د. محمد سعيد شحاتة - حركة المعنى وتفكيك شفرة العنوان قراءة في ديوان "حرائق خضراء" للشاعرة لجينة نبهان

مهاد نقدي:
ينبني الديوان منذ اللحظة الأولى على ثنائية ضدية برز طرفاها على المستويين اللفظي والمعنوي في العنوان فعلى المستوى اللفظي نجد العنوان قد اشتمل على لفظين دالين هما (حرائق - خضراء) فالحرائق تحمل كل معاني التدمير والتخريب، ولفظ (خضراء) يحمل معاني الحياة والجمال، وهنا يكمن طرفا الثنائية الضدية، وعلى المستوى المعنوي ينتمي لفظ (حرائق) إلى دائرة دلالية محددة، فقد ورد في المعاجم العربية (أحرقَ يُحرِق، إحراقًا، فهو مُحرِق، والمفعول مُحرَق • أحرقَتِ النَّارُ الشَّيءَ: حرَقته، أثَّرت فيه أثرَها المعهود وأتلفته "أحرقه بالنَّار: حرَقه- وجه أحرقته أشعّةُ الشَّمس"| يُحرق البخور لرئيسه: يتملّقه. • أحرق الشَّيءَ: أهلكه| أحرق سفنَه/ أحرق مراكبَه: قطع خطّ الرَّجعة على نفسه، قطع صلته بالماضي- أحرق فحمةَ ليله: بقي يعمل إلى ساعة متأخِّرة منه. • أحرق فلانًا: برَّح به وآذاه "أحرقه بأقواله اللاذعة"| أحرق دمَه: ألهب مزاجه وأغاظه- أحرقها الجوعُ: سبَّب لها ألمًا شديدًا- أحرقه باللِّسان: عابه وتنقَّصه( وورد في معجم اللغة العربية المعاصرة (حَرِيق [مفرد]: ج حريقون (للعاقل) وحرائقُ، مؤنث حَريقة وحريق، ج مؤنث حرائقُ: 1- صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من حرَقَ: حارق. 2- صفة ثابتة للمفعول من حرَقَ: محروق "مات حريقًا". 3- اسم ذات، نار ملتهبة) وهذا يعني أن الدائرة الدلالية للحرائق هي دائرة الخراب والدمار ، وهي سلبية وإفنائية للحياة وكل ما فيها، ويرى البعض أن محبي الحرائق مهووسون برؤية الأشياء وهي تذبل وتفنى وتنتهي، وتفقد كينونتها ووجودها، وسوف نعود إلى ذلك كله لاحقا، أما الدائرة الدلالية التي ينتمي إليها لفظ (خضراء) فإنها تتضادُّ تماما مع الدائرة الدلالية للحرائق؛ ذلك أن اللون الأخضر يرتبط دائما بالحياة، وهو متّصل بالطبيعة، ولا يمكن أن يختلف اثنان على كونه لون الطبيعة والعشب، وأنه يرمز إلى النمو، والانسجام، والنضارة، والخصوبة، والراحة، ويرتبط بالتوعية البيئية والتطبيقات البيئية الإيجابية، وهو من أكثر الألوان راحة للعين البشرية؛ لذلك فإنه يدعم الشعور بالاستقرار، ويزيد القدرة على التحمل، كما يدلّ على الابتهاج والسّكينة، ويرى البعض أن محبّي اللّون الأخضر مُفعَمون بالأمل والخيال، ومسكونون بالحياة وجمالها، فإذا انتقلنا إلى التكييف اللغوي للفظين (حرائق – خضراء) فسوف نجد أن اللفظين جاءا نكرتين، ومن المعروف أن النكرة تدل على العموم والشمول، أو تدل على الشائع في نطاق جنسه، ويرى علماء البلاغة أن التنكير من القضايا الدقيقة، وأن مجيئ الكلمة نكرة يكون نتيجة دواع بلاغية سامية، وكون النكرة دالة على العموم والشمول قد يوحي إلى المتلقي أن المعرفة أشد دلالة على المعنى من النكرة، ولكن ابن الزملكاني يرى أن من يظن أن المعرفة أجلى من النكرة "يخفى عليه أن الإبهام في مواطن خليق، وأن سلوك الإيضاح ليس بسلوك للطريق، خصوصا في موارد الوعد والوعيد والمدح والذم، والنكرة متكثِّرة الأشخاص يتقاذف الذهن من مطالعها إلى مغاربها، وينظرها بالبصيرة من منسمها إلى غاربها، فيحصل في النفس لها فخامة، وتكتسي منها وسامة" (التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن، ص 134) وإذا كانت النكرة دالة على العموم والشمول فهذا لا يعني أن دلالتها البلاغية منتفية، فلفظ (حرائق) نكرة وهو دال على العموم والشمول من ناحية التكييف اللغوي، أما من ناحية التكييف البلاغي فهي/حرائق تدل على التكثير، وهذا يعني أن لها دلالتين الأولى العموم والشمول والثانية التكثير، ومعنى ذلك أن تلك الحرائق كثيرة، وهي عامة وشاملة، بمعنى أنها غير محددة، فالحرائق متنوعة ومتعددة، هذا من ناحية العموم والشمول، وهي/حرائق كثيرة بحيث لا نستطيع رصد أعدادها؛ فأعدادها تفوق الحصر، وهذا من ناحية التكثير، على أننا يمكن أن نلحظ دلالة أخرى للفظ (حرائق) من حيث كونه نكرة، وهي دلالة التعظيم، أي أن هذه الحرائق عظيمة من ناحية الآثار الناتجة عنها، والمترتبة عليها، وإذا نظرنا إلى اللفظ الثاني (خضراء) فسوف نجد أنه جاء نكرة أيضا؛ ليدل على العموم والشمول من الناحية اللغوية، والتعظيم من الناحية البلاغية، وليس التعظيم هنا ناتجا عن الصفة الإيجابية الناشئة من لفظ (خضراء) المنتمي دلاليا إلى الحياة والنمو والانسجام – كما سبق – ولكنه/ التعظيم ناشئ عن كونه صفة للفظ (حرائق) الدال على التكثير لكثرتها، والتعظيم لعظم آثارها الناتجة عنها، ومن هنا استمد لفظ (خضراء) دلالة التعظيم.
وإذا عرفنا أن النحو والدلالة مستويان متتاليان من مستويات النظام اللغوي فإن التأثير والتأثر بينهما طبيعي، والعلاقة بينهما علاقة تكاملية؛ لأداء الغاية من اللغة "فمن خلال نظام العلاقات القائم بين عناصر التركيب اللغوي، وما يترتب عليه من إعراب يؤدي علم النحو وظيفة حفظ المعنى وصيانته، فالمتكلم يبني العلاقات النحوية بين عناصر التراكيب النحوية وفق ما يقتضيه المعنى الذي يريده، وذلك حسب الإمكانات المتاحة في علم النحو وقواعده، والمتلقي يوظف علم النحو في تحليل الكلام والوصول إلى المعنى المراد، فالنحو عند المتكلم يتشكل وفق الدلالة، أي أنه يبني العلاقات النحوية وفقا للدلالة التي يقصد تأديتها، أما عند المتلقي فالدلالة تتشكل وفق قواعد علم النحو، أي أنه يفهم الدلالة من خلال فهم العلاقات النحوية بين عناصر التركيب وتحليلها، فالدلالة تحكم النحو عند المتكلم، والنحو يحكم الدلالة عند السامع" (عبد الرحمن مصطفى القضاة، منع تقدم المبتدأ على الخبر توجيها دلاليا، ص 706) فإذا جئنا إلى التكييف النحوي للعنوان فسوف نجده جملة اسمية خبرية مثبتة، وقد حذف أحد طرفيها، ويمكن اعتبار المحذوف هو المبتدأ، وفي هذه الحالة يكون التقدير (هذه حرائق خضراء) وهنا يأتي التساؤل المهم والدال في الوقت نفسه: إلى أي شيء يشير اسم الإشارة (هذه) المحذوف؟ فقد تكون الإشارة إلى ما ورد في النص من أفكار ورؤى، وقد يكون النص بأكمله هو المشار إليه، وفي جميع الأحوال فإن المبتدأ محذوف والخبر مذكور، وفي ذكر الخبر دلالة على أهميته، وأن الشاعرة ترتكز عليه في توصيل الرسالة الإبداعية المراد توصيلها، وهي أن الحرائق تحتل مركز الرؤية، ولكن هذه الحرائق عامة وشاملة؛ لأنها نكرة، وكذلك هي كثيرة ومتنوعة ومتعددة؛ لأنها جمع دال على الكثرة، على أننا يمكن تقدير المحذوف على أنه الخبر المقدَّم وتكون الجملة (هنا حرائق خضراء) وفي هذه الحالة سوف يكون المحذوف الخبر المقدَّم والمذكور هو المبتدأ المؤخر النكرة الموصوفة، وإذا اعتبرنا المحذوف الخبر (هنا) يكون الخبر دالا على المكان، فأي مكان تشير إليه الرسالة الإبداعية؟ ومن الواضح أن الإشارة إلى مكان قريب (هنا) وفي ذلك دلالة على المكان الذي تقع فيه الحرائق، ومعنى هذا أننا إذا اعتبرنا المحذوف هو المبتدأ (هذه) فسوف يكون التركيز على الحرائق وصفاتها وآثارها، أما إذا اعتبرنا المحذوف هو الخبر المقدَّم فسوف يكون التركيز على المكان الذي تقع فيه الحرائق، وفي كل الأحوال تصبح الحرائق واقعا ملموسا لا يمكن إنكاره، سواء أكان التركيز عليها أم كان على مكان حدوثها، على أننا يمكن اعتبار الجملة فعلية، وفي هذه الحالة يكون المحذوف الفعل والفاعل، ويكون التقدير (أرى حرائق خضراء) وهنا تدخل الذات الشاعرة عنصرا فاعلا ضمن أضلاع الرؤية الثلاثة، وهي المكان والحدث وواصف الحدث/الشاعرة، ويكون الساؤل عن المجهول وهو الفاعل لهذه الحرائق، وكونه مجهولا لا يعني أن غير معروف، أو غير موجود، ولكن يمكن اعتباره مكوَّنا من عناصر مختلفة ومتشابكة ومتنوعة، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا.
وقد قلنا سابقا إن العنوان جاء خبريا مثبتا، وهذا يعني أن النص يريد أن يقدِّم لنا خبرا مثبتا، وهذا الخبر قد جاء خاليا من التوكيد، بمعنى أنه جاء – كما يقول البلاغيون – خبرا ابتدائيا، والخبر الابتدائي هو الخبر الذي يفترض في المتلقي أنه خالي الذهن، ومن ثم فإنه يأتي خاليا من أي نوع من أنواع التوكيد، ومعنى ذلك أن الحرائق لا تحتاج إلى دليل أو توكيد؛ فالمتلقي يراها في كل مكان، ون ثم فهو لا يحتاج إلى توكيد وجودها من النص، كما أن مجيء العنوان خبرا يوحي بأن النص يعترف منذ البداية أنه سوف يقدِّم للمتلقي رواية/خبرا، أي أنه لا يقدم وجهة نظر فائمة على تحليل عقلي، واستنتاج منطقي، ولكنه يقدِّم رواية لأحداث/حرائق، وهو ما يتوافق مع العنوان الخبري.
أما وصف الحرائق في العنوان بأنها خضراء فهو وصف بما يناقض كينونتها، وهو وصف مقصود، ومعنى ذلك أن النص يصف هذه الحرائق بما يتناقض مع واقعها الفعلي، وأثرها؛ فالحرائق كما قلنا سابقا تنتمي إلى دائرة دلالية قائمة على الإفناء والتدمير، وهي مرتبطة بالخراب، أي أنها تنتمي إلى الموت، وأما الخضراء فهي تنتمي إلى دائرة دلالية متناقضة تماما؛ إذ تنتمي إلى الحياة، ومعنى ذلك أن هذه الحرائق يُنظر إليها على أنها ليست حرائق ولكن يتم تأويلها تأويلا مناقضا لكينونتها، فالبعض لا يرى أن ما يحدث ليس تدميرا وإفناء، ولكنه حياة، ومن هنا أخذت الحرائق صفة متوافقة مع الحياة، وهي خضراء؛ ليكشف لنا النص عن التناقض الكبير الذي يعيشه الإنسان، وهو وسم الأشياء بغير سماتها الحقيقية، وإضفاء صفات الحياة على ما هو مدمر، وسوف نتوقف أما ذلك خلال قراءتنا التحليلية للديوان.
الأنا الشاعرة في مرآة العنوان:
في هذه المرحلة من الدراسة سوف نتوقف أمام ملامح الأنا الشاعرة، وارتباطها بالعنوان الذي بدا حاكما لسيرورة النص الشعري من البداية إلى النهاية، ومتحكما في رسم تضاريسه وشعابه وأوديته، وربط خيوط الررؤية بعضها ببعض؛ لتتجلى في النهاية متكاملة الملامح يفسِّر بعضها بعضا، ويعلل بعضها بعضا، ويكشف بعضها أقنعة البعض الآخر من خلال شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية فائقة في الديوان، ولن نتجاوز في هذه المرحلة من الدراسة الخطوة المبتغاة؛ لأننا سنعود لاحقا للتفصيل عبر الديوان بأكمله.
يعدُّ المقطع الأول تأسيسا لصورة الأنا الشاعر في مرآة العنوان، فإذا كان العنوان قد جمع بين متناقضين يمثلان ثنائية ضدية ينتمي طرفاها إلى دائرتين دلاليتين متضادتين – كما تبيَّن سابقا – فإن الأنا الشاعرة لم تستطع أن تنفلت من أسر هذه الثنائية وطرفيها، وسوف نتخذ من المقطع الأول مقياسا لذلك، وسوف نعود إلى بقية المقاطع في مراحل تالية من الدراسة، فمن الناحية الشكلية نجد المقطع الأول يبدأ بأحد طرفي الثنائية الضدية (الكثيرُ من الحيا ة في انتظاري هناك) فقد عبَّر النص/الشاعرة عن الدائرة الدلالية الأولى صراحة من خلال استخدام لفظ (الحياة) وهو ما يتوافق مع لفظ (خضراء) في العنوان، ولكن المقطع ينتهي بقول النص/الشاعرة: (لا شيء يقتل كحرمان .. لا شيء يقهر كحرب) ومن المعروف أن لفظ الحرب ينتمي إلى دائرة دلالية مغايرة تماما للحياة، إنها دائرة الحرائق؛ فالحرب تنتمي إلى الإفناء والخراب والدمار، ولذلك نجد النص يستخدم الألفاظ المصاحبة لذلك، ومعبرا عنه (يقتل – يقهر) وكلا اللفظين (يقتل – يقهر) ينتميان إلى الدائرة الدلالية الثانية/الحرائق، على أننا نلاحظ أن النص يصرِّح بقوله (لا شيء يجرح كما قد يفعل عشب أخر) وهنا تجتمع الدلالتان (يجرح – عشب أخضر) ليتحول ذلك العشب الأخضر من دال على الحياة والجمال إلى مسيل للدماء/يجرح، وهو ما عبَّر عنه النص/الشاعرة في المقطع الرابع (أيتها العاطفة الخضراء لقد أدركتني الحرائق) وبين طرفي هذه الثنائية (خضراء– حرائق) (الحياة – الحرب) تتجلى ملامح الأنا الشاعرة؛ فهي واقعة بين ملامح الحياة والحرب، أو بين ملامح الحياة والموت/القهر/ الحرائق، ولذلك نجدها/الشاعرة تقول في بداية نصها راصدة هذه الثنائية:
الكثير من الحياة في انتظاري هناك
المشكلة الوحيدة أنني هنا
فمن الواضح الجلي أن الجملة الشعرية تنبني على ثنائية ضدية طرفاها (هناك – هنا) بما يحمله كل طرف من اختلاف مكاني يستتبعه اختلاف في كل شيء، وقد ارتبط ذلك بالأنا الشاعرة من خلال استخدام الضمير الدال عليها (انتظاري – أنني) فالياء في الكلمتين ضمير متصل دال على المتكلم/الأنا الشاعرة، وقد وردت هذه الثنائية الضدية صراحة في مواضع كثيرة مرتبطة بملامح الأنا الشاعرة، إذ تقول:
يد القدر تمطّني هي الأخرى
في اتجاهين متعاكسين
فالياء في اللفظ (تمطُّني) دالة على الأنا الشاعرة، وتتوالى الثنائيات الضدية التي تشكل الرؤية الفكرة في الديوان، فتقول الشاعرة:
أجلس اليوم متكئة على سكوني
أعيد حياكة الموج
بذهنية العاصفة التي ستولد
من رحم هذا السكون
فهل كانت ساكنة حقا؟! إذ تعلن أنها تتكئ على سكونها فنصدق ذلك، ولكنها تعود لتقول إنها تعيد حياكة الموج بذهنية عاصفة، وهذا يعني أن الظاهر ساكن ولكن الباطن/الذهن عاصف، وهنا يحضر الظاهر والباطن كثنائية ستشكل فيما بعد بُعْدًا من أبعاد الرؤية، وما يبدو ظاهرا من سكون لا يعلن عن حقيقة الباطن الموَّار، فالعاصفة تولد من رحم السكون، فالشيء يأتي من رحم ضده، والمتضادات يولِّد بعضها بعضا، وتتوالى الثنائيات الضدية؛ لتحكم الجمل والتراكيب، وتتحكم في ملامح الرؤية، تقول الشاعرة:
لم أقع في الحب هو الحب وقع بي
وحين صرته هجرني
لأستحيل شمسا
كلما فاض بها الشغف أنجبت قمرا
وعاد إلى هجيرها
يأكلها لظاها
يأكلها فقط
والطريقة نفسها تستخدمها الشاعرة في موضع آخر من الديوان حين تقول:
لم أقع في البئر
هناك بئر وقعت بي
فصيَّرتني ماء
وسرقتُ السرَّ
لم أسقط ميتة
هو الموت تقمصني
لأكون شاهدة على عبور قضى ناقصا
وتعود مرة أخرى فتقول:
أحبك في الحزن ..
أتوهج معك في تلك المنطقة العميقة من الروح ..
أحبك في الفرح
حين تمتد أصابع صوتك إلى باب قلبي
وهكذا تتجلى ملامح الأنا الشاعرة قائمة على ثنائيات ضدية؛ لتكشف في النهاية عن الرؤية الفكرية المتخفية وراء هذه الثنائيات المستخدمة بعناية شديدة والحاكمة لسيرورة النص، وانسيابه من المنبع إلى المصب، ناسجة خيوط الرؤية، وكاشفة عن ملامح الروح صعودا وهبوطا بين تضاريس النص المختلفة.
الوطن في مرآة العنوان:
يبدو الوطن حاضرا بقوة في الديوان بأشكال مختلفة، وملامح متعددة، بانتصاراته وانكساراته، وقضاياه وغيومه وغيوثه، يبدأ التلميح للوطن في قول النص/الشاعرة:
تزوجتُ قضية خانتني
كنتُ في الحرب حين اكتشفت الأمر
وكان الأوان قد فات
والحياة أيضا
هذا ما قاله الشابُّ
الشهيد/القتيل
القتيل/الشهيد
قبل العبور الأخير
لافظا آخر الوهم
وإذا ربطنا هذا المقطع بما قبله وما بعده سنكتشف الدلالة التي يتوخاها النص من هذه الإشارة التي قد تبدو للوهلة الأولى ملغزة، وغير دالة بوضوح على المراد، فقد ورد قبل هذا المقطع قول النص/الشاعرة:
لم أقع في البئر
هناك بئر وقعت بي
فصيَّرتني ماء
وسرقتُ السرَّ
لم أسقط ميتة
هو الموت تقمصني
لأكون شاهدة على عبور قضى ناقصا
فالإشارة في هذا المقطع قولها (لم أقع في البئر .. هناك بئر وقعت بي فصيَّرتني ماء وسرقت السرّ) على أن الملاحظ في نهاية المقطع قولها (لأكون شاهدة على عبور قضى ناقصا) لنربط ذلك بقول الشهيد/القتيل (تزوجتُ قضية خانتني ...) فهو لم يرد الموت، ولم يرد الحرب، ولكن الحرب هي التي ترصَّدته (لم أسقط ميتة .. هو الموت تقمصني لأكون شاهدة) ويكون أيضا الشهيد/القتيل شاهدا، وتكون الأنا الشاعرة الوجه الآخر للشهيد/القتيل، وأما ما ورد بعد المقطع المراد فهو قول النص/ الشاعرة:
لم أقع في الحب هو الحب وقع بي
وحين صرته هجرني
لأستحيل شمسا
كلما فاض بها الشغف أنجبت قمرا
وعاد إلى هجيرها
يأكلها لظاها
يأكلها فقط
فهو وإن كان يتحدث عن الأنا الشاعرة فإنه يكشف في الوقت نفسه عن أن ما حدث ما يكن اختيارا، ولكنه كان غير متوقع، وتحول إلى غير ما يراد (لم أقع في البئر هناك بئر وقعت بي فصيَّرتني ماء وسرقتُ السرَّ ) – (تزوجتُ قضية خانتني كنتُ في الحرب حين اكتشفت الأمر وكان الأوان قد فات والحياة أيضا) – (لم أقع في الحب هو الحب وقع بي وحين صرته هجرني ) وسوف نعود للحديث عن ذلك بالتفصيل لاحقا في موضعه من الدراسة، ويرد لفظ الوطن صراحة في قول الشاعرة:
يا أيها الوطن ابكني لو مرة
كم بكيتك مغرمة
احتضني الآن
فألثم جرحك
وأرتق ما تبقى من يقين
يا أيها العمر الممزق بين أبعاض هذه الفوضى
لو تعتدل في مشيتك
تبدو الأنا الشاعرة في النظرة العجلى لائمة على الوطن، وتطلب منه أن يبكيها ولو مرة؛ فهي التي أحبته، وبكت عليه مغرمة، وتطلب منه أن يحتضنها؛ لتلثم جرحه النازف، وترتق الباقي من اليقين، ولكن المتأمل في الصورة كاملة يكتشف أنها والوطن وجهان لعملة واحدة؛ فهي تتألم وهو ينزف، فمن الذي يحتضن الآخر؟! ومن الذي يحتاج إلى الآخر؟! والحقيقة أن الشاعرة تطلب من الوطن أن يحتضنها؛ لتلثم جرحه، وترتق ما تبقى من يقين، أي أنها تريد أن تساعد في شفائه مما يعاني منه، وترى أن الشفاء يكون باحتوائه لها، واحتوائها له، فيمتزجان كنفس واحدة، فهو الذي يحتضنها فتشعر بالأمان، وهي التي ستلثم جرحه وترتق اليقين، فيشعر بالشفاء، فعتابها عتاب المحب الراغب في شفاء وطنها الطامح في عودته سليما معافى (يا أيها العمر الممزق بين أبعاض هذه الفوضى لو تعتدل في مشيتك) وهنا يكون الكلام مواتيا عن تاريخ هذا الوطن حين تقول في المقطع التالي مباشرة:
مازلت أومن بارتشاح الحلم
حيث الــ(أنتَ) تنبض بالخلاص كمنتظر سيأتي لا محال
وأقول في سري، يراودني الجواب عن الحقول الشاسعات
على مجاز صدركَ الخصب الكليم:
هل كنتَ قبل الآن بيدرا كلما جاع الفؤادُ
ألقمتُه من قمحكَ المحفوف بالوجدِ الغرامَ
لتثور قافيتي على الأمداء تصهل بالغناء
هل كنتَ توريةً لبحر؟!
أو التضارعَ بين مدٍّ وقمر؟!
كلما لاح الضياءُ بمقلتيك على مشارف رؤيتي فاض الحنين بفضَّتي
لأصير شلالا على مرأى قمر
تناديني النوارس إلى شطوط أصابع
هي من قطوف قرآن وإنجيل تبرعمت في يديك
يتطاوف الجسدان
جسدي وقد خلع الشرانق والفراش ليعود ضوءا خالصا
جسدي وظلك
لا ... جسدي وأنت .. أنتَ بكل موجكَ .. كل خيبات رمتك بطيشها
وكل ما فاتكَ من حليبٍ ومن قُبل
يا كلِّي المنفي من زمن بعيد .. هلا أتيتَ لأكون كلَّكَ
إن المقطع يشير بوضوح إلى ما ألمحنا إليه فيما سبق من أن الشاعرة ترى نفسها شافية للوطن، وترى الوطن أمانا لها، فتطلب منه أن يحتضنها؛ لتلثم جرحه، وترتق اليقين، وهو ما عبَّر عنه النص/الشاعرة (مازلت أومن بارتشاح الحلم حيث الــ(أنتَ) تنبض بالخلاص كمنتظر سيأتي لا محال) وفي هذا المقطع يتجلى هذا المعنى بوضح، على أننا نلاحظ أن الثنائية الضدية التي وردت في العنوان ما زالت متحكمة في الدلالة؛ فنجد النص يرسم ملمحين متضادين للوطن: الأول ملمح النزيف وعدم اليقين، وهو ما يتناسب مع الدائرة الدلالية للحرائق، والملمح الثاني هو ملمح البيدر والقمح والغناء، وهو ما يتناسب مع الدائر الدلالية الثانية/خضراء، ومن ثم فإن العنوان يظل مهيمنا على الدلالة في الديوان.
وسوف نتوقف في الجزء الثاني من الدراسة أمام حركة المعنى في النص وارتباطها بدلالة العنوان، كما نتوقف أمام المفاهيم المهيمنة على النص الشعري، والعلاقات اللغوية والبلاغية، وقدرتها على نسج ملامح الرؤية الفكرية، ونتحدث كذلك عن الذات المراوغة، ورصد تحولاتها في النص، وتحديد خطوط الدلالة، وتتبع ملامح البنية الحكائية في الديوان.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى