سعد عبد الرحمن - طاها حسين شاعرا

2
اتصل طه حسين مبكرا بالصحافة، ويمكن القول إنه لم يلبث إلا سنوات قليلة منذ قدومه إلى القاهرة للدراسة بالأزهر حتى أخذ يراسل عدة صحف وينشر فيها شعرا ونثرا، وفي مقدمة هذه الصحف التي راسلها الفتى طه حسين ونشر فيها بواكير شعره جريدة (الجريدة) (9) لسان حال "حزب الأمة" (10) التي كان يشرف على تحريرها الأستاذ أحمد لطفي السيد، وأول ما نشره طه حسين من شعره (في عدد أول يناير 1908 من جريدة الجريدة) قصيدة كتبها في رثاء حسن باشا عبدالرازق (11)، ومطلع القصيدة:
أفي الحق قـــد أسمعتنا أم تـــــوهما ؟ .. تبيــــــن فقــــــد بدلـــت أدمعنـا دما
والقصيدة رغم قصرها زاخرة بالمبالغات ومنها مبالغات فجة مثل قوله:
هوى كوكب كانت به مصـــر تهتدي .. إذا ما دجا ليـــــل الخطــــــوب وأظلما
تولى فذلـّــت مصــــــر بــــعد وفاته .. همــام إذا ما أحــجم القـــــــــوم أقدما
وما الصبر عمن فاق في الجود حاتما .. وفي بأسه عمـــــرا وفي الــرأي أكثما؟ (12)
ويتكئ طه حسين كأي شاعر مبتدئ في كثير من جمله وتعبيراته على التراث ويقتبس منه إلى حد النقل مع قليل من التصرف كما جاء في قوله:
تولى فلـــم نفــقد بـــه شخص واحد .. ولكنــــه صــــــرح المــعالي تهدما
فهذا البيت أخذه طه حسين من قول الشاعر عبدة بن الطبيب (13) في رثاء الصحابي الجليل عاصم بن قيس المنقري:
وما كـــان قيـــــــس هلكـــه هلك واحد .. ولكنـــــه بنيــــان قــــــــوم تهدما
وفي الواقع إن لطه حسين عذره في هذه المآخذ فقد كان دون العشرين من عمره حين كتب هذه القصيدة وخبرته الأدبية محدودة وذائقته الفنية في بدايات تشكلها .
ومن قصائد طه حسين الوطنية الجيدة بمقاييس ذلك الزمان وبالنظر إلى سنه الصغيرة (14) قصيدته التي كتبها احتفالا بمقدم العام الهجري 1309، قد نشرتها مجلة "الهداية" التي كان يشرف على تحريرها الشيخ عبد العزيز جاويش في ديسمبر 1910 ويقول في بدايتها:
كن أنت بعد أخيـــك خيــر هــــلال .. وأضئ لمصــــر سبيــــــل الاستقلال
وابسم بها بـــعد العبــــوس فربما .. صنع ابتسامـــك بالـــــــــرجـاء البالي
والقصيدة طويلة (15) يستعرض فيها طه حسين بعض كبريات الحوادث في مصر والعالم الإسلامي، ومن الحوادث المصرية المهمة في تلك الفترة إعادة حكومة بطرس باشا غالي (في 25 مارس 1909) العمل بقانون المطبوعات (16) سيئ السمعة الذي كان قد صدر من قبل إبان ولاية الخديوي توفيق في أعقاب فشل الثورة العرابية (بتاريخ 26 نوفمبر 1881)، وترتب على ذلك أن ضيّقت سلطات الاحتلال البريطاني على حرية الصحافة والتمثيل في مصر تضييقا شديدا وتعرضت عدة صحف ومسارح للإغلاق بسبب نبرتها الوطنية الانتقادية العالية، وإلى ذلك يشير طه حسين في القصيدة بقوله :
إن الشكــــــاة بمصــر جــرم مـــهلك .. والــنقد مــصــــدر محنــــة ونــــكال (17)
مـن يشـــك أو يرفــــع بذلك صــــوته .. فهو المهـيـّـــج والسفـيـــــــــه الغالي (18)
أخذوا على الصحف الطريق وأرهقوا .. كـــــــــتــابــها بالضيـــــــم والإذلال
وعدا على التمثــــيل من غـــــلوائهم .. عـــاد فـــــآذن ظـــــــلـه بــــــزوال (19)
ومن أمثلة قصائده الوطنية أيضا قصيدة بعنوان "هم جائش" هاجم فيها "مشروع مد امتياز قناة السويس" (20) الذي عرضته حكومة بطرس باشا غالي على "مجلس شورى القوانين" (21) وقد نشرت القصيدة بجريدة "مصر الفتاة" في 2 نوفمبر 1909، وتبدأ القصيدة بقوله:
تيمموا غيــــــر وادي النــــيل وانتجعوا .. فلــيس في مصر للأطمــــــــــاع متسع
وفيها يقول :
يا للكنانة مـــــــــــن منكــــــود طالعهم .. ما ذا يجـــــر عليــــها الـــــــنوم والطمع ؟
من مثـــــل أبنائها في ســـــــوء صفقتهم .. منها إذا ما اجتنـــــوا مــن غرسهم وزعوا؟
هم الذيـــــــن ابتنـــــوا بالأمس واحتفروا .. فمالــــهم إن أرادوا حقــــــــــــهم دفعوا؟
أكلمـــا جــــــــــاع غربي تيــــــــــممنا .. حتى إذا اكـــــــــــتظ أغـــــراه بنا الجشع؟
يا نيـــــل إن سغت للمستعمريــــــن ولم .. تطب لأبنائـــــــك العــــــــــلات و الجرع
فلا جريــــــــت ولا رويـــــــت ذا ظمأ .. ولا أمـــــدك غـيــــــــث واكـــــــف همع (22)
ومن أمثلة شعر الغزل عند طه حسين - وليس فيه ما يلفت النظر سوى أنه صيغ من مجزوء المتدارك في شكل مقطوعات أشبه بشعر "المسمطا ت" (23) - قوله من قصيدة "آه لو عدل" التي نشرها بجريدة "مصر الفتاة" في 31 ديسمبر 1909:
شادن عـــطف .. عطفة الحبـيب بعدما صـــــدف.. صدفـــة الملــول (24)
كم سبى العقول .. قوله الخلـــوب يملك القلــــوب .. ثـم لا ينـــــــيل
إن في الهـــوى .. زلــــة الــــقدم فيه كـم هــــوى .. ثابت الجنـــان
قل لذي السنــان .. أو لذي القلـــم كلـّــت الهـــــمم .. عنه والبيـــان
بدؤه مجـــــون .. يبهـج الحــــياة ثم بالجنــــــون .. ينـتهي الخـــبر
إنما انتصــــــر .. صاحـب الأناة تنقضي منـــــاه .. منـه إن صـــبر (25)
وقوله في قصيدة "الحبيب المريب" التي نشرها بجريدة "مصر الفتاة" في 12 سبتمبر 1909:
لا تخف أنـت في الجمـال فريد .. لا يدانيـــك فيــــه يـــوما مــــداني
ويمينا لـــولا تقى الله أشـــركــــتك في طاعـــــــــتي وفي إيــــماني
مال بالقلب عــنك ريب و شـك .. ما تبــــينـــت فيـــهما مـــن بيـــان
ريبة لو جلــــوت منها يقـــــينا .. حــمد العاذلــــون مـــــنك مكاني
لا أرى للغـــرام في الغي ذنبا .. إنما الذنـــب للوجـــــوه الحـــسان
وشعر طه حسين الغزلي بحسب تعبير الأستاذ محمد سيد كيلاني في كتابه المشار إليه من قبل "يمثل نفسية مضطربة ليست مستقرة على حال" فتجده تارة يترك لنفسه العنان حتى إنه ليحل العناق والقبل بين المحبين بناء على فتوى بعض الفقهاء ويرى أن قلبه لا يمكن أن يخلو من الحب وأنه يهيم بالحسن ويعشق الجمال إلى درجة الجنون، وتارة أخرى تجده متزمتا إلى أقصى حدود التزمت حتى إنه ليعد العشق رسول الفسق والهوى وداعية الضلال.
وله في شكوى ما كان عليه في شبابه الباكر من ضيق ذات اليد وشظف العيش أبيات طريفة من قصيدة بعنوان "الفجور بعد العفة" التي نشرها بجريدة "مصر الفتاة" في أول أكتوبر 1909، والطرافة في هذه الأبيات أن طه حسين يغبط فيها الشاعرين الكبيرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم على أنهما أفلتا من معاناة الفقر وشظف العيش، وهذا أمر غريب فقد يكون ذلك معقولا بالنسبة لأحمد شوقي الذي كان موظفا بالمعية الخديوية ويعيش في كنفها منعما مرفها ولكنه بالقطع غير معقول بخصوص حافظ إبراهيم (26) الذي أجمعت الأخبار وتواترت الحكايات تتحدث عن فقره ورقة حاله مما يدل على شدة معاناة طه حسين للفقر وشظف العيش في تلك الأيام فيقول:
إذا شكا البــؤس كــل ندب .. فـــقد نجا منـــــه شـــاعران (27)
بينا نعانيــه كــان شـــوقي .. يقصف في كـرمة ابــن هاني (28)
و حافظ في القطــار يلهو .. مشــرد الهم غـــــــــير عاني (29)
أذاك أم مســـه شقـــــــاء .. فانتجع الواصـــــــل المداني؟
ثــــــــم انثنى بالصــــفايا .. من صلف الدهــر في ضمان (30)
فليطب الشــــاعران نفسا .. إنا رضــيـنا بمـــــا نـــــعاني
ما سـرني ســاعة كبؤسي .. والأدب الغـــض صـــاحبان
ومن أمثلة شعره في الهجاء قصيدة كتبها يهجو فيها الشاعر عبد الرحمن شكري (31) ونشرها بجريدة الجريدة" في 2 نوفمبر 1911 بعنوان "إلى عبد الرحمن شكري"، ولتلك القصيدة قصة فقد نشر طه حسين في جريدة "الجريدة" مقالا ذهب فيه إلى أن "سليقة الشعر قد فسدت وأن أسلوب شعراء هذا العصر أسلوب فاسد إذا قيس بأسلوب شعراء الدولة العباسية"، فرد عبد الرحمن شكري في عدد آخر من نفس الجريدة مفندا ما قاله طه حسين، وفي رده يقول عبد الرحمن شكري تحت عنوان "لحن الشعراء ومستقبل الشعر العربي": "قرأت عدة مقالات في الجريدة لأديب اسمه طه أفندي حسين ويعجبني منه كثير من صريح آرائه غير أني لاأرى رأيه في قوله إن سليقة الشعر قد فسدت وأن أسلوب شعراء هذا العصر فاسد إذا قيس بأسلوب شعراء الدولة العباسية" ويستطرد قائلا: "ربما ظن بعض القراء أن الشعراء يقيسون الشعر على التفاعيل في وقت صنعه، هذا ما يظنه كثيرون ممن لا يعالجون الشعر، وأظن أن هذا ما يظنه الأديب طه أفندي حسين" (32)، وقد أحنق الرد طه حسين فبدلا من أن يقارعه الحجة بالحجة والرأي بالرأي لجأ إلى أسلو ب قديم في النيل من خصمه وهو أن يهجوه شعرا فقال :
قل لشــكري فقد غــــلا وتــــمادى .. بعض ما أنت فيـــــه يـشــفي الفؤادا
بعض هذا فأنت في الشـعـر والنـثـ .. ر أديــــــــــب لا تعجــــــز الـــنقادا
لو تفهمـــــت قــــولنا لـــم يكلفـــ .. ـــك هـوى نـقـــدنا الضنى والســهادا
واقتصـد في الغلــــــو إن لديـــــنا .. إن تسـائل بـنـــــــا نصـــــالا حدادا
خل عنك القريـــض لست بأمضى .. فيــــــــه ســــــهـما ولا بأورى زنادا (33)
ومن أمثلة شعر المديح لدى الدكتور طه حسين هذه المقطوعة التي نشرها بعدد جريدة "الجريدة" الصادر في 9 نوفمبر 1913، ويمدح فيها الأميرة فاطمة إسماعيل (34) بمناسبة تبرعها بالغ السخاء لإنشاء الجامعة المصرية:
عشت للشرق فإن الشرق محـتاج إليك
رفع الله منـار العـلم فيــــــــــــــه بيديك
وهب الجامعة السعد فنالـــــت نعمتيك
فهي في أمن من الدهر بمـا فازت لديك
يا مثال الجـــود والــبر لنــــا في بلديك
إنما الحمد وحسن الذكر موقـوف عليك
ولم يقتصر الدكتور طه حسين على كتابة الشعر الفصيح فقد عالج أيضا كتابة الشعر العامي، وكتب أغاني لم يصلنا منها سوى كلمات أغنية واحدة لحنها الموسيقار كامل الخلعي، وعنها يتحدث الأستاذ سامي الكيالي (35) فيقول: إن "لجنة الموسيقى بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (36) بينما هي تبحث في موضوع إحياء ذكرى كامل الخلعي ونشر تراثه قدم لهم الأستاذ أحمد بسيوني زوج كريمة الخلعي مجموعة ضخمة ومتنوعة من ألحان صهره، وكانت المفاجأة المذهلة أن يجدوا من بينها أغنية كتب عليها كامل الخلعي بخط يده: "من تأليف الشيخ طه حسين" ، ومنها قوله:
أنا لـــــولاك .. كنت مـــــلاك
غير مسمـوح .. أهوى ســواك
سامحني
في العشـــاق .. أنا مشــــــتاق
أبكي و انوح .. بالأشـــــــواق
صدقني
عهدك فيـن .. نــــور العـيــن ؟
بالمفتـــــوح .. تهـــــوى اتنين
جاوبني
واحــــد بس .. يهـــوى القلب
قلبي يبـــوح .. لـــه بالحــــب
طاوعني
أنا أهــــواك .. مـــين قســـاك ؟
أنا مجـــروح .. غايتي رضـاك
واصلني
وقد سجلت شركة "الفونوغراف" الأغنية على أسطوانة، ونرجح أنها كتبت على الأغلب خلال الفترة من 1910 إلى 1914.


سعد عبد الرحمن / مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى