محمد السلاموني - فقط اردموا بهم ثقوب الأرض كى نرتديها ونرقص

تفصل العلمانية بين الدين والدولة ، لكن العقلانية هى جوهر العلمانية ، والعقلانية تقول بمسئولية الإنسان عن مصيره وعن معنى وجوده ، لأنه ذو عقل - وكما نعرف فمشروع التنوير الأوربى يتخذ من العقل مرتكزا له ، وطالما أن وجودى كإنسان يحدده العقل - كما قال ديكارت (أبو العقلانية) ، إذن فلا وصاية علىّ من أحد ، وعلىّ أن أفكر لنفسى بنفسى - كما قال (كانط - فى ما هو التنوير ؟) / ومعلوم أن الإعتراف بالعقل الإنسانى كان هو الأساس الذى انبنت عليه (الفردانية) ؛ وشعارها الشهير (دعه يعمل ، دعه يفكر ، دعه يمر) ، ليس سوى الترجمة العملية للعقلانية ذاتها ، ومعلوم أن الإنسان الغربى استحوذ لنفسه على جميع الحقوق الإنسانية إنطلاقا من ذلك المبدأ نفسه...
وهذا تحديدا ما يرفضه الدينيون، بل ويعدونه كفرا بالله...
قبل أن أتناول موقف الدينيين من العقل، أريد أن أشير فقط إلى أن (النزعة الإنسانية) ؛ تلك التى رأت فى الإنسان أنه (فاعل البنيات كلها) واتخذت منه محورا فى دراسة العلوم الإنسانية (وعلى رأسها التاريخ : باعتباره تاريخ الفعل الإنسانى) ، تلك النزعة ، تراجعت الآن ، لتصبح البنية وحدها هى المستأثرة بالفعل ، البنية لا الإنسان ، أما حدود الإرادة الإنسانية ، فلا تتجاوز (التضامن مع البنية) فقط - ذلك لأن الذات الإنسانية (الواعية والمريدة) ، تجهل الكثير عن نفسها (كما كشف عن ذلك فرويد ؛ مكتشف بنية اللاوعى ، وماركس ؛ مكتشف بنية التاريخ ، وسوسير ؛ مكتشف بنية اللغة ... إلخ) ، وخلاصة ما انتهوا إليه فى هذا الأمر ، هو أنه إذا كان الإنسان يجهل ذاته ويجهل القوانين البنيوية التى يتحرك على أساسها العالم ، فكيف له أن يتحمل مسئولية صناعة مصيره إذن؟...
أمَّا الدينيون، هؤلاء الذين يصادرون حق الإنسان فى صناعة مصيرة، ويوكلون صناعة وتقرير حق المصير إلى (الله)، فيعودون إلى ما قبل الموقف الديكارتى، أى أن موقفهم لا يتجاوز الموقف الفلسفى من الإنسان فى العصور الوسطى ، ذلك الذى كان واقعا تحت سلطة وهيمنة الكنيسة ورجال الدين (ومعلوم أن تراجع الثقة فى الحل الدينى المسيحى ، فى أوربا، جاء نتيجة لعجز رجال الدين عن إيجاد حلول عملية لمجموعة التحديات المتعاقبة التى تعرض لها الإنسان الأوربى، فى تلك الفترة، ومنها الأمراض والأوبئة: كالطاعون والجزام، والجنون... هذا إلى جانب صعود البرجوازية بأفقها الجديد ... إلخ) .
تتمحور مشكلة الخطاب الدينى فى الأساس حول إنكاره للتجربة الإنسانية المتراكمة تاريخيا ، هذا فى الوقت الذى لا يفعل فيه أصحاب الخطاب الدينى غير أنهم يستثنون أنفسهم من ذلك النكران ، ويقدمون أنفسهم لنا باعتبارهم هم (العلماء) - معللين موقفهم هذا بكون كتاب الله لا يتطرق إليه الشك ، فهو كتاب معصوم ، وكامل (محيط بكل شئ) ...
رجال الدين ، فى دفاعهم عن الدين ، يتمثلون (الله) فى أنفسهم (بوصفهم علماء بعلوم الله) - وما يعنينا فى هذا الأمر ، هو أنهم يبيحون قتل كل إنسان لا يؤمن بما يؤمنون به ، وكما أشرت (فكل من يعتقد فى نفسه بأنه "عاقل" هو - فى شرعهم- "كافر")، وإذا أضفنا إلى ما سبق ، أنهم هم أنفسهم لا يتفقون مع بعضهم البعض على شئ مما جاء به كتاب الله ، وينقسمون إلى فرق ، وكل فرقة منهم تعد نفسها هى (الفرقة الناجية) ، سنكتشف أن (الله) الذى يتحدثون بإسمه لا يزيد عن (قناع) تتخفى وراءه ذواتهم ومصالحهم الخاصة ، مما يعنى أن كلا منهم يتصور أن الله يتكلم من خلاله ، هو نفسه ، أى أنه صار هو الله (!!) ...
لاشك أنهم ، ومعهم المشايعين لهم ، مجرد مجموعة من الملتاثين ، وهؤلاء - فى الحقيقة - ليسوا أكثر من حشرات وحشية متبقية من الماضى السحيق ، وليس هنالك من حل سوى أن نجمعهم فى كهوف ، ثم نردمها بهم - نعم ، لا تقتلوهم ، فقط إردموا بالسماويين ثقوب الأرض ، كى نرتديها ونرقص ..




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى