اعتاد كل مساء، بعد صلاة المغرب، أن ينضم إلى الجالسين عند باب الجامع، بينما الفقيه وطلبته يتلون الحزب الراتب، وأحيانا يلتحق بباب الدكان الوحيد في قلب الحومة، حيث يقتعد صندوقا خشبيا، ويجلس متفرجا على لاعبي الورق، لتزجية الوقت، انتظارا لآذان العشاء.
بعد الصلاة، يملأ، بّا بوشتى؛ هكذا كانوا ينادونه، سطْلين من ماء العين، ثم يلتحق بالبيت، وقد يعرج على صديق له اسمه أحمد، فيدخانان قليلا من القنب الهندي قبل أن يغادر. رجل تجاوز عمره العقد السادس بقليل، لكنه مازال منتصب القامة في مشيه، لا ولد له ولا زوجة، رأس ماله خرفان وأتان ، ودجاجات وديوك حسنة الصوت. هو أيضا لسانه رطب، لا يتدخل في شؤون غيره ولا يجاحد حتى وإن هضم حقه. يحفظ كثيرا من الحكم، ومن الكلام المأثور، وإذا تغنى يردد رباعيات لشعراء الملحون.
يقول الفضوليون الذي نبشوا في سيرته، أنه ينحدر من قبيلة مجاورة، وأنه حل بالقرية مذ كان في ريعان الشباب، وتنقل بين المنازل يرعى المواشي، ولما أبان عن موهبته في العمل الزراعي، صار ذوو الأملاك والأصول الفلاحية يتهافتون عليه في بداية كل موسم فلاحي، لذا اشتغل خماسا لدى الكثيرين منهم.
هكذا سار به الحال عاما بعد عام.. وذات مساء من صيف حار، بلغ المسامع، على حين غرة، هدير شاحنة صغيرة لكنها قديمة، وهي تتسلق المسلك الجبلي الصخري، حتى إذا اقتربت من المساكن تعالت منها أصوات قرع الطبول والنفخ في الغيطة وزغاريد النسوة وتهاليل الرجال المرافقين للموكب، تعبيرا عن الفرح ودعوة عامة لحضور السهرة. كثيرون كانوا يعلمون أن عروسا، قادمة من بعيد، ستزف لعريسها تلك الليلة، لذلك اضطر أهله لكراء المركبة بدلا من استعمال البغال.
شارك الناس الأسرتين فرحهما في سهرة العرس، وكان بّا بوشتى وصديقه من بين الحضور، سيما وأنهما من الجيران، وقد اتخذا لهما موضعا، في الصف الأخير من الجهة المخصصة للكبار المقابلة للجوقة، قريبا من الخابيات المملوءة ماء.
انغمس المدعوون في أجواء الغناء والطرب في محاولة منهم كسر الرتابة ونسيان التعب المتلاحق طيلة فصل الصيف الحارق. ولشدة الحر، لم تتوقف الرِّجْل في اتجاه الخوابي، علما أن الواجب يقتضي تقديم الماء وأحيانا الشاي مع الحلوى للحاضرين سيما للكبار منهم. كذلك فعلت امرأة من موكب العروس ، فلعلها كانت مكلفة بحضار الماء للعروس ، فالحرص واجب في مثل هذه الظروف خوفا من كيد الحاسدات من بنات الدوار. وفي الوقت الذي حنت المرأة هامتها، تريد أن تغرف الماء لتملأ جرتها الصغيرة، نظرت إلى با بوشتى، المرة الأولى، ثم أعادت النظر ثانية ، وصرخت في وجهه: التهامي .. التهامي... أنت هنا؟. ثم سقطت مغمى عليها، من شدة ما أصابها... وقف با بوشتى مذهولا، ثم غادر المكان... بينما انضم صديقه إلى المحدقين بالمرأة، وحملوها إلى غرفة مجاورة، في محاولة لإسعافها، بعيدا عن عيون الناس. قالت إحداهن: لعلها تعرضت لهزة أو سمعت من أهل العريس كلاما أزعجها...بينما روى صديق با بوشتى ما جرى من طق طق إلى السلام عليكم.
باتت المرأة لا تعي أهي في السماء أم في الأرض، وزوجها بالقرب منها خائفا يترقب. ولما هلل المهلل معلنا أن حي على صلاة الفجر، استعادت المرأة وعيها، وقالت لزوجها دون مقدمات:
-لقد رأيت أخي التهامي ، رأيته البارحة بين المتفرجين.. كان يجلس خلف الصفوف، قرب الخوابي. كان يحمل في يده كيت وكيت، ويلبس كذا وكذا.
اندهش الزوج من هول المفاجأة، وقال: ماذا ؟ أخوك التهامي؟ هل هذا معقول ؟ هل جننت يا امرأة؟ ما الذي سيأتي بأخيك إلى هذه الجبال؟ ثم .. ثم، كيف يمكنك التعرف على شقيقك بعد مرور كل هذه الأعوام ؟ هذا على فرض أنه لايزال على قيد الحياة,, لقد غاب حينما كنا شبابا ، وها قد بلغنا من العمر عتيا.
نظرت إليه زوجته بوجه مقطب، وقالت : لا تقل هذا ، لست مجنونة يارجل. أستطيع التعرف عليه، ولوكان وسط الأربعين ممن يشبهونه.
في الصباح، انضم الزوجان إلى باقي أفراد الأسرة للسلام على العروس، وتناول طعام الفطور في حضرة مولاي السلطان، يتضاحكون أحيانا، ويستغربون من الخبر تارة أخرى. بعدئذ حضر صديق با بوشتى وزوجته، ومعهما هدية الصبْحِية لأهل العريس. وكانت مناسبة ليسأل أيضا عن حال المرأة، بل كانت فرصة لهذه الأخيرة أن تحاسبه في شأن صديقه. فكان جوابه :إن اسمه بّا بوشتى، وليس التهامي، يا سيدتي، أنا أعرفه من سنين خلت.
لكنها ظلت مصرة على رأيها، وطلبت منه أن يرتب لها معه لقاء، في المساء، حين تخلو الطريق من السابلة.
كانت فرحتها عارمة حين بلغت منزل با بوشتى. قرع صديقه الباب، ولما تأخر عن الجواب، أعاد الزوج الطرق بشكل أكثر قوة . وحينما فتح تلكأ كثيرا في الترحيب بهم، حتى حسبوا أنه طاردهم.
فقال صديقه : ألن تستقبل ضيف الله ؟
في الممر، وحينما جلسوا في الغرفة، كانت المرأة تشدد النظر إلى بّا بوشتى، ثم قالت: الآن أيقنت أنك التهامي .
رد عليها قائلا: ما هذا إلا إفك تفترينه .. أنا لا أعرفك يا سيدتي .
- لا تعرفني ؟ أنا أختك .. هل نسيت دوار المرجة؟ هل نسيت أختك السعدية؟ هانت عليك أمك التي توفيت كمدا؟ إني بجميع تفاصيل التفاصيل المتعلقة بصباك وشبابك خبيرة.. يا ابن أمي وأبي. مَنْ مِنَ الناس يعرفون قصة سبابة رجلك اليسرى؟ أنا أعرفها .. ألم تفقدها بضربة شاقور وأنت تفَأَسَ جُذُوعِ أشجار يابسة بأمر من والدك ؟ هيا انزع البلغة لنرى ؟ هيا...
بقي العجوز متماسكا خلف سكوته ، ثم في لحظة ما أحنى رأسه، ينظر أرضا.. ولما رفعها، كانت الدموع تبلل لحيته. نظر إليها طويلا ، ثم أرخى ذراعيه وضمها إليه حتى ارتوى.. ثم قال:
نعم: أنا التهامي، هل رضيت الان؟
لم ترد عليه...
"أنا التهامي الذي دفنتُه يوم خرجتُ من بيتنا.. منذ أريعين سنة، لم أكن أرغب في الارتباط بتلك الفتاة، نعم هي بنت عمي، لكني كنت أعرف قصتها مع رجل آخر تحبه، بينما ظللتم تتلكؤون حتى اختطفوا مني سمرائي أميرة الفؤاد ... يومها ، قررت أن أدفن التهامي الذي تعرفونه مع كل تلك الذكريات... قبل أن أقدم على أية حماقات.
لم يخطر على قلبي يوما أن أحدا سيأتي، وأنا في خريف العمر، إلى هذه الشعاب ليخرج التهامي الذي كنته ، من غياهب الماضي الذي دفنته فيه...".
بعد الصلاة، يملأ، بّا بوشتى؛ هكذا كانوا ينادونه، سطْلين من ماء العين، ثم يلتحق بالبيت، وقد يعرج على صديق له اسمه أحمد، فيدخانان قليلا من القنب الهندي قبل أن يغادر. رجل تجاوز عمره العقد السادس بقليل، لكنه مازال منتصب القامة في مشيه، لا ولد له ولا زوجة، رأس ماله خرفان وأتان ، ودجاجات وديوك حسنة الصوت. هو أيضا لسانه رطب، لا يتدخل في شؤون غيره ولا يجاحد حتى وإن هضم حقه. يحفظ كثيرا من الحكم، ومن الكلام المأثور، وإذا تغنى يردد رباعيات لشعراء الملحون.
يقول الفضوليون الذي نبشوا في سيرته، أنه ينحدر من قبيلة مجاورة، وأنه حل بالقرية مذ كان في ريعان الشباب، وتنقل بين المنازل يرعى المواشي، ولما أبان عن موهبته في العمل الزراعي، صار ذوو الأملاك والأصول الفلاحية يتهافتون عليه في بداية كل موسم فلاحي، لذا اشتغل خماسا لدى الكثيرين منهم.
هكذا سار به الحال عاما بعد عام.. وذات مساء من صيف حار، بلغ المسامع، على حين غرة، هدير شاحنة صغيرة لكنها قديمة، وهي تتسلق المسلك الجبلي الصخري، حتى إذا اقتربت من المساكن تعالت منها أصوات قرع الطبول والنفخ في الغيطة وزغاريد النسوة وتهاليل الرجال المرافقين للموكب، تعبيرا عن الفرح ودعوة عامة لحضور السهرة. كثيرون كانوا يعلمون أن عروسا، قادمة من بعيد، ستزف لعريسها تلك الليلة، لذلك اضطر أهله لكراء المركبة بدلا من استعمال البغال.
شارك الناس الأسرتين فرحهما في سهرة العرس، وكان بّا بوشتى وصديقه من بين الحضور، سيما وأنهما من الجيران، وقد اتخذا لهما موضعا، في الصف الأخير من الجهة المخصصة للكبار المقابلة للجوقة، قريبا من الخابيات المملوءة ماء.
انغمس المدعوون في أجواء الغناء والطرب في محاولة منهم كسر الرتابة ونسيان التعب المتلاحق طيلة فصل الصيف الحارق. ولشدة الحر، لم تتوقف الرِّجْل في اتجاه الخوابي، علما أن الواجب يقتضي تقديم الماء وأحيانا الشاي مع الحلوى للحاضرين سيما للكبار منهم. كذلك فعلت امرأة من موكب العروس ، فلعلها كانت مكلفة بحضار الماء للعروس ، فالحرص واجب في مثل هذه الظروف خوفا من كيد الحاسدات من بنات الدوار. وفي الوقت الذي حنت المرأة هامتها، تريد أن تغرف الماء لتملأ جرتها الصغيرة، نظرت إلى با بوشتى، المرة الأولى، ثم أعادت النظر ثانية ، وصرخت في وجهه: التهامي .. التهامي... أنت هنا؟. ثم سقطت مغمى عليها، من شدة ما أصابها... وقف با بوشتى مذهولا، ثم غادر المكان... بينما انضم صديقه إلى المحدقين بالمرأة، وحملوها إلى غرفة مجاورة، في محاولة لإسعافها، بعيدا عن عيون الناس. قالت إحداهن: لعلها تعرضت لهزة أو سمعت من أهل العريس كلاما أزعجها...بينما روى صديق با بوشتى ما جرى من طق طق إلى السلام عليكم.
باتت المرأة لا تعي أهي في السماء أم في الأرض، وزوجها بالقرب منها خائفا يترقب. ولما هلل المهلل معلنا أن حي على صلاة الفجر، استعادت المرأة وعيها، وقالت لزوجها دون مقدمات:
-لقد رأيت أخي التهامي ، رأيته البارحة بين المتفرجين.. كان يجلس خلف الصفوف، قرب الخوابي. كان يحمل في يده كيت وكيت، ويلبس كذا وكذا.
اندهش الزوج من هول المفاجأة، وقال: ماذا ؟ أخوك التهامي؟ هل هذا معقول ؟ هل جننت يا امرأة؟ ما الذي سيأتي بأخيك إلى هذه الجبال؟ ثم .. ثم، كيف يمكنك التعرف على شقيقك بعد مرور كل هذه الأعوام ؟ هذا على فرض أنه لايزال على قيد الحياة,, لقد غاب حينما كنا شبابا ، وها قد بلغنا من العمر عتيا.
نظرت إليه زوجته بوجه مقطب، وقالت : لا تقل هذا ، لست مجنونة يارجل. أستطيع التعرف عليه، ولوكان وسط الأربعين ممن يشبهونه.
في الصباح، انضم الزوجان إلى باقي أفراد الأسرة للسلام على العروس، وتناول طعام الفطور في حضرة مولاي السلطان، يتضاحكون أحيانا، ويستغربون من الخبر تارة أخرى. بعدئذ حضر صديق با بوشتى وزوجته، ومعهما هدية الصبْحِية لأهل العريس. وكانت مناسبة ليسأل أيضا عن حال المرأة، بل كانت فرصة لهذه الأخيرة أن تحاسبه في شأن صديقه. فكان جوابه :إن اسمه بّا بوشتى، وليس التهامي، يا سيدتي، أنا أعرفه من سنين خلت.
لكنها ظلت مصرة على رأيها، وطلبت منه أن يرتب لها معه لقاء، في المساء، حين تخلو الطريق من السابلة.
كانت فرحتها عارمة حين بلغت منزل با بوشتى. قرع صديقه الباب، ولما تأخر عن الجواب، أعاد الزوج الطرق بشكل أكثر قوة . وحينما فتح تلكأ كثيرا في الترحيب بهم، حتى حسبوا أنه طاردهم.
فقال صديقه : ألن تستقبل ضيف الله ؟
في الممر، وحينما جلسوا في الغرفة، كانت المرأة تشدد النظر إلى بّا بوشتى، ثم قالت: الآن أيقنت أنك التهامي .
رد عليها قائلا: ما هذا إلا إفك تفترينه .. أنا لا أعرفك يا سيدتي .
- لا تعرفني ؟ أنا أختك .. هل نسيت دوار المرجة؟ هل نسيت أختك السعدية؟ هانت عليك أمك التي توفيت كمدا؟ إني بجميع تفاصيل التفاصيل المتعلقة بصباك وشبابك خبيرة.. يا ابن أمي وأبي. مَنْ مِنَ الناس يعرفون قصة سبابة رجلك اليسرى؟ أنا أعرفها .. ألم تفقدها بضربة شاقور وأنت تفَأَسَ جُذُوعِ أشجار يابسة بأمر من والدك ؟ هيا انزع البلغة لنرى ؟ هيا...
بقي العجوز متماسكا خلف سكوته ، ثم في لحظة ما أحنى رأسه، ينظر أرضا.. ولما رفعها، كانت الدموع تبلل لحيته. نظر إليها طويلا ، ثم أرخى ذراعيه وضمها إليه حتى ارتوى.. ثم قال:
نعم: أنا التهامي، هل رضيت الان؟
لم ترد عليه...
"أنا التهامي الذي دفنتُه يوم خرجتُ من بيتنا.. منذ أريعين سنة، لم أكن أرغب في الارتباط بتلك الفتاة، نعم هي بنت عمي، لكني كنت أعرف قصتها مع رجل آخر تحبه، بينما ظللتم تتلكؤون حتى اختطفوا مني سمرائي أميرة الفؤاد ... يومها ، قررت أن أدفن التهامي الذي تعرفونه مع كل تلك الذكريات... قبل أن أقدم على أية حماقات.
لم يخطر على قلبي يوما أن أحدا سيأتي، وأنا في خريف العمر، إلى هذه الشعاب ليخرج التهامي الذي كنته ، من غياهب الماضي الذي دفنته فيه...".