً من المجلات العربية كـ(الرسالة)، و(الأديب)، وكذلك من قبل المجلات والصحف العراقية. ولذلك كثيراً ما كان الكتّاب الكبار يبعثون إليّ بمؤلفاتهم، وعلى رأسهم: محمود تيمور، ونجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحَّار، وغيرهم من الكتّاب العرب. وأزعم أنني نلت شهرة طيبة لدى القراء العرب يومذاك، وخصوصاً العراقيين، لكثرة ما كنت أنشر من مقالات. وأحسب أنني كنت أكثر شهرة كأديب منّي اليوم. وحينما أراجع الآن تلك الفترة من حياتي وأنا بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة من عمري، أعجب كيف كنت أمتلك كل تلك الطاقة الفكرية. ولم يكن نشاطي يقتصر على الكتابة الأدبية فحسب، بل كنت منغمراً في قراءة واسعة النطاق. ولم تكن قراءتي تقتصر على الأدب، بل كنت أقرأ في كل الحقول: الاجتماعية، والاقتصادية، وحتى الفلسفية. ولم أكن في الوقت نفسه بمعزل عن السياسة، بل كنت مشاركاً فيها، خصوصاً وأن تلك الفترة من تاريخ العراق كانت تشهد تحولات سياسية مهمة. وكانت مدينتي (الحِلَّة) تحفل بالنشطاء السياسيين، لاسيما ممن كان يتبنى الاتجاهات اليسارية التي كنتُ ولا أزال محسوباً عليها. وأتذكر من طرائف تلك المرحلة أنني كنت قد غادرت العراق للدراسة في مصر في أواسط عام 1948. وفي تلك الأشهر قامت حركة سياسية، وبالذات في شهر أيلول/ سبتمبر، ضد رئيس الوزراء صالح جبر، مطالبة باستقالته، لممالأته للإنجليز، أُطلق عليها اسم (وثبة 48). وأغارت شرطة الأمن على منزلنا مطالبة بتسليمي لأنني كنت أتصدر المظاهرات وأخطب فيها ضد الحكومة. ولما أخبرهم أخي الكبير أنني لست موجوداً في العراق أصلاً، وأنني أدرس في مصر، رفضوا تصديقه واعتقلوه نيابة عني لكي أسلم نفسي. وبقي أخي المذكور معتقلاً بضعة أيام حتى استطاع أحد أخوالي من ذوي النفوذ في المدينة أن يقنعهم بأنني خارج العراق فعلاً. ومما يثير استغرابي الآن أيضاً هو أن كل ذلك الانشغال والنشاط الفكري لم يصرفني عن دروسي، فكنت من الطلبة الأوائل في صفي، بدليل أنني أُرسلت في بعثة إلى مصر. وهي حقيقة سجلها الدكتور علي جواد الطاهر في مقالته عن مجموعة (صراع).
وفي أثناء دراستي في مصر كانت صلتي بالمجلات الأدبية محدودة. واقتصرت على مجلتي (الرسالة) و(الأديب) إلى حدّ كبير. فلقد شغلت بالدراسة في حقل بعيد عن الأدب، هو الجغرافيا. وكنت عازماً على التفوق فيه لكي يتسنى لي بعد نيل الليسانس (B.A) مواصلة الدراسة فيه لنيل الدكتوراه. وقد دفعني ذلك إلى تخصيص جزء مهم من وقتي لهذا الغرض، حتى أن طموحاتي العلمية شجعتني على ترجمة كتاب مهم من الإنجليزية كان قد صدر في أواخر الأربعينيات، لأستاذة الاقتصاد في جامعة لندن دورين وارنر، وكان بعنوان (الأرض والفقر في الشرق الأوسط). وكان كتاباً رائعاً، يدرس بعمق مشكلة الملكية الزراعية في بلدان الشرق الأوسط. لكنني فوجئت وأنا أقوم بالاتصالات لطبعه، بأن اقتصادياً عراقياً قد سبقني إلى ترجمته هو الدكتور أحمد حسن السلمان، الذي كان يومذاك مديراً للبنك الصناعي، وأنه قد دفعه إلى المطبعة، فأسقط في يدي وألغيت ترتيبات الطبع. والحقيقة أن وقتي لم يكن يومذاك يتسع للكتابة في الأدب، عدا هوايتي الحقيقية، وهي القصص، والتي أثمرت في سنتي النهائية من الجامعة صدور مجموعتي القصصية الثانية (عهد جديد) في عام 1951، من قبل لجنة النشر للجامعيين. لكنني كنت أخصص جزءاً مهماً من وقتي للالتقاء بمعارفي وأصدقائي من الأدباء الذين كان عددهم كبيراً. وكان هؤلاء الأدباء يتوزعون على شكل مجموعات (أو شلل). وكنت القاسم المشترك بين تلك المجموعات. فقد كان هناك محمود تيمور الذي كنت ألتقيه أسبوعياً في قهوة الجمّال في شارع محمد فريد، على ما أتذكر. وكان هناك (شلة) نجيب محفوظ التي كانت تلتقي صباح كل جمعة في كازينو أوبرا في ميدان إبراهيم باشا، وكان أعضاء هذه المجموعة الرئيسيين: نجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحّار، وعلي أحمد باكثير، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ومحمد عفيفي، وعادل كامل. ولكن كان يتردد عليها أيضاً يوسف السباعي، وأحمد عباس صالح، ومحمود البدوي، والمخرج صلاح أبو سيف، والممثل يحيى شاهين.
وكان هناك (شلة) أحمد بهاء الدين، وتضم يوسف الشاروني، وفتحي غانم، وأحمد عباس صالح، ونعمان عاشور، وعبد الرحمن الشرقاوي. وكانت تجتمع في مقاه متفرقة.
وكانت هناك ما يمكن أن نسميها (شلة) أحمد حسن الزيّات، التي كانت تجتمع عصر كل اثنين في دار مجلة (الرسالة). وكانت تضم الزيّات، وأنور المعداوي، وعباس خضر، وأفراد آخرين يختلف عددهم ولا يحضرون باستمرار، منهم توفيق الحكيم، وساطع الحصري، وإبراهيم بيّومي مدكور. وكانت هناك (شلة) تسمى باسم (الأمناء) نسبة إلى الأستاذ أمين الخولي، وكانت تجتمع أسبوعياً في شقته بمصر الجديدة. وكان أغلب الحاضرين من تلامذة الخولي ومريديه، وكانوا يدعون إلى الأدب الواقعي الذي يعنى بهموم الشعب. وكان من جملة حضورها: الدكتور عبد الحميد يونس، وأنور المعداوي، وزكريا الحجاوي. لكنني كنت دائم الزيارة والاجتماع بأدباء آخرين أيضاً خارج هذه المجموعات، من أمثال: الدكتور عبد القادر القط، والدكتور علي الراعي، وكمال منصور، وآخرين لا أتذكر أسماءهم الآن. وكنت كذلك أزور الأدباء الكبار في بيوتهم أو مقاهيهم أو مكاتبهم. وممن تشرفت بزيارته الدكتور طه حسين، وكذلك توفيق الحكيم، والدكتور زكي مبارك. ولست أدري لماذا ظللت مصرّاً على عدم زيارة الأستاذ عباس محمود العقاد، مع أنه كان يدير ندوة أسبوعية في بيته؛ ولعلي لم أكن ميالاً لأدبه. كما أنني لم أجد رغبة في الالتقاء بإبراهيم عبد القادر المازني. وكانت هذه الزيارات والاجتماعات بكبار أدباء العرب يومذاك تستنفد الكثير من وقتي، لكنها كانت تملأني متعة، وتثري من ثقافتي في الأدب واطلاعي على مجريات الساحة الأدبية.
حينما عدت إلى بلدي بعد حصولي على الليسانس في الجغرافيا من جامعة القاهرة 1951، عانيت من ضيق شديد لحرماني من ذلك الجو الأدبي والثقافي الحافل، لاسيما وأنني أمضيت صيف عام 1951 في مدينتي الحلة بجوها الأدبي والاجتماعي الراكد، في انتظار تعييني في إحدى المدارس الإعدادية أو الثانوية. وكنت أراسل أثناء ذلك بعض أصدقائي الأدباء في القاهرة. وممن كنت أكاتبهم المرحوم أنور المعداوي الذي كان يطمئنني بأنني ما ألبث حتى أنغمر في حياتي التعليمية والتي سألقى فيها بلا شك متعة جديدة. وكنت أتوقع أن أُعيَّن في إحدى مدارس الحلة، باعتبارها مسقط رأسي؛ لكنني فوجئت بتعييني في إحدى مدارس بغداد، بل في واحدة من أفضل مدارسها الإعدادية، وهي متوسطة الغربية النموذجية للبنين. وانشغلت في حياتي التعليمية الجديدة انشغالاً عظيماً، لأنني وجدتها فرصة لتلقين التلاميذ الصغار الأفكار الإنسانية التي أدين بها. ولا أبالغ إن قلت إنني كنت من أكثر المدرسين قرباً لقلوب التلاميذ مما كان يعينني في توجيههم إلى المبادئ الإنسانية والوطنية. ومما زادني قناعة فيما بعد بتأثيري فيهم الحادثة التي وقعت لي بعد ما يزيد على عشرين عاماً. ففي صيف عام 1975 قمت بزيارة سياحية إلى الاتحاد السوفييتي، بصحبة زوجتي وابنتي. وفي إحدى الأمسيات قصدنا أحد المطاعم الكبرى في موسكو. وكانت موائده مزدحمة للغاية، عدا مائدة اشتملت على ثلاثة كراسي شاغرة. فاستأذنا من شاغلي المائدة في الجلوس معهم فأذنوا لنا بذلك. وكانوا من المواطنين العرب، وكانوا يستمتعون بجو مرح. ولكن ما إن اتخذنا مقاعدنا حتى سادهم جو من التحفظ، مما أشعرنا بالحرج. وبعد دقائق التفت إليّ أحدهم وسألني: هل تتذكرني يا دكتور شاكر؟
فقلت: وهل كان بيننا معرفة؟
فقال: طبعاً! قد كنت أستاذي في متوسطة الغربية.
فقلت: لا شك أنك كنت صبياً صغيراً، فكيف لي أن أتذكرك؟
فقال: لكننا لن ننساك أبداً يا دكتور شاكر لأنك علمتنا الوطنية.
فالتفت إليّ الآخر وقال لي ضاحكاً: فلا شك إذن أنك لا تتذكرني يا دكتور شاكر.
فسألته: وهل كنت زميله؟
فأجاب: لا، لكنك درّستني في متوسطة المنصور، وأنا أؤيد صديقي، فأنت الذي علّمنا الوطنية والأفكار العظيمة، وكنت أحبّ مدرس إلى نفوسنا.
وقال الثالث: أما أنا فلن أسألك إن كنت تتذكرني أم لا يا دكتور شاكر، فأنت قد درستني في متوسطة المنصور أيضاً. ونحن لن ننساك يا دكتور شاكر.. لن ننساك أبداً.
فقلت: لكنكم لم تعرّفوني بأنفسكم.
فقال أحدهم: أنا الملحق العسكري في موسكو، ويشرفني أن أكون في خدمتك طوال وجودك هنا.
وقال الثاني: وأنا آمر الفرقة الثالثة في البصرة، وقد حضرت إلى موسكو في مهمة عسكرية. وأنا أضع نفسي في خدمتكم وإن لم أكن أعرف موسكو كما يعرفها زميلاي.
وقال الثالث: أما أنا فالمسؤول الحزبي عن العراقيين في الاتحاد السوفييتي، وأنا أيضاً في خدمتكم يا دكتور شاكر، فلا يمكننا أن نردّ لك جميلك علينا.
فقلت لهم بلهجة بين الدعابة والسخرية، وبدون مجاملة حسب طريقتي المعتادة: فإذا كنتم تعتقدون بأنني علمتكم الوطنية والأفكار النبيلة فكيف تفسرون إذاً اعتقالي في اليوم الأول من ثورتكم عام 1963(*)؟
فأجاب أحدهم: لا شك أن أكبر أخطاء تلك الثورة اعتقال المفكرين والأساتذة من أمثالك من المشهود لهم بالوطنية. ولكنك تعلم يا دكتور شاكر أن الثورات الكبرى حبلى بالأخطاء.
انشغلت إذن في أثناء سنتي التدريسية الأولى بعملي الجديد الذي صرفني نوعاً ما عن ممارسة الأدب. لكنني ما لبثت أن عدت إليه ثانية وبقوة. فقد اتصل بي في أوائل عام 1952 الدكتور سهيل إدريس بعد أن نال الدكتوراه في الأدب من فرنسا وعاد إلى لبنان وأخبرني أنه بصدد إصدار مجلة أدبية سيطلق عليها اسم (الآداب) وأنه يدعوني للانضمام إلى هيئة التحرير، وأن أكون ممثلاً للمجلة في العراق. فرحبت بدعوته. وكنت على صلة وثيقة بسهيل إدريس من عام 1946 أو 1947، وكانت واسطة تعارفنا مجلة (الأديب) البيروتية، وقد كتبت فيها عن مجموعتيه القصصيتين: (أشواق)، و(كلهن نساء)، وقد سُرَّ كثيراً لتلك الكتابة، واتصلت بيننا المراسلة منذ ذلك الوقت. وحينما سافر للدراسة في باريس كتب إليّ أنه ينوي كتابة أطروحته عن القصة العربية، وسألني المعاونة في المادة المتعلقة بالقصة العراقية. ففعلت ما كان بوسعي.
وبعد أن أبلغته بموافقتي على الانضمام إلى أسرة التحرير، كرست الكثير من وقتي للاتصال بالأدباء العراقيين وحثهم على الكتابة في مجلة (الآداب). وقد صارت مجلة (الآداب) فيما بعد منبراً للاتجاهات الحديثة في الأدب العراقي، وخصوصاً الشعر. وحينما صدر العدد الأول من المجلة، كان من جملة مواده قصتي (الكسيح)، وكانت القصة الوحيدة التي استخدمت فيها اللهجة العامية في الحوار، فجعل الدكتور سهيل من ذلك قضية للحوار.
وفي مقتبل عام 1953 وجدتني منغمراً مرة أخرى في نشاط أدبي مشابه. فقد اتصل بي ذات يوم شخص لم أكن قد سمعت باسمه من قبل، هو المرحوم الدكتور صلاح خالص. وكان قد عاد من باريس قبل شهور قليلة وهو يحمل الدكتوراه في الأدب العربي. وأخبرني أنه وجماعة من الجامعيين عازمون على إصدار مجلة ثقافية، وقد وقع اختيارهم عليّ لأكون محررها الأدبي. فرحبت باقتراحه. وبدأت العمل معهم في التهيئة لإصدار المجلة. ونشطت في الاتصال بالأدباء العراقيين وحثهم للكتابة في المجلة. وكان من جملة من اتصلت بهم الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي كان زميلي في متوسطة المنصور، وتربطني به صداقة. وكان يومذاك ما يزال شاعراً مغموراً. وقد نشرت له المجلة في عددها الأول قصيدته الجميلة (الملجأ العشرون). وكانت تلك القصيدة الواسطة التي قدمته للشيوعيين الذين كانوا يبحثون عن بديل للشاعر بدر شاكر السياب الذي انفصل عنهم وأخذ يعاديهم ولا أدري لماذا! وكان السياب شاعراً مناضلاً بحق. وقد دخل السجن مراراً، وفُصل من الكلية. وكان قد حقق منذ أوائل الخمسينيات شهرة طاغية كشاعر يساري. وإنني لأحتفظ عنه بأجمل الذكريات. وأتذكر أنني سألت الجواهري يوماً: «من خليفتك يا أبا فرات؟» فأجابني في الحال: «بدر شاكر السياب». ولعل النقطة السوداء الوحيدة في تاريخ السياب أنه هجى عبد الكريم قاسم، زعيم ثورة 14 تموز، حين سمع بإعدامه على أيدي ثوار 14 رمضان، إثر محاكمة دامت أقل من نصف ساعة، مع أن عبد الكريم قاسم، كان قد أرسله للعلاج في لندن على حسابه الخاص.
أما عبد الوهاب البياتي فكان ذا اتجاه قومي يميني، وكان منعزلاً بطبيعته وقليل الأصدقاء. كما أنه لم يحب الإسهام في المناسبات الوطنية بأي شكل من الأشكال؛ لذلك كان نكرة أثناء وجوده في دار المعلمين العالية. لكنه تحَّول بقدرة قادر إلى شاعر محسوب على الشيوعيين، وراحوا يطبّلون له ويزمّرون. ولعل الضرر الوحيد الذي أصابه جرّاء إسهامه في مجلة (الثقافة الجديدة) أنه فُصل من وظيفته وسيق للخدمة العسكرية. ويقال إنه أخبر الشاعر ناظم حكمت، حينما التقاه في موسكو، أنه كان قد صعد على المشنقة لكنه أُنزل منها في آخر لحظة، ولا أدري مدى صحة هذا القول.
ولقد صدرت مجلة (الثقافة الجديدة) في أواخر عام 1953. وكنت أحسب أنها مجلة ثقافية مستقلة، ولكن ظهر لي فيما بعد أنها واجهة علنية للحزب الشيوعي. وربما كانت السلطة تعلم بذلك لكنها لم تكن تملك دليلاً على ذلك. لذلك ما إن صدر العدد الأول منها حتى عمدت إلى إغلاقها. لكن القائمين عليها لم يلقوا أسلحتهم، وراحوا يفتشون أن يفتشوا عن (امتياز) جديد، وحصلوا عليه فعلاً، وتولى هذه المرة محام مشهور اسمه عبد الرزاق الشيخلي (والغريب أنه كان محسوباً على التيار القومي) مهمة المدير المسؤول للمجلة، وكان في الوقت نفسه عضواً في المجلس النيابي. وصدر العدد الجديد باسم (الثقافة الحديثة). وما كاد يظهر حتى سارعت السلطة إلى سحب (الامتياز) ثانية. وفكر القائمون على المجلة بطريقة أخرى يحافظون بها على اسم المجلة. وكان (مجلس السلم العالمي) قد طلب يومذاك من محبي الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف الاحتفال بمرور خمسين عاماً على وفاته. فاقترحتُ عليهم أن أتولّى إخراج كتاب عن تشيخوف، عوضاً عن المجلة. فرحبوا بذلك. فانهمكت ليلاً ونهاراً في عملي، واستطعت أن أنجز الكتاب في موعده. وقد اشتمل على مختارات من قصصه ومسرحياته القصيرة، مع دراسة عن أدبه، وملخص عن أهم المحطات والأحداث في حياته. وصدر الكتاب في مطلع الشهر، أي في موعد صدور المجلة، تحت عنوان (منشورات الثقافة الجديدة)، وكان أول منشور تصدره لمجلة (الثقافة الجديدة). وفيما بعد أصدرت ديوان (أباريق مهشمة) لعبد الوهاب البياتي، ومجموعة عبد الملك نوري القصصية (نشيد الأرض) وكذلك المجموعة القصصية الأولى لفؤاد التكرلي، عام 1954. وبهذه المناسبة أذكر أن كتاب أنطوان تشيخوف كان يومذاك من أوائل الكتب التي تصدر باللغة العربية عن تشيخوف.
واستشاطت السلطة غضباً، وأخذت تعد العدة للانتقام من المساهمين في المجلة. وتسربت إليّ أخبار الحملة المتوقعة عن طريق أحد أقربائي المتنفذين، وحثَّني على ضرورة الإفلات منها. فخطر لي أن أسافر إلى إنجلترا وأواصل دراستي العليا في الجغرافيا، وهو ما كنت أخطط له. واستطعت بالفعل أن أفلت من قبضة السلطة قبل أن تصدر أوامر التوقيف. فسافرت إلى لندن في أواسط عام 1954، ومكثت فيها حتى 1958، حيث حصلت على الدكتوراه. وقد قامت ثورة 14 تموز قبل عودتي إلى البلاد بأشهر قليلة. ومن الجدير بالذكر أن أوامر التوقيف قد صدرت بالفعل بعد سفري بقليل، وشملت: الدكتور صلاح خالص، والدكتور صفاء الحافظ، والدكتور فيصل السامر، وإبراهيم كبَّة، وعبد الوهاب البياتي.ثم سيقوا فيما بعد إلى معسكر للجيش في (خان بني سعد)، القريبة من بغداد، للتدريب على الخدمة العسكرية. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة التي شكلت بعد ثورة تموز، ضمت اسمين من الأسماء المذكورة، هما: إبراهيم كبَّة، وفيصل السامر.
هذه أبرز معالم صلاتي بالمجلات الأدبية يا أخي الدكتور عبد العزيز، والتي اضطرتني الظروف إلى التخفيف منها فيما بعد، بل إلى حد الانقطاع أحياناً. فبعد عام 1945 شغلت بدراسة الدكتوراه في الجغرافيا في إنجلترا بحيث صرت في شبه عزلة عن المجلات الأدبية العربية. وحينما عدت إلى الوطن في عام 1958 عُيِّنت مدرساً في جامعة بغداد. وقد اقتضت مني حياتي الجديدة الانصراف إلى مهمتي العلمية الجديدة التي كان لابد لي أن أخلص لها وأن أثبت جدارتي فيها. ثم عُزلت عن الجامعة في حركة البعث لعام 1963 واضطررت إلى الهجرة إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من مدير جامعتها يومذاك، الدكتور عبد العزيز الخويطر. وقد أمضيت فيها أربع سنوات أستاذاً في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود). وحينما عدة إلى الجامعة في عام 1968 شغلت مرة أخرى بعملي الأكاديمي. واضطررت إلى الانسحاب من العمل الأدبي والإسهام في المجلات الأدبية، لأن أفكاري لم تكن تتواءم وسلطة البعث الحاكمة. ثم أُحلت إلى التقاعد في عام 1980، أو على الأصح فُصلت من الجامعة، لأنني كنت يومذاك في أواخر الأربعينات من عمري ولست في سن التقاعد، فعشت في عزلة في بيتي. وقد رفضت السلطة الموافقة على طلبات الالتحاق التي وردتني من بعض الجامعات العربية. وأخيراً بعد خمس سنوات استجابت السلطة في عام 1985 لطلب جامعة صنعاء للالتحاق بها. ولا شك في أنني سعدت بالتواجد في اليمن في جامعة صنعاء؛ فقد أتيح لي العودة إلى الأدب من جديد والتعبير عن أفكاري بحرية. واستطعت بذلك أن أخرج أهم أعمالي الأدبية بما توفر لي من حرية في التعبير عن أفكاري. وقد أسرتني رعايتكم الكريمة يا أخي الدكتور عبد العزيز، كونكم مديراً للجامعة يومذاك، وهي رعاية لم أحظَ بها في بلدي مما جعلني أتمسك بالبقاء في اليمن وعدم التفكير في العمل في أي جامعة عربية أخرى. تحية عطرة لك لأنك أتحت لي الفرصة لمواصلة الكتابة الأدبية وألف شكر لك على رعايتك.
.
أخي العزيز، الشاعر الكبير/ الدكتور عبد العزيز المقالح..
لقد سألتني أن أحدثك عن علاقتي بالمجلات الأدبية خصوصاً، والأدب عموماً. ولكن قبل أن أحدثك عن ذلك، أود أن أطرح سـؤالاً يتردد في أعماقي دوماً: هل الفن -بمختلف أشكاله- إحدى غرائز الإنسان، شأنه شأن غرائزه الطبيعية الأخرى؟ أم أنه من نزواته العارضة؟ وأنا شخصياً لم أصل إلى جواب لهذا السؤال. ولعل غيري قد توصل إلى الجواب. وأصارحك يا أخي الدكتور عبد العزيز بأنني كثيراً ما وجدتُني أصل إلى الاعتقاد بأن غريزة الإنسان الفنية لا تقل سطوة عن غرائزه الأخرى، بدليل أنها رافقته منذ تبلورت شخصيته وانفصل عن الحيوان وانتقل إلى مرحلة ما نسميه (مرحلة الإنسان العاقل) Homo Sapience، وهي المرحلة التي بلغ فيها حجم مخه درجة النضج (2500سم3). في هذه المرحلة هجر الإنسان السكنى في العراء، واتخذ الكهوف سكناً له، وعرف أول صورة من صور المجتمع البشري. وفي هذه المرحلة مارس الإنسان غريزته الفنية، وتمثلت ملامحها في الرسوم التي خلَّفها لنا على جدران الكهوف. ولا ريب في أنه مارس أيضاً صوراً أخرى من صور الفن، تتمثل بممارسته للموسيقى والغناء.
أما صور الفن الأخرى، كالشعر والحكاية، فقد مارسها في وقت لاحق، بعد أن تقدم في مدارج الرقي. ولدينا نصوص متفوقة من الشعر والحكاية والنصوص الدينية، يعود تاريخها إلى ما يتجاوز السبعة آلاف عام في الحضارتين المصرية والعراقية.
أستخلص من هذه المقدمة أن ممارسة الفن بأشكاله المختلفة ليست نزوة طارئة من نزوات الإنسان، يختص بها أناس معينون؛ بل هي غريزة من الغرائز التي لحقت به منذ تميز عن عالم الحيوان. وكل ما في الأمر أن طائفة من البشر طوروا تلك الغريزة لديهم ومارسوها بشكل من الأشكال (فنوناً تشكيلية أو موسيقى أو غناء أو أي لون من ألوان الكتابة الأدبية)، وآخرون أهملوها، لسبب أو لآخر، فضمرت لديهم وضعف دورها في حياتهم. وخلاصة القول: إن ممارسة الفن بأشكاله المختلفة ليست قدراً يختص به أناس معينون، بل رعاية لهذه الغريزة البشرية.
ويبدو لي يا أخي الدكتور عبد العزيز أنني كنت ممن وفَّرت له ظروف حياته رعاية هذه الغريزة وتطويرها. ففي وقت مبكر من حياتي (وبالتحديد منذ كنت في السادسة من عمري، وكنت في الصف الثاني الابتدائي) بدأتُ برعاية هذه الغريزة عن طريق قراءة المجلات المخصصة للأطفال، واستهواني ما تضمنته من حكايات ساذجة. وهكذا تعرفت على مجلة (سمير التلميذ) التي كانت تصدر في مصر. إذن بوسعي القول: إن هذه المجلة هي معلمي الأول في فن القصة، وهي التي عززت في نفسي حب الأدب. وفي وقت مبكر أيضاً أسلمتني مجلة (سمير التلميذ) إلى مجلة أخرى هي مجلة (الرواية) المصرية، التي كان يصدرها الأستاذ أحمد حسن الزيات، في الثلاثينيات من القرن الماضي، وكنتُ يومذاك قد بلغت الصف الخامس الابتدائي. ومعنى ذلك أنني قمت بقفزة نوعية من حياتي الثقافية؛ فلا مجال للمقارنة بين مجلة (سمير التلميذ) الخاصة بالأطفال وبين مجلة الرواية التي كانت تشتمل على قصص هي من عيون الأدب العالمي. وإنني لأعجب، وأنا أستذكر تلك المرحلة من حياتي الآن كيف تسنى لي القيام بتلك القفزة النوعية خلال سنوات قلائل. ومما يحيرني أيضاً أنني لا أتذكر أية مجلة وسطية بين هاتين المجلتين. ولابد لي أن أؤكد هنا أنني تتلمذت في الأدب القصصي على أقلام مجلة (الرواية)، وأن فضلها عليّ لا حدود له. وبهذه المناسبة أُحيِّي المرحوم أحمد حسن الزيّات على ما أسدى للأدب العربي من خدمة لم تقتصر على إصدار مجلة (الرواية) بل وإصدار زميلتها مجلة (الرسالة)، العظيمة أيضاً، التي تتلمذ على أيدي كتّابها أجيال عديدة من الكتّاب والمثقفين العرب.
وفي مرحلة الدراسة الإعدادية بدأت أتابع المجلات الثقافية والعربية عموماً، فضلاً عن الصحف اليومية التي كانت تخصص أبواباً للأدب. لكنني لا أستطيع القول إنني أدين لإحداها بفضل كبير عليَّ.
وأعود مرة أخرى إلى رصد مجلتين أدين لهما بالفضل أيضاً في مسيرتي الأدبية: إحداهما عراقية هي مجلة (الهاتف) النجفية، والأخرى لبنانية هي مجلة (الأديب).
فأما مجلة (الهاتف) فقد كان يصدرها المرحوم جعفر الخليلي، وهو كاتب قصصي. وقد أصدر بضعة كتب قصصية، لعل من أبرزها (في قرى الجنّ). وهو يصنف في العادة ضمن المرحلة المبكرة من تاريخ القصة العراقية التي مهّد كتّابها لمرحلة القصة العراقية الفنية. ومن أبرزهم: محمود أحمد السيد، وعبد المجيد لطفي، وعبد الوهاب الأمين، وعبد الحق فاضل. وعلى الرغم من أن مجلة (الهاتف) كانت مجلة أدبية عامة، لكنها كانت تعنى عناية خاصة بأدب القصة. ولا شك في أن لها فضلاً كبيراً على القصة العراقية، وقد كانت تُصدر دوماً أعداداً خاصة بالقصة ونقدها. فمن الطبيعي أن تجتذبني هذه المجلة. وقد صرتُ من كتّابها الدائمين، وذلك في مرحلة دراستي الإعدادية، وقد ربطتني فيما بعد بصاحبها صداقة لطيفة. وعلى صفحاتها تعرفت بصديقي الأستاذ عبد المجيد لطفي، الذي تفضل فكتب المقدمة لأول مجموعة قصصية صدرت لي في القاهرة عام 1948، هي مجموعة (صراع) والتي كانت قصصها قد كتبت بين أعوام 1945 و1948. وكان قد بعث إليَّ قبل ذلك رسالة يطري فيها على قصصي التي كانت تنشر تباعاً في المجلات العراقية والعربية. وقد ربطتني به صداقة متينة إلى آخر عمره المديد. وقد ظلّ يكاتبني باستمرار بعد مغادرتي وطني، العراق، وإقامتي في اليمن. وما زلت أحتفظ بالعديد من رسائله التي تُعدّ من أجمل الرسائل الأدبية.
وأما المجلة الثانية التي أدين لها بالفضل في هذه المرحلة المبكرة من حياتي الأدبية، فهي مجلة (الأديب) اللبنانية لصاحبها البير أديب. وأزعم أن هذه المجلة كانت تلي مجلة (الرسالة) المصرية في أهميتها في عالم الأدب يومذاك. ولعل أبرز خصائصها أنها كانت تشجع التيارات الحديثة في الأدب العربي، ولاسيما الشعر. لذلك كانت تعنى عناية خاصة بأدب الشباب. ولم يكن غريباً أن تشجع هذه المجلة التيارات الحديثة في الشعر، فقد كان صاحبها شاعراً مجدداً بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى. والحقيقة أن قصائد البير أديب بأجمعها كانت تخرج على النمط التقليدي للشعر العربي السائد يومذاك. وكان مجدداً بحق. ومن المؤسف أنه نادراً ما يُذكَر اليوم باعتباره من الرعيل الأول من مجددي الشعر العربي. وهذا إنكار مجحف بحقه، ولست أفهم سببه. ولا شك في أن روّاد شعرنا الحديث كانوا قد تتلمذوا بشكل أو بآخر على صفحات مجلته. وفي عقد الأربعينيات كانت مجلة (الأديب) هي الأولى بين المجلات الأدبية التي تفتح صفحاتها على مصراعيها للتيارات الحديثة للشعر والقصة. وقد ربطتني بألبير أديب يومذاك صداقة طيبة. وحينما مررت ببيروت في صيف عام 1951 عند عودتي من القاهرة إلى وطني إثر انتهاء دراستي الجامعية، دعاني إلى وليمة في بيته، حضرها بعض الأدباء اللبنانيين، وتسنى لي بذلك التعرف عليه شخصياً، فأسرني بدماثة خلقه.
في مرحلة دراستي الثانوية، وقبل سفري إلى القاهرة مبعوثاً من وزارة المعارف العراقية، انعقدت الصلة بيني وبين مجلات وصحف عديدة، في العراق ولبنان ومصر وسورية، وكان على رأسها مجلة (الرسالة) المصرية، ومجلة (الطريق) اللبنانية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي اللبناني، ومجلة (شهرزاد) التي كان يصدرها الأديب المرموق رئيف خوري. وكنت أثناء ذلك أحرص على كتمان حقيقتي عن تلك المجلات، أي حقيقة كوني تلميذاً في المدرسة الثانوية. فكانت مجلة (الرسالة) مثلاً تقرن اسمي بلقب (الأستاذ). وكذلك بقية المجلات الأخرى العربية والعراقية. وكنت في تلك المرحلة المبكرة من حياتي غزير الإنتاج، ولم يكن يمرّ أسبوع دون أن تظهر لي مقالة أو قصة في إحدى الصحف أو المجلات العراقية. بل كثيراً ما كنت أُستكتَب من قبل أصحاب المجلات للإدلاء برأيي في القضايا الاجتماعية والأدبية. وكان نقدي للكتب القصصية يلقى ترحيباً من المجلات العربية كـ(الرسالة)، و(الأديب)، وكذلك من قبل المجلات والصحف العراقية. ولذلك كثيراً ما كان الكتّاب الكبار يبعثون إليّ بمؤلفاتهم، وعلى رأسهم: محمود تيمور، ونجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحَّار، وغيرهم من الكتّاب العرب. وأزعم أنني نلت شهرة طيبة لدى القراء العرب يومذاك، وخصوصاً العراقيين، لكثرة ما كنت أنشر من مقالات. وأحسب أنني كنت أكثر شهرة كأديب منّي اليوم. وحينما أراجع الآن تلك الفترة من حياتي وأنا بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة من عمري، أعجب كيف كنت أمتلك كل تلك الطاقة الفكرية. ولم يكن نشاطي يقتصر على الكتابة الأدبية فحسب، بل كنت منغمراً في قراءة واسعة النطاق. ولم تكن قراءتي تقتصر على الأدب، بل كنت أقرأ في كل الحقول: الاجتماعية، والاقتصادية، وحتى الفلسفية. ولم أكن في الوقت نفسه بمعزل عن السياسة، بل كنت مشاركاً فيها، خصوصاً وأن تلك الفترة من تاريخ العراق كانت تشهد تحولات سياسية مهمة. وكانت مدينتي (الحِلَّة) تحفل بالنشطاء السياسيين، لاسيما ممن كان يتبنى الاتجاهات اليسارية التي كنتُ ولا أزال محسوباً عليها. وأتذكر من طرائف تلك المرحلة أنني كنت قد غادرت العراق للدراسة في مصر في أواسط عام 1948. وفي تلك الأشهر قامت حركة سياسية، وبالذات في شهر أيلول/ سبتمبر، ضد رئيس الوزراء صالح جبر، مطالبة باستقالته، لممالأته للإنجليز، أُطلق عليها اسم (وثبة 48). وأغارت شرطة الأمن على منزلنا مطالبة بتسليمي لأنني كنت أتصدر المظاهرات وأخطب فيها ضد الحكومة. ولما أخبرهم أخي الكبير أنني لست موجوداً في العراق أصلاً، وأنني أدرس في مصر، رفضوا تصديقه واعتقلوه نيابة عني لكي أسلم نفسي. وبقي أخي المذكور معتقلاً بضعة أيام حتى استطاع أحد أخوالي من ذوي النفوذ في المدينة أن يقنعهم بأنني خارج العراق فعلاً. ومما يثير استغرابي الآن أيضاً هو أن كل ذلك الانشغال والنشاط الفكري لم يصرفني عن دروسي، فكنت من الطلبة الأوائل في صفي، بدليل أنني أُرسلت في بعثة إلى مصر. وهي حقيقة سجلها الدكتور علي جواد الطاهر في مقالته عن مجموعة (صراع).
وفي أثناء دراستي في مصر كانت صلتي بالمجلات الأدبية محدودة. واقتصرت على مجلتي (الرسالة) و(الأديب) إلى حدّ كبير. فلقد شغلت بالدراسة في حقل بعيد عن الأدب، هو الجغرافيا. وكنت عازماً على التفوق فيه لكي يتسنى لي بعد نيل الليسانس (B.A) مواصلة الدراسة فيه لنيل الدكتوراه. وقد دفعني ذلك إلى تخصيص جزء مهم من وقتي لهذا الغرض، حتى أن طموحاتي العلمية شجعتني على ترجمة كتاب مهم من الإنجليزية كان قد صدر في أواخر الأربعينيات، لأستاذة الاقتصاد في جامعة لندن دورين وارنر، وكان بعنوان (الأرض والفقر في الشرق الأوسط). وكان كتاباً رائعاً، يدرس بعمق مشكلة الملكية الزراعية في بلدان الشرق الأوسط. لكنني فوجئت وأنا أقوم بالاتصالات لطبعه، بأن اقتصادياً عراقياً قد سبقني إلى ترجمته هو الدكتور أحمد حسن السلمان، الذي كان يومذاك مديراً للبنك الصناعي، وأنه قد دفعه إلى المطبعة، فأسقط في يدي وألغيت ترتيبات الطبع. والحقيقة أن وقتي لم يكن يومذاك يتسع للكتابة في الأدب، عدا هوايتي الحقيقية، وهي القصص، والتي أثمرت في سنتي النهائية من الجامعة صدور مجموعتي القصصية الثانية (عهد جديد) في عام 1951، من قبل لجنة النشر للجامعيين. لكنني كنت أخصص جزءاً مهماً من وقتي للالتقاء بمعارفي وأصدقائي من الأدباء الذين كان عددهم كبيراً. وكان هؤلاء الأدباء يتوزعون على شكل مجموعات (أو شلل). وكنت القاسم المشترك بين تلك المجموعات. فقد كان هناك محمود تيمور الذي كنت ألتقيه أسبوعياً في قهوة الجمّال في شارع محمد فريد، على ما أتذكر. وكان هناك (شلة) نجيب محفوظ التي كانت تلتقي صباح كل جمعة في كازينو أوبرا في ميدان إبراهيم باشا، وكان أعضاء هذه المجموعة الرئيسيين: نجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحّار، وعلي أحمد باكثير، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ومحمد عفيفي، وعادل كامل. ولكن كان يتردد عليها أيضاً يوسف السباعي، وأحمد عباس صالح، ومحمود البدوي، والمخرج صلاح أبو سيف، والممثل يحيى شاهين.
وكان هناك (شلة) أحمد بهاء الدين، وتضم يوسف الشاروني، وفتحي غانم، وأحمد عباس صالح، ونعمان عاشور، وعبد الرحمن الشرقاوي. وكانت تجتمع في مقاه متفرقة.
وكانت هناك ما يمكن أن نسميها (شلة) أحمد حسن الزيّات، التي كانت تجتمع عصر كل اثنين في دار مجلة (الرسالة). وكانت تضم الزيّات، وأنور المعداوي، وعباس خضر، وأفراد آخرين يختلف عددهم ولا يحضرون باستمرار، منهم توفيق الحكيم، وساطع الحصري، وإبراهيم بيّومي مدكور. وكانت هناك (شلة) تسمى باسم (الأمناء) نسبة إلى الأستاذ أمين الخولي، وكانت تجتمع أسبوعياً في شقته بمصر الجديدة. وكان أغلب الحاضرين من تلامذة الخولي ومريديه، وكانوا يدعون إلى الأدب الواقعي الذي يعنى بهموم الشعب. وكان من جملة حضورها: الدكتور عبد الحميد يونس، وأنور المعداوي، وزكريا الحجاوي. لكنني كنت دائم الزيارة والاجتماع بأدباء آخرين أيضاً خارج هذه المجموعات، من أمثال: الدكتور عبد القادر القط، والدكتور علي الراعي، وكمال منصور، وآخرين لا أتذكر أسماءهم الآن. وكنت كذلك أزور الأدباء الكبار في بيوتهم أو مقاهيهم أو مكاتبهم. وممن تشرفت بزيارته الدكتور طه حسين، وكذلك توفيق الحكيم، والدكتور زكي مبارك. ولست أدري لماذا ظللت مصرّاً على عدم زيارة الأستاذ عباس محمود العقاد، مع أنه كان يدير ندوة أسبوعية في بيته؛ ولعلي لم أكن ميالاً لأدبه. كما أنني لم أجد رغبة في الالتقاء بإبراهيم عبد القادر المازني. وكانت هذه الزيارات والاجتماعات بكبار أدباء العرب يومذاك تستنفد الكثير من وقتي، لكنها كانت تملأني متعة، وتثري من ثقافتي في الأدب واطلاعي على مجريات الساحة الأدبية.
حينما عدت إلى بلدي بعد حصولي على الليسانس في الجغرافيا من جامعة القاهرة 1951، عانيت من ضيق شديد لحرماني من ذلك الجو الأدبي والثقافي الحافل، لاسيما وأنني أمضيت صيف عام 1951 في مدينتي الحلة بجوها الأدبي والاجتماعي الراكد، في انتظار تعييني في إحدى المدارس الإعدادية أو الثانوية. وكنت أراسل أثناء ذلك بعض أصدقائي الأدباء في القاهرة. وممن كنت أكاتبهم المرحوم أنور المعداوي الذي كان يطمئنني بأنني ما ألبث حتى أنغمر في حياتي التعليمية والتي سألقى فيها بلا شك متعة جديدة. وكنت أتوقع أن أُعيَّن في إحدى مدارس الحلة، باعتبارها مسقط رأسي؛ لكنني فوجئت بتعييني في إحدى مدارس بغداد، بل في واحدة من أفضل مدارسها الإعدادية، وهي متوسطة الغربية النموذجية للبنين. وانشغلت في حياتي التعليمية الجديدة انشغالاً عظيماً، لأنني وجدتها فرصة لتلقين التلاميذ الصغار الأفكار الإنسانية التي أدين بها. ولا أبالغ إن قلت إنني كنت من أكثر المدرسين قرباً لقلوب التلاميذ مما كان يعينني في توجيههم إلى المبادئ الإنسانية والوطنية. ومما زادني قناعة فيما بعد بتأثيري فيهم الحادثة التي وقعت لي بعد ما يزيد على عشرين عاماً. ففي صيف عام 1975 قمت بزيارة سياحية إلى الاتحاد السوفييتي، بصحبة زوجتي وابنتي. وفي إحدى الأمسيات قصدنا أحد المطاعم الكبرى في موسكو. وكانت موائده مزدحمة للغاية، عدا مائدة اشتملت على ثلاثة كراسي شاغرة. فاستأذنا من شاغلي المائدة في الجلوس معهم فأذنوا لنا بذلك. وكانوا من المواطنين العرب، وكانوا يستمتعون بجو مرح. ولكن ما إن اتخذنا مقاعدنا حتى سادهم جو من التحفظ، مما أشعرنا بالحرج. وبعد دقائق التفت إليّ أحدهم وسألني: هل تتذكرني يا دكتور شاكر؟
فقلت: وهل كان بيننا معرفة؟
فقال: طبعاً! قد كنت أستاذي في متوسطة الغربية.
فقلت: لا شك أنك كنت صبياً صغيراً، فكيف لي أن أتذكرك؟
فقال: لكننا لن ننساك أبداً يا دكتور شاكر لأنك علمتنا الوطنية.
فالتفت إليّ الآخر وقال لي ضاحكاً: فلا شك إذن أنك لا تتذكرني يا دكتور شاكر.
فسألته: وهل كنت زميله؟
فأجاب: لا، لكنك درّستني في متوسطة المنصور، وأنا أؤيد صديقي، فأنت الذي علّمنا الوطنية والأفكار العظيمة، وكنت أحبّ مدرس إلى نفوسنا.
وقال الثالث: أما أنا فلن أسألك إن كنت تتذكرني أم لا يا دكتور شاكر، فأنت قد درستني في متوسطة المنصور أيضاً. ونحن لن ننساك يا دكتور شاكر.. لن ننساك أبداً.
فقلت: لكنكم لم تعرّفوني بأنفسكم.
فقال أحدهم: أنا الملحق العسكري في موسكو، ويشرفني أن أكون في خدمتك طوال وجودك هنا.
وقال الثاني: وأنا آمر الفرقة الثالثة في البصرة، وقد حضرت إلى موسكو في مهمة عسكرية. وأنا أضع نفسي في خدمتكم وإن لم أكن أعرف موسكو كما يعرفها زميلاي.
وقال الثالث: أما أنا فالمسؤول الحزبي عن العراقيين في الاتحاد السوفييتي، وأنا أيضاً في خدمتكم يا دكتور شاكر، فلا يمكننا أن نردّ لك جميلك علينا.
فقلت لهم بلهجة بين الدعابة والسخرية، وبدون مجاملة حسب طريقتي المعتادة: فإذا كنتم تعتقدون بأنني علمتكم الوطنية والأفكار النبيلة فكيف تفسرون إذاً اعتقالي في اليوم الأول من ثورتكم عام 1963(*)؟
فأجاب أحدهم: لا شك أن أكبر أخطاء تلك الثورة اعتقال المفكرين والأساتذة من أمثالك من المشهود لهم بالوطنية. ولكنك تعلم يا دكتور شاكر أن الثورات الكبرى حبلى بالأخطاء.
انشغلت إذن في أثناء سنتي التدريسية الأولى بعملي الجديد الذي صرفني نوعاً ما عن ممارسة الأدب. لكنني ما لبثت أن عدت إليه ثانية وبقوة. فقد اتصل بي في أوائل عام 1952 الدكتور سهيل إدريس بعد أن نال الدكتوراه في الأدب من فرنسا وعاد إلى لبنان وأخبرني أنه بصدد إصدار مجلة أدبية سيطلق عليها اسم (الآداب) وأنه يدعوني للانضمام إلى هيئة التحرير، وأن أكون ممثلاً للمجلة في العراق. فرحبت بدعوته. وكنت على صلة وثيقة بسهيل إدريس من عام 1946 أو 1947، وكانت واسطة تعارفنا مجلة (الأديب) البيروتية، وقد كتبت فيها عن مجموعتيه القصصيتين: (أشواق)، و(كلهن نساء)، وقد سُرَّ كثيراً لتلك الكتابة، واتصلت بيننا المراسلة منذ ذلك الوقت. وحينما سافر للدراسة في باريس كتب إليّ أنه ينوي كتابة أطروحته عن القصة العربية، وسألني المعاونة في المادة المتعلقة بالقصة العراقية. ففعلت ما كان بوسعي.
وبعد أن أبلغته بموافقتي على الانضمام إلى أسرة التحرير، كرست الكثير من وقتي للاتصال بالأدباء العراقيين وحثهم على الكتابة في مجلة (الآداب). وقد صارت مجلة (الآداب) فيما بعد منبراً للاتجاهات الحديثة في الأدب العراقي، وخصوصاً الشعر. وحينما صدر العدد الأول من المجلة، كان من جملة مواده قصتي (الكسيح)، وكانت القصة الوحيدة التي استخدمت فيها اللهجة العامية في الحوار، فجعل الدكتور سهيل من ذلك قضية للحوار.
وفي مقتبل عام 1953 وجدتني منغمراً مرة أخرى في نشاط أدبي مشابه. فقد اتصل بي ذات يوم شخص لم أكن قد سمعت باسمه من قبل، هو المرحوم الدكتور صلاح خالص. وكان قد عاد من باريس قبل شهور قليلة وهو يحمل الدكتوراه في الأدب العربي. وأخبرني أنه وجماعة من الجامعيين عازمون على إصدار مجلة ثقافية، وقد وقع اختيارهم عليّ لأكون محررها الأدبي. فرحبت باقتراحه. وبدأت العمل معهم في التهيئة لإصدار المجلة. ونشطت في الاتصال بالأدباء العراقيين وحثهم للكتابة في المجلة. وكان من جملة من اتصلت بهم الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي كان زميلي في متوسطة المنصور، وتربطني به صداقة. وكان يومذاك ما يزال شاعراً مغموراً. وقد نشرت له المجلة في عددها الأول قصيدته الجميلة (الملجأ العشرون). وكانت تلك القصيدة الواسطة التي قدمته للشيوعيين الذين كانوا يبحثون عن بديل للشاعر بدر شاكر السياب الذي انفصل عنهم وأخذ يعاديهم ولا أدري لماذا! وكان السياب شاعراً مناضلاً بحق. وقد دخل السجن مراراً، وفُصل من الكلية. وكان قد حقق منذ أوائل الخمسينيات شهرة طاغية كشاعر يساري. وإنني لأحتفظ عنه بأجمل الذكريات. وأتذكر أنني سألت الجواهري يوماً: «من خليفتك يا أبا فرات؟» فأجابني في الحال: «بدر شاكر السياب». ولعل النقطة السوداء الوحيدة في تاريخ السياب أنه هجى عبد الكريم قاسم، زعيم ثورة 14 تموز، حين سمع بإعدامه على أيدي ثوار 14 رمضان، إثر محاكمة دامت أقل من نصف ساعة، مع أن عبد الكريم قاسم، كان قد أرسله للعلاج في لندن على حسابه الخاص.
أما عبد الوهاب البياتي فكان ذا اتجاه قومي يميني، وكان منعزلاً بطبيعته وقليل الأصدقاء. كما أنه لم يحب الإسهام في المناسبات الوطنية بأي شكل من الأشكال؛ لذلك كان نكرة أثناء وجوده في دار المعلمين العالية. لكنه تحَّول بقدرة قادر إلى شاعر محسوب على الشيوعيين، وراحوا يطبّلون له ويزمّرون. ولعل الضرر الوحيد الذي أصابه جرّاء إسهامه في مجلة (الثقافة الجديدة) أنه فُصل من وظيفته وسيق للخدمة العسكرية. ويقال إنه أخبر الشاعر ناظم حكمت، حينما التقاه في موسكو، أنه كان قد صعد على المشنقة لكنه أُنزل منها في آخر لحظة، ولا أدري مدى صحة هذا القول.
ولقد صدرت مجلة (الثقافة الجديدة) في أواخر عام 1953. وكنت أحسب أنها مجلة ثقافية مستقلة، ولكن ظهر لي فيما بعد أنها واجهة علنية للحزب الشيوعي. وربما كانت السلطة تعلم بذلك لكنها لم تكن تملك دليلاً على ذلك. لذلك ما إن صدر العدد الأول منها حتى عمدت إلى إغلاقها. لكن القائمين عليها لم يلقوا أسلحتهم، وراحوا يفتشون أن يفتشوا عن (امتياز) جديد، وحصلوا عليه فعلاً، وتولى هذه المرة محام مشهور اسمه عبد الرزاق الشيخلي (والغريب أنه كان محسوباً على التيار القومي) مهمة المدير المسؤول للمجلة، وكان في الوقت نفسه عضواً في المجلس النيابي. وصدر العدد الجديد باسم (الثقافة الحديثة). وما كاد يظهر حتى سارعت السلطة إلى سحب (الامتياز) ثانية. وفكر القائمون على المجلة بطريقة أخرى يحافظون بها على اسم المجلة. وكان (مجلس السلم العالمي) قد طلب يومذاك من محبي الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف الاحتفال بمرور خمسين عاماً على وفاته. فاقترحتُ عليهم أن أتولّى إخراج كتاب عن تشيخوف، عوضاً عن المجلة. فرحبوا بذلك. فانهمكت ليلاً ونهاراً في عملي، واستطعت أن أنجز الكتاب في موعده. وقد اشتمل على مختارات من قصصه ومسرحياته القصيرة، مع دراسة عن أدبه، وملخص عن أهم المحطات والأحداث في حياته. وصدر الكتاب في مطلع الشهر، أي في موعد صدور المجلة، تحت عنوان (منشورات الثقافة الجديدة)، وكان أول منشور تصدره لمجلة (الثقافة الجديدة). وفيما بعد أصدرت ديوان (أباريق مهشمة) لعبد الوهاب البياتي، ومجموعة عبد الملك نوري القصصية (نشيد الأرض) وكذلك المجموعة القصصية الأولى لفؤاد التكرلي، عام 1954. وبهذه المناسبة أذكر أن كتاب أنطوان تشيخوف كان يومذاك من أوائل الكتب التي تصدر باللغة العربية عن تشيخوف.
واستشاطت السلطة غضباً، وأخذت تعد العدة للانتقام من المساهمين في المجلة. وتسربت إليّ أخبار الحملة المتوقعة عن طريق أحد أقربائي المتنفذين، وحثَّني على ضرورة الإفلات منها. فخطر لي أن أسافر إلى إنجلترا وأواصل دراستي العليا في الجغرافيا، وهو ما كنت أخطط له. واستطعت بالفعل أن أفلت من قبضة السلطة قبل أن تصدر أوامر التوقيف. فسافرت إلى لندن في أواسط عام 1954، ومكثت فيها حتى 1958، حيث حصلت على الدكتوراه. وقد قامت ثورة 14 تموز قبل عودتي إلى البلاد بأشهر قليلة. ومن الجدير بالذكر أن أوامر التوقيف قد صدرت بالفعل بعد سفري بقليل، وشملت: الدكتور صلاح خالص، والدكتور صفاء الحافظ، والدكتور فيصل السامر، وإبراهيم كبَّة، وعبد الوهاب البياتي.ثم سيقوا فيما بعد إلى معسكر للجيش في (خان بني سعد)، القريبة من بغداد، للتدريب على الخدمة العسكرية. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة التي شكلت بعد ثورة تموز، ضمت اسمين من الأسماء المذكورة، هما: إبراهيم كبَّة، وفيصل السامر.
هذه أبرز معالم صلاتي بالمجلات الأدبية يا أخي الدكتور عبد العزيز، والتي اضطرتني الظروف إلى التخفيف منها فيما بعد، بل إلى حد الانقطاع أحياناً. فبعد عام 1945 شغلت بدراسة الدكتوراه في الجغرافيا في إنجلترا بحيث صرت في شبه عزلة عن المجلات الأدبية العربية. وحينما عدت إلى الوطن في عام 1958 عُيِّنت مدرساً في جامعة بغداد. وقد اقتضت مني حياتي الجديدة الانصراف إلى مهمتي العلمية الجديدة التي كان لابد لي أن أخلص لها وأن أثبت جدارتي فيها. ثم عُزلت عن الجامعة في حركة البعث لعام 1963 واضطررت إلى الهجرة إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من مدير جامعتها يومذاك، الدكتور عبد العزيز الخويطر. وقد أمضيت فيها أربع سنوات أستاذاً في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود). وحينما عدة إلى الجامعة في عام 1968 شغلت مرة أخرى بعملي الأكاديمي. واضطررت إلى الانسحاب من العمل الأدبي والإسهام في المجلات الأدبية، لأن أفكاري لم تكن تتواءم وسلطة البعث الحاكمة. ثم أُحلت إلى التقاعد في عام 1980، أو على الأصح فُصلت من الجامعة، لأنني كنت يومذاك في أواخر الأربعينات من عمري ولست في سن التقاعد، فعشت في عزلة في بيتي. وقد رفضت السلطة الموافقة على طلبات الالتحاق التي وردتني من بعض الجامعات العربية. وأخيراً بعد خمس سنوات استجابت السلطة في عام 1985 لطلب جامعة صنعاء للالتحاق بها. ولا شك في أنني سعدت بالتواجد في اليمن في جامعة صنعاء؛ فقد أتيح لي العودة إلى الأدب من جديد والتعبير عن أفكاري بحرية. واستطعت بذلك أن أخرج أهم أعمالي الأدبية بما توفر لي من حرية في التعبير عن أفكاري. وقد أسرتني رعايتكم الكريمة يا أخي الدكتور عبد العزيز، كونكم مديراً للجامعة يومذاك، وهي رعاية لم أحظَ بها في بلدي مما جعلني أتمسك بالبقاء في اليمن وعدم التفكير في العمل في أي جامعة عربية أخرى. تحية عطرة لك لأنك أتحت لي الفرصة لمواصلة الكتابة الأدبية وألف شكر لك على رعايتك.
.