محمد السلاموني - المعرفة.. الصورة والتصوُّر

عندما نتحدث عن الموجودات نحوَّلها إلى سرديات لغوية، وفى اللغة تنزلق الموجودات خارج نفسها، بحيث لا تطفو على السطح سوى المعانى التى نرى أنها تمثلها فقط - وتلك هى المعرفة؛ لغة تختزل الموجودات برمتها إلى أفكار...
هكذا- فإخفاء الموجودات، أو توارى الوجود المادى، هو شرط المعرفة .
عند أفلاطون تكمن المعرفة المكتملة فى "عالم المُثُل - العالم المعقول"، وليس فى العالم المادى "المحسوس"...
وفى الدراما اليونانية، بموت البطل يتحَصَّل المتفرِّج على المعرفة؛ المتفرج هنا باعتباره المتبقى الواقعى من التجربة الجمالية التى خاضها بتماهيه الخيالى مع البطل . وهو ما يعنى أن موت "البطل" هو "الموت المجازى للمتفرج المتماهى معه"، هذا الموت هو شرط المعرفة .
/ هكذا، المعرفة لا توجد إلاَّ فى اللحظة التى تحتفى فيها الموجودات.
علاقة اللغة بالموجودات "الأسماء بالمسَمَّيات" هى [تمثيل دال]... فعندما نقول "بندقية"، فالكلمة هنا تستحضر الشئ نفسه، الذى هو البندقية، وفى نفس الوقت تدل على "أداة القتل"... وكذلك كلمة "الباب"، فإلى جانب الصورة الذهنية المستحضرة للباب، هناك الدلالة الخاصة بـ "الدخول والخروج..." وهكذا...
ومع ذلك، فكلمة "الباب" لا تعَيِّن لنا شكل الباب، ولا تفتح ولا تغلق... وهو ما يعنى أنها تتحدث عن "فكرة الباب" فقط ، "الباب المجَرَّد"، أما ما نستحضره فى أذهاننا فهى الصور العديدة للأبواب التى نعرفها نحن فى الواقع... ونفس الشئ نجده فى قولنا : "لون أحمر"، فهى مجرد كلمة، لا لون لها... وهكذا.
هى رموز إذن، أى علامات تحل محل علامات أخرى "متفق عليها"...
داخل هذه الرموز المجردة "المتفق عليها" تجرى العمليات التصَوُّريَّة "المعرفية" برمتها.
ما نلاحظه هنا، هو أن المعرفة، وبحكم كونها "تصورات" مجَرَّدة، ليس بإمكاننا أن نتحَصَّل عليها سوى بالقفز فوق الأشياء المتعَيَّنة، وكذلك بالقفز فوق الصور المرئية خياليا، إذ تتحول إلى أشباح أو إلى ذكرى بعيدة...
وهو ما يعنى أنه [كلما ازدادت المعرفة أو كلما أوغلنا عميقا فى التصورات، كلما خَبَت الأشياء والصورة، وتراجعت الذكرى أكثر وأكثر...].
الشعوب التى تفكر بـ "الأشياء- الصور" هى الشعوب التى تعوزها "الأمثال- الإيضاحية" دائما، كى تفهم ما يقال...
هذا و"التفكير بالأمثال"، فى حقيقته، ومن منظور بلاغى، هو "تفكير بالإستعارات"... وهذا الأخير، يختزل الأشياء إلى عناصر أحادية؛ فحين نقول: "زمن حارق"، فهذا يعنى أننا اختزلنا الزمن والنار فى "الحرق" فقط... وهكذا.
لذا كان الإتكاء على أو الإستناد إلى "الإستعارات" هو الآلية البلاغية "الإقناعية" الحجاجية الناجزة فى الخطابات الشعبوية "الدينية والأيديولوجية عامة"...
المادى والمجرد:
العقل الذى يعمل بالصور، ولا يطيق الأفكار المجردة، يمتنع عن التعاطى مع الفلسفة، بل ويدينها ويعاديها- لأنها، كما أعتقد، تضع الفرد أما تجربته الفردية مما يجعله مسئولا عن صناعة مصيرة بنفسه"؛ ذلك لأن الفلسفة أفكار كلية مجردة، تتطلب من الفرد مقاربتها بتجربته الفردية، الجزئية... وهو ما لا يقوى عليه.
أعنى أن الفلسفة تتطلب منك موضعة تجربتك الفردية، الواقعية فى سياق كلى مجرد . هذا والشعوب المنغمسة فى الثقافة الشفاهية، وبحكم ارتهانها الفكرى للمنهج الأسطورى "التجسيدى"، "الجماعى"... لا تحتمل فكرة مثول "الفرد" بمفرده أمام الكون .
/ وربما كان هذا هو جوهر ما ذهب إليه فيورباخ- فالتحول من الأنثروبولوجيا إلى اللاهوت، كان تحولا جماعيا، أعنى تخارُج "قوة الجماعة" من نفسه فى "آخر- إله"، هو قوة الجماعة فى اتحادها المطلق . ذلك التحول، لا يعترف بالفردية أيا كان نوعها.
"الإله"، باعتباره تخارُج من "النحن- المادى" إلى "الأنا المتعالى- المجرد"، لم يستطع الإنسان التعامل معه سوى بتجسيده صَنَمِيَّا أو طوطميا، أى فى صورة مادية... هذا وعالم الآلهة، كذلك لم يستطع الإنسان التعامل معه سوى بتمثُّله سرديا على هيأة "سرود أساطيرية"...
هذا النوع من المعرفة؛ الذى نطلق عليه الآن "المعرفة البدائية"، كان شديد الإرتباط بالصور المرئية.
وعامة، إرتبطت فكرة "الله- التوحيد" بالتحولات التاريخية الخاصة بتوحيد الجماعات القديمة "القبائل" فى أمَم ودول... وهو ما نلمسه الآن بوضوح فى الفكر الدينى "الإسلامى- السياسى"
، فهو لا يعترف بالحدود بين الدول ولا بالإختلافات الثقافية والعرقية...
// كى لا أطيل أكثر، أقول:
مشكلة الصورة المرئية فى علاقتها بالأفكار الكلية المجردة، تتغلغل سرطانيا فى القلب من الممارسة السياسية الخاصة بالشعوب المتخلفة، ومنها تتمدَّد لتطال سائر المجالات المعرفية الأخرى، لتتوطن فى صلب "المعرفة" نفسها- بما هى مشكلة نوع معين من التفكير.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى