كان طفلًا لا يتجاوز العشر سنوات، وهو يسمع جارهم سعيد الطويرجي، يصدح بأغنية محمد رشدي:
"عرباوي شغلاه الشابة الحلوة السنيورة/أم التربيعة بترسم ضلاية على القورة"
كان الطويرجي، يشدو معتليًا جدار بيته، يضع طوبةً على طوبةٍ، لا تفارق وجهه الضحوك، بهجة تعبق بأريج قلبه الطيب، يمسح عرقه بظهر راحته، تلمع شفتاه الغليظتان، من تحت شاربه المقوس مثل قرن الكبش، الناس في غدوها ورواحها، تأوي إلى ظل جدار بيته، اتقاء شمس الظهيرة القائظ، وهو وحده، مثل شجرة النبق، ينتصب فوق برميل نفط فارغ، وفي يده اليمنى مسطرين بمقبض خشبي وفي اليسرى قالب طوب من الطين، على كل قالب يرسم قلبًا، اسمه يشغل نصفه، وعروسه "تسنيم" تشغل نصفه الآخر.
يُسمع غناء الطويرجي من قبل صياح الديكة، ومع أول دفقة ضوء مغسولة بالندى، وهو يغني لـ"تسنيم" يمسح الطين فوق قوالب الطوب بحنان، تتبدى همّته عفية متغطرسة أمام غواية النوم، حتى ظن الناس أن النوم حيلة التعساء فقط.. فالطويرجي لا ينام ربما.. لأنه سعيد!.
يظل هذا الجسد المكدود، مثل "وصيفات" النحل، يحمل القصعة والطوب نزولًا وطلوعًا، لا زاد له في سفره الشاق بين الجدران غير المكتملة، إلا عروسه تسنيم، كلما فتر حماسه، وثبت أمام عينيه "خيالات" ليلة الزفاف، وتسنيم مستلقية على الفراش، تتقلب بقميص النوم الدانتيل، الذي اشترته خصيصًا لتلك الليلة، ووصفته له بدلع يراوغه حياء البنات قليلات الخبرة، وهما يتنزهان معًا في حدائق نمرة ستة.. إذ ذاك تهيج نفسه المجذوبة، في حضرة أحلام ليلة العمر، فينهض وهو يسند خاصرته بيده متوجعًا.. ثم يشدو:
"اِبني لها عشّة بالني الأخضر/وحبة حبة تصبح عمارة".
اكتمل البيت. أطبق النهار جفنيه على آخر ما تبقى له من عيون، واستقبل المكان هواء ليلة صيف لينة القبضة.. وعُلقت الزينات. اجتمع الأهل والجيران، امتلأت رئة الدار بأنفاس قلقة ومترقبة، دلف الطفل بين أترابه، وأمه على بعد خطوات بين النساء، جلست تسنيم بجوار الطويرجي على الكوشة.. لا زغاريد ولا أهازيج ولا تهاني، عينا العروس ذائغتان، فرحتها تبدو معلقة، تنتظر حدثًا يأذن لها بالتحرر من ربقة الخوف وأسر القلق. وبدا الطويرجي فارسًا يستل سيفه، مستعجلًا غمده في حيث يختبر فحولته.
انحنت عليه أمه وهمست في أذنه بكلمات، نهض على إثرها مسرعًا واصطحب عروسه، إلى غرفة نوم لصق الحوش المكتظ بالمعازيم. أُغلق عليهما الباب. غابا بعض الوقت. خرج بعدها العريس، وهو يحاول بيمينه ستر شيء ما غير واضح، خلف فتحة بنطال البيجامة، وباليسرى منديل أبيض ناصع، عليه بقعة دم فاقع لونها، رفعه إلى آخر ما يمكن أن يبلغه ذراعه، يلوح به يمينًا ويسارًا، حينئذ قفزت أم تسنيم والتقطت المنديل، وهي تطلق زخات من الزغاريد المتلاحقة، وبعدها ضج المكان بالصياح وعلت أصوات النسوة بالأغاني.
اندفع الطفل بين الأجساد المتلاصقة، يدفع هذا ويزيح ذاك، ويحشر رأسه بين الأفخاذ وسيقان الأرجل المتقابلة والمحاذية والمتشابكة، وصل باكيًا إلى حيث تجلس أمه، مسحت على رأسه، وربتت على ظهره، وأجلسته على حجرها، طوّق بذراعه عنقها، وقرّب رأسها إليه، همس في أذنها بكلمات، نهرته. نصحته ألا يسأل ريثما يكبر و"يفهم".
كبر الطفل، صار مثل سعيد الطويرجي، يجلس لصق عروسه، شارد الذهن طفلا لا يعرف ما يتعين عليه فعله عندما يغلق عليه.. وعليها الباب.
"عرباوي شغلاه الشابة الحلوة السنيورة/أم التربيعة بترسم ضلاية على القورة"
كان الطويرجي، يشدو معتليًا جدار بيته، يضع طوبةً على طوبةٍ، لا تفارق وجهه الضحوك، بهجة تعبق بأريج قلبه الطيب، يمسح عرقه بظهر راحته، تلمع شفتاه الغليظتان، من تحت شاربه المقوس مثل قرن الكبش، الناس في غدوها ورواحها، تأوي إلى ظل جدار بيته، اتقاء شمس الظهيرة القائظ، وهو وحده، مثل شجرة النبق، ينتصب فوق برميل نفط فارغ، وفي يده اليمنى مسطرين بمقبض خشبي وفي اليسرى قالب طوب من الطين، على كل قالب يرسم قلبًا، اسمه يشغل نصفه، وعروسه "تسنيم" تشغل نصفه الآخر.
يُسمع غناء الطويرجي من قبل صياح الديكة، ومع أول دفقة ضوء مغسولة بالندى، وهو يغني لـ"تسنيم" يمسح الطين فوق قوالب الطوب بحنان، تتبدى همّته عفية متغطرسة أمام غواية النوم، حتى ظن الناس أن النوم حيلة التعساء فقط.. فالطويرجي لا ينام ربما.. لأنه سعيد!.
يظل هذا الجسد المكدود، مثل "وصيفات" النحل، يحمل القصعة والطوب نزولًا وطلوعًا، لا زاد له في سفره الشاق بين الجدران غير المكتملة، إلا عروسه تسنيم، كلما فتر حماسه، وثبت أمام عينيه "خيالات" ليلة الزفاف، وتسنيم مستلقية على الفراش، تتقلب بقميص النوم الدانتيل، الذي اشترته خصيصًا لتلك الليلة، ووصفته له بدلع يراوغه حياء البنات قليلات الخبرة، وهما يتنزهان معًا في حدائق نمرة ستة.. إذ ذاك تهيج نفسه المجذوبة، في حضرة أحلام ليلة العمر، فينهض وهو يسند خاصرته بيده متوجعًا.. ثم يشدو:
"اِبني لها عشّة بالني الأخضر/وحبة حبة تصبح عمارة".
اكتمل البيت. أطبق النهار جفنيه على آخر ما تبقى له من عيون، واستقبل المكان هواء ليلة صيف لينة القبضة.. وعُلقت الزينات. اجتمع الأهل والجيران، امتلأت رئة الدار بأنفاس قلقة ومترقبة، دلف الطفل بين أترابه، وأمه على بعد خطوات بين النساء، جلست تسنيم بجوار الطويرجي على الكوشة.. لا زغاريد ولا أهازيج ولا تهاني، عينا العروس ذائغتان، فرحتها تبدو معلقة، تنتظر حدثًا يأذن لها بالتحرر من ربقة الخوف وأسر القلق. وبدا الطويرجي فارسًا يستل سيفه، مستعجلًا غمده في حيث يختبر فحولته.
انحنت عليه أمه وهمست في أذنه بكلمات، نهض على إثرها مسرعًا واصطحب عروسه، إلى غرفة نوم لصق الحوش المكتظ بالمعازيم. أُغلق عليهما الباب. غابا بعض الوقت. خرج بعدها العريس، وهو يحاول بيمينه ستر شيء ما غير واضح، خلف فتحة بنطال البيجامة، وباليسرى منديل أبيض ناصع، عليه بقعة دم فاقع لونها، رفعه إلى آخر ما يمكن أن يبلغه ذراعه، يلوح به يمينًا ويسارًا، حينئذ قفزت أم تسنيم والتقطت المنديل، وهي تطلق زخات من الزغاريد المتلاحقة، وبعدها ضج المكان بالصياح وعلت أصوات النسوة بالأغاني.
اندفع الطفل بين الأجساد المتلاصقة، يدفع هذا ويزيح ذاك، ويحشر رأسه بين الأفخاذ وسيقان الأرجل المتقابلة والمحاذية والمتشابكة، وصل باكيًا إلى حيث تجلس أمه، مسحت على رأسه، وربتت على ظهره، وأجلسته على حجرها، طوّق بذراعه عنقها، وقرّب رأسها إليه، همس في أذنها بكلمات، نهرته. نصحته ألا يسأل ريثما يكبر و"يفهم".
كبر الطفل، صار مثل سعيد الطويرجي، يجلس لصق عروسه، شارد الذهن طفلا لا يعرف ما يتعين عليه فعله عندما يغلق عليه.. وعليها الباب.