استيقظت على صوت أهازيج صبايا، تنساب عذوبة من نافذة الغرفة، جعلتني أهجر طواعية نومي، وأغادر خدر فراشي الدافئ، أتلصص خلف شقوق الشيش، لم أتتبع ما تحمله الصواني والمشنات، بما لذّ وطاب، لم أرَ شيئًا، ملفوفة بقماش أبيض، تبدو مثل سحائب ترتع وتلعب فوق رؤوسهن.
أطرقت ثملًا بما أسمع، كلمات مثل نور الفجر المغسول بالندى، بللت وجهي الناعس، بنسمة باردة مسكونة بقطرات من ماء النيل:
صباح الخير يا جبنة طرية / يا عسل أبيض من جوه الخلية
ظلت مثل حافظة نقودي، أتحسسها من وقت لآخر، فبقيت منقوشة على جدار ذاكرتي، حتى بعد أن أصابته تشققات الشيخوخة وتآكلت بالتدرج وبفعل الزمن، واجهته الأسمنتية الصلبة.
قبلها بأيام، ترامى إلى أذني النصف الآخر، من النقيض المظلل بشخبطة أقلام الصمت الخجول:
أيوه يا واد يا ولعة / خدها ونزل الترعة
يا منجد علي المرتبة / اعمل حساب الشقلبة
اعمليله حلة محشي / يغرق فيها ما يطلعشي..
أهو جالك أهو
امتى يخش الخِل ويَّا خليله / ويقفش الرُّمَّان على السِّجادة
أضحك كلما تذكرت كلمة "مجتمع محافظ"، لم أسمع عنها قبل أن أغادر إلى المدينة، في قريتنا كنا نسمع كلمة "العيب".. وأرى وجه شيخي يحمر خجلًا، إذ طلب منه فتوى على سؤال جريء.
تعرّفت على معنى "المجتمع المحافظ"، بعد أن اتسعت الدنيا من ضيق البيت والغيط، إلى أفق يمد جنونه المجهول، إلى ما بعد "اللا شيء".. يغير جلده مثل الحرباء، يصدق وهو الكذوب.. فنركض خلفه مغيبين جري الوحوش في البرية.
أضحك.. كلما تذكرت الحياء في قريتي! فإذا ذكرت القرية، يُذكر معها مناقب أهلها في الفضيلة، وترفع جوارحهم عن الرذيلة، حتى أني كلما صادفت عيني أو سمعت أذني كلمة "مجتمع محافظ" تثب إلى صفحة خاطري وبلا تدقيق كلمة "القرية".
مثل زعابيب أمشير، تتطاير الذكريات وترتطم في خواطري الهشة، تلقي بي من جديد إلى تجاربي الريفية الغضة، وأضحك مع غمز عين "المجتمع المحافظ" وكأنه يهزأ بنا.
دعيت مرة لحضور حفل زفاف قريبة لي، تجمع الرجال في غرفة، لصق غرفة مكتظة بالنساء وصبايا يقمن بدور الكُورَس، تتوسطهن سيدة مسنة، تمسك طبلة أو دفا لا أتذكر، لا يفصل الغرفتين إلا باب واسع مفتوحة ضلفتيه، نراهن ويروننا رأي العين، وقد تخلت العيون المغضوضة عن حيائها، وتلفعت الأصوات الخفيضة بوقاحتها، وداهمتنا المرأة العجوز، بصوتها المبحوح الخشن وهي تشدو:
ياللى ع الترعة حوِّد ع المالح
الصبايا: وشوف الحلوة اللي عودها سارح
العجوز: رجلى بتوجعني...
الصبايا: من إيه؟
العجوز: رجلي بتوجعني من مشى إمبارح
الصبايا: ياللى ع الترعة حوِّد ع المالح
العجوز: شعري بيوجعني
الصبايا: ... من إيه؟
العجوز: شعري بيوجعني من شد امبارح
يااللي ع الترعة حود ع المالح
العجوز: وسطي بيوجعني
الصبايا:... من إيه
العجوز: وسطي بيوجعني من رقص امبارح
الصبايا: يااللي ع الترعة حوّد ع المالح
ونحن شباب.. كانت تخور قوانا، أمام غواية تتبع الغوازي في الأفراح، بقريتنا أو بالقرى المجاورة، وفي ليلة صيف بأنفاسها اللزجة، احتشد نصف شباب البلد وفلاحوها، أمام عربة "كارو"، نصبتها عائلة لتحيي عليها حفل زفاف نجلهم الوحيد، جلس أربعة آلاتية بالناي والأكورديون والعود والطبلة.. ثم اندفعت فتاة ممشوقة القوام رائعة الجمال، عليها بدلة رقص تظهر من جسدها الشهي الناعم أكثر مما يخفي، وبعد وصلة مياصة وخلاعة لم تطل، ضج المكان بالصياح والهياج، خلعوا الطواقي، وظهرت الرؤوس العارية وهي تعلو وتهبط بين أعواد غاب الجوزة، ودخان الحشيش ينفث سحائبه فوق المكان، قبل أن يختفي بين يدي الظلام، يلحون عليها بأغنية "دبور قرصني"!
وهو "استربتيز" إباحي بلدي، تبدأ الراقصة بـ"دبور قرصني" فيردُّ الجمع: "قرصك فين؟"، فتشير بإصبعها إلى عنقودي العنب، تحت حمالة الصدر الشفيفة، ثم تتجه جنوبًا، حيث مناطق القيظ اللذيذ، حتى تلامس أغلى ما تشتهيه العيون الجائعة من فواكه محرمة، فتضرم النار في أعواد الحطب المكدود من حولها، إذ ذاك اقتلعتني خماسين خواطري المتضاربة، من تحت أكوام الروث بالأرض السبخة، وعدت وحيدًا تربت على جسدي المثخن بتقيحات الليلة، لسعة نسمات باردة قبل الفجر، تغالبني الحقائق والأساطير: هل تعرّت الراقصة وحدها؟!.. أم كانت لحظة تعرية للحقيقة المختبئة تحت جلد الأخلاق المصطنعة؟!.
أطرقت ثملًا بما أسمع، كلمات مثل نور الفجر المغسول بالندى، بللت وجهي الناعس، بنسمة باردة مسكونة بقطرات من ماء النيل:
صباح الخير يا جبنة طرية / يا عسل أبيض من جوه الخلية
ظلت مثل حافظة نقودي، أتحسسها من وقت لآخر، فبقيت منقوشة على جدار ذاكرتي، حتى بعد أن أصابته تشققات الشيخوخة وتآكلت بالتدرج وبفعل الزمن، واجهته الأسمنتية الصلبة.
قبلها بأيام، ترامى إلى أذني النصف الآخر، من النقيض المظلل بشخبطة أقلام الصمت الخجول:
أيوه يا واد يا ولعة / خدها ونزل الترعة
يا منجد علي المرتبة / اعمل حساب الشقلبة
اعمليله حلة محشي / يغرق فيها ما يطلعشي..
أهو جالك أهو
امتى يخش الخِل ويَّا خليله / ويقفش الرُّمَّان على السِّجادة
أضحك كلما تذكرت كلمة "مجتمع محافظ"، لم أسمع عنها قبل أن أغادر إلى المدينة، في قريتنا كنا نسمع كلمة "العيب".. وأرى وجه شيخي يحمر خجلًا، إذ طلب منه فتوى على سؤال جريء.
تعرّفت على معنى "المجتمع المحافظ"، بعد أن اتسعت الدنيا من ضيق البيت والغيط، إلى أفق يمد جنونه المجهول، إلى ما بعد "اللا شيء".. يغير جلده مثل الحرباء، يصدق وهو الكذوب.. فنركض خلفه مغيبين جري الوحوش في البرية.
أضحك.. كلما تذكرت الحياء في قريتي! فإذا ذكرت القرية، يُذكر معها مناقب أهلها في الفضيلة، وترفع جوارحهم عن الرذيلة، حتى أني كلما صادفت عيني أو سمعت أذني كلمة "مجتمع محافظ" تثب إلى صفحة خاطري وبلا تدقيق كلمة "القرية".
مثل زعابيب أمشير، تتطاير الذكريات وترتطم في خواطري الهشة، تلقي بي من جديد إلى تجاربي الريفية الغضة، وأضحك مع غمز عين "المجتمع المحافظ" وكأنه يهزأ بنا.
دعيت مرة لحضور حفل زفاف قريبة لي، تجمع الرجال في غرفة، لصق غرفة مكتظة بالنساء وصبايا يقمن بدور الكُورَس، تتوسطهن سيدة مسنة، تمسك طبلة أو دفا لا أتذكر، لا يفصل الغرفتين إلا باب واسع مفتوحة ضلفتيه، نراهن ويروننا رأي العين، وقد تخلت العيون المغضوضة عن حيائها، وتلفعت الأصوات الخفيضة بوقاحتها، وداهمتنا المرأة العجوز، بصوتها المبحوح الخشن وهي تشدو:
ياللى ع الترعة حوِّد ع المالح
الصبايا: وشوف الحلوة اللي عودها سارح
العجوز: رجلى بتوجعني...
الصبايا: من إيه؟
العجوز: رجلي بتوجعني من مشى إمبارح
الصبايا: ياللى ع الترعة حوِّد ع المالح
العجوز: شعري بيوجعني
الصبايا: ... من إيه؟
العجوز: شعري بيوجعني من شد امبارح
يااللي ع الترعة حود ع المالح
العجوز: وسطي بيوجعني
الصبايا:... من إيه
العجوز: وسطي بيوجعني من رقص امبارح
الصبايا: يااللي ع الترعة حوّد ع المالح
ونحن شباب.. كانت تخور قوانا، أمام غواية تتبع الغوازي في الأفراح، بقريتنا أو بالقرى المجاورة، وفي ليلة صيف بأنفاسها اللزجة، احتشد نصف شباب البلد وفلاحوها، أمام عربة "كارو"، نصبتها عائلة لتحيي عليها حفل زفاف نجلهم الوحيد، جلس أربعة آلاتية بالناي والأكورديون والعود والطبلة.. ثم اندفعت فتاة ممشوقة القوام رائعة الجمال، عليها بدلة رقص تظهر من جسدها الشهي الناعم أكثر مما يخفي، وبعد وصلة مياصة وخلاعة لم تطل، ضج المكان بالصياح والهياج، خلعوا الطواقي، وظهرت الرؤوس العارية وهي تعلو وتهبط بين أعواد غاب الجوزة، ودخان الحشيش ينفث سحائبه فوق المكان، قبل أن يختفي بين يدي الظلام، يلحون عليها بأغنية "دبور قرصني"!
وهو "استربتيز" إباحي بلدي، تبدأ الراقصة بـ"دبور قرصني" فيردُّ الجمع: "قرصك فين؟"، فتشير بإصبعها إلى عنقودي العنب، تحت حمالة الصدر الشفيفة، ثم تتجه جنوبًا، حيث مناطق القيظ اللذيذ، حتى تلامس أغلى ما تشتهيه العيون الجائعة من فواكه محرمة، فتضرم النار في أعواد الحطب المكدود من حولها، إذ ذاك اقتلعتني خماسين خواطري المتضاربة، من تحت أكوام الروث بالأرض السبخة، وعدت وحيدًا تربت على جسدي المثخن بتقيحات الليلة، لسعة نسمات باردة قبل الفجر، تغالبني الحقائق والأساطير: هل تعرّت الراقصة وحدها؟!.. أم كانت لحظة تعرية للحقيقة المختبئة تحت جلد الأخلاق المصطنعة؟!.