سعد عبد الرحمن - طاها حسين شاعرا.. (الجزء الثالث والأخير)

(الجزء الثالث والأخير)


وبالرغم من أن الدكتور طه حسين قد أدار ظهره كما سبق أن أشرنا لموهبته كشاعر إلا أنه ليس صحيحا - إلا على وجه العموم والإجمال - ما جزم به الأستاذ محمد سيد كيلاني حين قال بأن العميد "منذ أن سافر إلى أوربا عام 1914 لم نر له ولا بيتا واحدا فقد هجر القريض هجرا تاما (37) ونسي الناس هذا الشاعر الموهوب بل ربما يكون هو قد نسي شعره"، فقد كان الدكتور طه حسين يستجيب بين الحين والآخر لشيطان الشعر فيكتب بعض أبيات يضمنها تضاعيف كتاباته النثرية كجزء من نسيج النص الذي يكتبه ولكنه كان يكتب تلك الأبيات على استحياء لأنه لا يريد أن يلفت نظر أحد إلى أنه ما زال يكتب شعرا، ومن الأمثلة على ذلك النص الذي تحدث عنه الأستاذ دريني خشبة في مجلة الرسالة (38) وهو نص ورد في فصل بعنوان "ذو الجناحين" تضمنه الجزء الثالث من كتاب "على هامش السيرة" والنص ينسبه دريني خشبة إلى الشعر المرسل (39) وهو شكل من أشكال التجديد الشعري التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين لا يختلف عن الشكل الأصيل المعروف بالعمودي إلا في أنه مرسل القافية أي لا يتقيد الشاعر فيه بوحدة القافية بل يرسلها إرسالا حرا، والأبيات موزونة على بحر المديد (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن)، ويفسر دريني خشبة كتابة الدكتور طه حسين لذلك النص الشعري وكأنه نص نثري فلم يوزعه شطرا شطرا بأن "غرضه من ذلك ألا ينبه القارئ إلى أنه يقرأ شعرا فينفر خصوصا إذا علم أنه يقرأ شعرا مرسلا"، والنص هو كما يلي:
أقبــــلت تسعى رويـــــــــدا رويدا .. مثـــل ما يسعى النسيـــــم العليل
لا يمس الأرض وقــــــــع خطاها .. فهي كالروح ســـرى في الفضاء
نشر الليـــــــل عليــــــــها جـنـاحا .. فهي سر في ضميـــــــر الظلام
وهبت للــروض بـــــعض شـذاها .. فجـــــزاها بثنــــــــــــــاء جميل
ومضى ينشــر فيـــــــه عبيــــــرا .. مستثيــــــرا كامنــــات الشجون
فإذا الجـــــدول نشـــــــوان يبدي .. من هـــــواه ما طـــــواه الزمان
ردت الذكـــــرى عليـــــــــه أساه .. ودعا الشــــوق إليــــــه والحنين
فهو طـــورا شاحـــــب قــــد براه .. من قديـــم الوجد مثــــل الهزال
صحب الأيــــام يشكـــــــو إليــها .. بثـه لــــــــو أســـــــعدته الشكاة
وهو طـورا صاخب قـــــد عـراه .. من طريــف الحب مثــل الجنون
جاش حتى أضحك الأرض مــنه .. مـــــن ريـــــاض بهجــة للعيون (40)
ونفــــوس العاشقيــــــن كـــرات .. يعبـــث اليــــــــأس بها والرجاء
كحيـــــــاة الدهــــر تأتي عليـــها .. ظلمة الليــــــــل وضــوء النهار
أما الشاعر فتحي سعيد ففي مقالته "بين رماد الشاعر وجذوة الناقد" (41)- وقد سبقت الإشارة إليه - فالبرغم من أنه فطن إلى شعرية النص الذي ورد كتابة في شكل نثري بكتاب "على هامش السيرة" فقد رأى أن النص يمكن تحويله إلى نص شعري له كل سمات الشعر العمودي مع بعض التبديل والتعديل فقال: فإذا أصغينا لحفيف الإيقاع في هذه القطعة النثرية لاكتشفنا شعرا شجيا متحرر القافية قليلا متوحد البحر، ولو شاء أن يكون شعرا لما كلفه ذلك إلا بعض التعديل الطفيف وإبدال الكلمات وحروف الروي وتقطيعها في قالب الشعر لتجيء القصيدة من بحر المديد، بالرغم من أنه مكون من تفعيلة ثقيلة الإيقاع (فاعلاتن) وأخرى قافزة الإيقاع (فاعلن) وتبدو واضحة لنا إذا كتبت على هذا النحو مع قليل من الإبدال والتعديل"، وقد أعاد صياغة النص ليكون النص عموديا فجعل الأبيات الأربعة من قافية واحدة هي الهمزة (الرخاء، الفضاء، المساء، الثناء) وبقية الأبيات وعددها سبعة من قافية النون (الشجون، السنون، الجنون، الفنون، العيون، الظنون، المنون).
ومنها أيضا تلك الأبيات التي أشار إليها الشاعر إبراهيم محمد نجا في مجلة الرسالة (42)؛ وقد جاءت الأبيات التي تندرج موسيقاها تحت ما يطلق عليه العروضيون اسم "مخلع البسيط" (43) مفتتحا لفصل "الغانيات" من كتاب الدكتور طه حسين "جنة الحيوان" حيث يقول:
من أيــــــن أقبلـت يا ابنتي؟.. من حيــــــــث لا تبلغ الظنون
ماذا تريديـــــــــن يا ابنتي؟ .. أريـــــــــد مـــــــا لا تقدرون
كيــــف تقوليــــــن يا ابنتي؟.. أقـــــــــول مـــا لا تصدقـون
أسرفت في الرمــز يا ابنتي .. بل ما لكم كيــــــف تحكمون؟
وينظر الشيـــــخ حـــــــوله .. فلا يـرى مـــــــــــن يحـاوره
وينكر الشيــــــــخ نفســـــه .. ولا شكــــــــــــــوك تســاوره
فقد رأى شخصها الجميـــل .. تظله هـــــــــــــــذه الغصـون
ولم يزل صـوتها الضئيـــل .. يثيــــــــر في نفسـه الشجــون
وكانت الشمس قــد تـولــت .. كالأمــــــل الخائــب الكــذوب
وظلمة الليـــــــل قــد أطلت .. كاليــأس إذ يـــــغمر القلـــوب
كما كان الدكتور طه حسين يقرض الشعر أحيانا على لسان شخصيات في بعض رواياته كالأبيات التي جاءت على لسان جنيات يلطمن وجوههن وهن يتغنين بمثل ما تتغنى به النادبات بحسب ما أخبرت به شخصية "أم رضوان" في روايته "شجرة البؤس":
يا ساريات في السحر .. يسعين في ضـوء القمر (44)
إذا بدا الصبــح الأغر .. فقلــن يا "نشــر الزهر"
إن أبا يحيى عمــــــر .. أصابه سهــــــــم القدر
فهو صريـع محتضر .. هل لك فيــــه من وطر؟
كما كان الدكتور العميد يقرض الشعر في بعض مواقف المزاح والدعابة، فقد روى سكرتيره فريد شحاتة (45) في حديث أجراه معه بعد وفاة الدكتور طه حسين الصحفي محمد شلبي (46) هذه الأبيات الطريفة التي جاءت في سياق موقف يتعلق بالأكل والطعام:
كل ما استطعت ولا تخف .. ثقــــل الطعـــــــام وإن قتل
خاب الذيـــــــن تطبّبـــــوا .. جـــوعا و أفلـح مـــن أكل
لله درك يـــــــا فـــــــــريــــــد وما رويـــت مــن المثل
وجع البطون على الرجا .. ل أخـــف مـــــن كـب الحلل
ثق أن ذاك هــــو الصوا .. ب وماســـواه هـــــو الخطل
وفي سياق المخاطبات الإخوانية كان الدكتور طه حسين أحيانا يرد على أصدقائه بالشعر لا سيما إذا خوطب شعرا، يروي الأستاذ مصطفى الشهابي (47) أن الشاعر علي الجندي عميد كلية دار العلوم الأسبق كان قد مر بأزمة نفسية عصيبة وشد الدكتور طه حسين من أزره فيها فكتب إليه هذه الأبيات يشكره على موقفه:
من لي بمثل بيان طه .. مبدع السحــــر الحلال ؟
حتى أقـــوم بشكر ما .. أوليــت يا فخر الرجال
كنز المـــــــــروءة أنت بين العالميـن بلا جدال
حققت آمالا ظنــــــــنت بلــــوغهن من المحال
فلك الثنـــاء ولا برحت لجيـــــــــلنا أبهى مثال
فكتب الدكتور طه حسين يرد عليه بهذين البيتين :
من لي بقلب مثــــــل قلبك أو بفن مثـــــل فنك؟
حتى أقـــــوم بشكر مـا أوليتني مـن حسن ظنك
------------
رحم الله الدكتور طه حسين فقد ملأ الدنيا وشغل الناس في كل أحواله شاعرا وناثرا وباحثا وصحفيا وأستاذا جامعيا وناقدا أدبيا وناشطا سياسيا ووزيرا.
___________
هوامش وتعليقات
(1) - الشيخ عبد العزيز جاويش (1876 - 1929) كاتب وصحفي ومعلم يعد من أشهر أعلام النهضة المصرية في الفترة ما بين الثورة العرابية 1882 وثورة 1919؛ شارك في تحرير صحيفتي اللواء والمؤيد وترأس تحرير اللواء بعد وفاة الزعيم مصطفى كامل كما ترأس تحرير جريدة الهداية ثم العلم التي أسسها الزعيم محمد فريد 1910.
(2) - انظر ص 23 و24 من كتابه "الأيام" ج 3 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994.
(3) - انظر ص 24 من المرجع السابق.
(4)- اجتاح وباء الكوليرا البلاد بدءا من قرية "موشا" جنوبيّ أسيوط وحصد آلافا من الأرواح في مختلف المديريات.
(5)- انظر ص 119 ج 1 من "الأيام" ط 5 لجنة التأليف والترجمة والنشر 1939.
(6)- خطب الزيات في الحفل فذكر أن أستاذه الشيخ سيد المرصفي كلفهم بالكتابة في أحد الموضوعات شعرا ونثر وأن طه حسين غدا على الشيخ بـقصيدة "حماسية الموضوع جاهلية الأسلوب" ويعلق على ذلك بقوله "سمعنا تلك القصيدة فازدرينا أنفسنا وسترنا ما قلنا وشعرنا بالضعف أمام تلك القوة النادرة" وتأكد لتلاميذ الشيخ المرصفي أن طه حسين "كان يبزهم في نثره وشعره كما كان يبزهم في حفظه وفهمه".
(7)- انظر ص 72، ص74 من الكتاب ط أخبار اليوم 1990.
(8)- انظر ص 83 من الكتاب ط الهيئة العامة لقصور الثقافة 1989.
(9)- جريدة "الجريدة" كانت لسان حال "حزب الأمة"، وكان يشرف على تحريرها الأستاذ أحمد لطفي السيد.
(10)- حزب الأمة أحد ثلاثة أحزاب سياسية تأسست عام 1907 ؛ وهو حزب ليبرالي؛ وقد أسس الحزب مجموعة من كبار ملاك الأراضي الزراعية وبعض كبار رجال السياسة والصحافة آنذاك.
(11)- حسن باشا عبد الرازق هو عميد أسرة عبد الرازق ووالد الشيخين الشهيرين مصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق وأحد كبار مؤسسي حزب الأمة؛ وقد كانت علاقة أسرة طه حسين بأسرة آل عبد الرازق في الواقع علاقة وثيقة ومركبة لا مجال لتفصيلها هنا وأبسط جزء في تلك العلاقة أنهما كانا من منطقة واحدة في صعيد مصر.
(12) هم حاتم الطائي وعمرو بن معديكرب وأكثم بن صيفي والثلاثة من مشاهير العرب في الجاهلي
(13)- عبدة بن الطبيب هو عبدة بن عمرو بن يزيد؛ شاعر مخضرم (عاش في الجاهلية والإسلام) ويقال إن أرثى بيت قالته العرب البيت هو قوله (وماكان قيس هلكه هلك واحد.. إلخ). (14)- كان طه حسين في الحادية والعشرين تقريبا من عمره حين كتب هذه القصيدة.
(15)- عدد أبيات القصيدة واحد وستون بيتا.
(16)- إعادة العمل بهذا القانون كانت أحد أسباب أربعة أدت إلى اغتيال بطرس باشا غالي رئيس الوزراء على يد الشاب إبراهيم ناصف الورداني في 10 فبراير 1910.
(17)- نَكال أي عقاب شديد قاس.
(18)- السفيه الغالي أي المفرط في السفه.
(19)- من غلوائهم أي من تشددهم واندفاعهم.
(20)- مشروع مد امتياز قناة السويس كان مشروعا تقدمت به شركة قناة السويس لمد عقد امتيازها مدة 40 سنة أخرى لينتهي 2008 بدلا من 1968؛ ولكن الحركة الوطنية عارضت ذلك بقوة وكان ذلك سببا آخر من أسباب اغتيال بطرس باشا غالي
(21)- في أعقاب فشل الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر ألغى الخديوي توفيق "مجلس النواب" المنتخب وأصدر قانونا نظاميا في مايو 1983 نشأت بموجبه هيئة تشريعية عرفت باسم "مجلس شورى القوانين".
(22)- واكف همع أي ماطر غزير.
(23)- المسمّطات شكل من الشعر قال بعضهم بأنه وجد في العصر الجاهلي؛ وتتكون المسمطة من مقاطع كل مقطع من أربعة أشطر تتفق في قافية واحدة ما عدا الشطر الأخير فيكون مستقلا بيد أنه يتفق مع نظائره في سائر المقاطع.
(24)- الشادن هو الغزال الصغير.
(25) الأناة أي الصبر والتريث.
(26)- حافظ إبراهيم (1872 - 1932) أحد أقطاب مدرسة البعث والإحياء الشعرية ويلقب بشاعر النيل؛ كان من "الذين أدركتهم حرفة الأدب" كما يقول الشاعر طاهر أبو فاشا في كتابه الذي يحمل هذ العنوان ولذلك كان كثيرا مايكتب في شكوى البؤس وسوء الحال؛ ولكن حالته تحسنت بعد عام 1911 عندما عين موظفا بدار الكتب.
(27)- الندْب هو النشيط المجتهد.
(28)- يقصف أي يلهو، و"كرمة ابن هانئ" اسم أطلقه أمير الشعراء أحمد شوقي على بيته وابن هاني هو أبو نواس الشاعر العباسي المعروف.
(29)- العاني أي المتعب المرهق.
(30)- الصفايا أي الأشياء الثمينة القيمة.
(31)- عبد الرحمن شكري (1886 - 1958) شاعر من دعاة التجديد يعد ثالث ثلاثة عرفوا باسم "مدرسة الديوان" مع صديقيه عباس العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني.
(32)- انظر كتاب "طه حسين .. الكاتب الشاعر" لمحمد سيد كيلاني ص 42 و43.
(33)- أي لست من يخشى منه في الشعر فهناك من هو أقوى منك وأحدّ سلاحا.
(34)- الأميرة فاطمة إسماعيل هي بنت الخديوي إسماعيل (1853 - 1920) تبرعت لإنشاء الجامعة المصرية عام 1908 بالكثير من أراضيها الزراعية وأوقفت صافي ريع آلاف الأفدنة من أراضيها أيضا؛ كما باعت الكثير من حليها وجواهرها الثمينة لهذا الغرض.
(35)- انظرص 138 من كتابه "مع طه حسين" في سلسلة "اقرأ" التي تصدرها دار المعارف ط 1973.
(36)- تأسس المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1956 وكان تابعا لوزارة التربية والتعليم حتى ظهرت للوجود وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1958، وهو الآن يسمى "المجلس الأعلى للثقافة".
(37)- انظر مقالة "طه حسين الشاعر" لمحمد سيد كيلاني المنشورة بالعدد 914 من مجلة "الرسالة" الصادر في 8 يناير 1951.
(38)- انظر مقالته "موسيقا" بمجلة الرسالة بالعدد 518 الصادر في 7 يونيو 1943.
(39)- "الشعر المرسل" شكل من أشكال التجديد الشعري ظهر في النصف الأول من القرن العشرين لا يختلف عن الشكل الأصيل المعروف بالعمودي إلا في أنه مرسل القافية أي لا يتقيد الشاعر فيه بوحدة القافية بل يرسلها إرسالا حرا وقد اقتبسه الشعراء العرب من شكل من أشكال الشعر الأوربي يعرف بـ"Blank Verse".
(40) جاش أي اهتز واضطرب
(41)- انظر ص 92 - 94 من كتابه "مع الشعراء" - مرجع سابق.
(42)- انظر مقالته "جنة الحيوان" للدكتور طه حسين بالعدد 873 من مجلة "الرسالة" الصادر في 27 مارس 1950.
(43)- حين يدخل عروض مجزوء بحر البسيط وضربه "الخبن والقطع" والخبن هو حذف الثاني الساكن من (مستفعلن) فتصير (متفعلن) أما القطع فهو حذف آخر الوتد المجموع مع تسكين ما قبله فإن (مستفعلن) تصير (متفعل) أي (فعولن)؛ وفي هذه الحالة يسمى هذا الوزن (مخلع البسيط) ويكون كالتالي (مستفعلن فاعلن فعولن .. مستفعلن فاعلن فعولن).
(44)- الأبيات من مجزوء الرجز(مستفعلن مستفعلن).
(45)- السكرتير الشخصي للدكتور طه حسين لأكثر من أربعين عاما.
(46)- انظر ص 152 من كتابه "مع رواد الفكر والثقافة" ط الهيئة العامة للكتاب 1982.
(47)- انظر مقالته بعنوان "مواقف وطرائف من حياة طه حسين" بمجلة الهلال - عدد إبريل 1975.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى