يطلق ضحكة قصيرة، ويواصل طريقه نحو المنصة، ليحيل الطابور إلى شعلة من الحماس والمتعة، لا شيء يبدد كآبة صباحي، وحموضة معدتي،ويجعلني ابتسم مثله، يدهشني نشاطه وحبه للطلاب، ومقالبه الطريفة التي تخلق جوا من المرح افتقدناه منذ فترة طويلة بسبب الحرب والحصار، حتى انقطاع الراتب منذ سنوات لم ينل منه، أو يفتر حماسته كما فعل بي، وببقية المعلمين الذين أخذوا يتغيبون كثيرا، كان آخرهم معلم القرآن الكريم الذي فاجأني بفتح بسطة لبيع القات .
أتذكر يومها وعلى إثر الشجار التفت نحوه :
- وأنت يا كابتن حسام، يا مسؤول الأنشطة متى ستفتح دكان؟ أو تشتري عربة خضار وتترك طلابك ؟
رد بهدوء :
- في هذا الوضع السيء أعتبر نفسي في سباق ولازم أفوز .
كدت انفجر في وجهه ظنا أنه يسخر مني، لكن جديته، والطريقة التي تحدث بها جعلتني احترمه، وأكن له الكثير من الامتنان، كونه أحد الأسباب القليلة لصمودي أنا في المدرسة .
سريعا ما انتهى الطابور ليعود ركضا :
- اتفقت مع المدرسين على تأخير حصتي اليوم إلى الحصص الشاغرة بعد الراحة فمعي مفاجأة ل (أبو بكر).
وافقت بسرور على نقل حصة الألعاب إلى آخر الدوام، حتى اتجنب صوت (أبوبكر) الجهوري الذي يشد حماسه انتباه الطلاب إلى خارج الفصول، ويملأ ضجيجه ساحة المدرسة،والذي يحرص كثير من المدرسين على حضور أوقات التمارين، أو دقائق السباق ليشاهدوه وهو يشجع ابنه (بكر) بطريقة تغرقهم في الضحك، وتكون تلك اللحظات حديث الأسبوع كله.
تذكرت كلمات الكابتن وأنا أرى الرجل يحمل كيسا من الجص، ويبدأ في تخطط المضمار بدقة واهتمام كبيرين كأنه يعد لسباق دولي " إن هذا الأب يعيش حلم الفوز وسيحققه " .
قرعت الجرس ليتدفق الطلاب، ويشكلوا حلقة مستطيلة،أعلن الكابتن عن تقسيم المتنافسين إلى مجموعتين، وأن (بكر) سيشارك مع المجموعة الأولى والثانية على التوالي،تبادل المدرسين الإبتسامات، وعلى صافرة الكابتن انطلق المتسابقين بكل قواهم، فيما تركزت الأنظار، وكاميرات الهواتف على الأب الذي أخذ يصفر، ويقفز، ويطوح بالشال بحركة دائرية ويهتف :
- هيا بكر أنت الاول.. أنت الاول.. هيا هيا بكر هيا هيا.
انظم المدرسون يشاركونه الهتاف :
- هيا بكر أنت الأول.. هيا هيا بكر ...
مما زاد من انفعال الرجل، وحماسة الولد الذي بذل جهدا كبيرا إلا أنه تعثر فجأة، وتدحرج مرتين قبل أن يستقر في وسط المضمار ممسكا بقدمه وهو يصرخ من الألم، هرع إليه الأب، واسرعنا نتحلق حولهما، جثم الكابتن بجواره يتفقد قدمه، قال أنه أصيب بالتواء في كاحله، ثم حمله وسار به نحو رصيف الممر ليسنده إلى أحد الأعمدة، وأخرج من جيبه ضمادة رفيعة راح يلفها بحرص، شعر الجميع بالأسى على الولد، وعلى أبيه الذي امتقع وجهه، وبدا في حالة يرثى لها من التأثر والقلق، قررت أن أعيد ترتيب صفوف المتسابقين ريثما ينهي الكابتن ربط القدم .
لكن ما إن وصلت إلى خط البداية حتى شعرت بقلبي ينخلع من صدري؛ فرغم الصخب والضجيج حولي إلا أن هديرا مرعبا طغى على المكان، لطالما سبب لنا الخوف والأرق منذ بدأت الحرب، وتحول صخب الطلاب إلى صرخات فزع ( طائرة طائرة )، صرخت بدوري (اهربوا اهربوا).. وأسرعت نحو الإدارة حتى أستعين بالميكروفون، وما إن قفزت بضع خطوات حتى شعرت بنفسي أطير في الهواء، كأن أحدهم يرفعني من الخلف، ثم صوت انفجار صم أذني .
انتبهت لأجد نفسي ملقى على الأرض، والدخان والغبار يغطي كل شيء، وصوت طنين مختلط ببكاء أطفال، وصياح رجال، نهضت امسح التراب عن عيني، تلفت حولي لأرى كومة من حطام يخرج منها أحدهم وهو يحمل طفلا بين يديه، والدم يتدفق من أسفله بغزارة.
- يا مدير يا مدير .
شعرت بذاكرتي تعود إلي فاتجهت نحوه بسرعة وأنا أصرخ فيه :
- أين الطلاب أين الطلاب؟
- لا أدري ..ربما هربوا.. أو تحت الأنقاض .. إسعف هذا.
- هات..شوف بقية الطلاب ِ.
رغم شعوري بالضعف والإعياء إلا أني حملت التلميذ الذي لم يكن سوى (بكر)، ورحت أبحث عن بوابة المدرسة، اكتشفت أن السور قد انقض، وأن الساحة التحمت مع الإسفلت المحطم، عجزت عن تخطي حطام السور فهرع أحدهم ليسندني ويقودني نحو تكتوك، بالكاد استويت على الكرسي لينطلق بأقصى سرعته،
أحسست بتحرك شي بين ساقي، وبآلام شديدة خلف رأسي وظهري تزداد شدة مع التمايل و ارتجاج العجلات، ألقيت نظرة فاحصة على (بكر) لأتفاجأ بأنني احتضن رأسا وذراعين، وأشلاء أخذت تنزلق قطعة قطعة مع دماء دافئة أغرقت حجري، ليعصف بي دوار عنيف لم أفق منه إلا وأنا فوق أحد أسرة طوارئ مستشفى، وأحدهم يضغط على جمجمتي بيده، ويأمرني بأن اتمدد على بطني، شعرت بقواي تخور، و بالضوضاء حولي تخفت شيئا فشيئا، وينقطع صوت ينادي بإلحاح نحتاج دم نحتاج دم... .
ما أن تماثلت للشفاء حتى أسرعت مبكرا إلى المدرسة، هالني الدمار الذي ألحقته طائرة العدوان بجزء منها، تجمع المعلمون والطلاب حولي، اعتليت المنصة، أحلت الطابور إلى جذوة من الحماس، والنشاط متجاهلا وجعي، وحزني، ومشاعري؛ فأنا أصبحت في سباق وعلي أن أفوز .
عبدالله عبدالإله باسلامه. اليمن / ذمار .
أتذكر يومها وعلى إثر الشجار التفت نحوه :
- وأنت يا كابتن حسام، يا مسؤول الأنشطة متى ستفتح دكان؟ أو تشتري عربة خضار وتترك طلابك ؟
رد بهدوء :
- في هذا الوضع السيء أعتبر نفسي في سباق ولازم أفوز .
كدت انفجر في وجهه ظنا أنه يسخر مني، لكن جديته، والطريقة التي تحدث بها جعلتني احترمه، وأكن له الكثير من الامتنان، كونه أحد الأسباب القليلة لصمودي أنا في المدرسة .
سريعا ما انتهى الطابور ليعود ركضا :
- اتفقت مع المدرسين على تأخير حصتي اليوم إلى الحصص الشاغرة بعد الراحة فمعي مفاجأة ل (أبو بكر).
وافقت بسرور على نقل حصة الألعاب إلى آخر الدوام، حتى اتجنب صوت (أبوبكر) الجهوري الذي يشد حماسه انتباه الطلاب إلى خارج الفصول، ويملأ ضجيجه ساحة المدرسة،والذي يحرص كثير من المدرسين على حضور أوقات التمارين، أو دقائق السباق ليشاهدوه وهو يشجع ابنه (بكر) بطريقة تغرقهم في الضحك، وتكون تلك اللحظات حديث الأسبوع كله.
تذكرت كلمات الكابتن وأنا أرى الرجل يحمل كيسا من الجص، ويبدأ في تخطط المضمار بدقة واهتمام كبيرين كأنه يعد لسباق دولي " إن هذا الأب يعيش حلم الفوز وسيحققه " .
قرعت الجرس ليتدفق الطلاب، ويشكلوا حلقة مستطيلة،أعلن الكابتن عن تقسيم المتنافسين إلى مجموعتين، وأن (بكر) سيشارك مع المجموعة الأولى والثانية على التوالي،تبادل المدرسين الإبتسامات، وعلى صافرة الكابتن انطلق المتسابقين بكل قواهم، فيما تركزت الأنظار، وكاميرات الهواتف على الأب الذي أخذ يصفر، ويقفز، ويطوح بالشال بحركة دائرية ويهتف :
- هيا بكر أنت الاول.. أنت الاول.. هيا هيا بكر هيا هيا.
انظم المدرسون يشاركونه الهتاف :
- هيا بكر أنت الأول.. هيا هيا بكر ...
مما زاد من انفعال الرجل، وحماسة الولد الذي بذل جهدا كبيرا إلا أنه تعثر فجأة، وتدحرج مرتين قبل أن يستقر في وسط المضمار ممسكا بقدمه وهو يصرخ من الألم، هرع إليه الأب، واسرعنا نتحلق حولهما، جثم الكابتن بجواره يتفقد قدمه، قال أنه أصيب بالتواء في كاحله، ثم حمله وسار به نحو رصيف الممر ليسنده إلى أحد الأعمدة، وأخرج من جيبه ضمادة رفيعة راح يلفها بحرص، شعر الجميع بالأسى على الولد، وعلى أبيه الذي امتقع وجهه، وبدا في حالة يرثى لها من التأثر والقلق، قررت أن أعيد ترتيب صفوف المتسابقين ريثما ينهي الكابتن ربط القدم .
لكن ما إن وصلت إلى خط البداية حتى شعرت بقلبي ينخلع من صدري؛ فرغم الصخب والضجيج حولي إلا أن هديرا مرعبا طغى على المكان، لطالما سبب لنا الخوف والأرق منذ بدأت الحرب، وتحول صخب الطلاب إلى صرخات فزع ( طائرة طائرة )، صرخت بدوري (اهربوا اهربوا).. وأسرعت نحو الإدارة حتى أستعين بالميكروفون، وما إن قفزت بضع خطوات حتى شعرت بنفسي أطير في الهواء، كأن أحدهم يرفعني من الخلف، ثم صوت انفجار صم أذني .
انتبهت لأجد نفسي ملقى على الأرض، والدخان والغبار يغطي كل شيء، وصوت طنين مختلط ببكاء أطفال، وصياح رجال، نهضت امسح التراب عن عيني، تلفت حولي لأرى كومة من حطام يخرج منها أحدهم وهو يحمل طفلا بين يديه، والدم يتدفق من أسفله بغزارة.
- يا مدير يا مدير .
شعرت بذاكرتي تعود إلي فاتجهت نحوه بسرعة وأنا أصرخ فيه :
- أين الطلاب أين الطلاب؟
- لا أدري ..ربما هربوا.. أو تحت الأنقاض .. إسعف هذا.
- هات..شوف بقية الطلاب ِ.
رغم شعوري بالضعف والإعياء إلا أني حملت التلميذ الذي لم يكن سوى (بكر)، ورحت أبحث عن بوابة المدرسة، اكتشفت أن السور قد انقض، وأن الساحة التحمت مع الإسفلت المحطم، عجزت عن تخطي حطام السور فهرع أحدهم ليسندني ويقودني نحو تكتوك، بالكاد استويت على الكرسي لينطلق بأقصى سرعته،
أحسست بتحرك شي بين ساقي، وبآلام شديدة خلف رأسي وظهري تزداد شدة مع التمايل و ارتجاج العجلات، ألقيت نظرة فاحصة على (بكر) لأتفاجأ بأنني احتضن رأسا وذراعين، وأشلاء أخذت تنزلق قطعة قطعة مع دماء دافئة أغرقت حجري، ليعصف بي دوار عنيف لم أفق منه إلا وأنا فوق أحد أسرة طوارئ مستشفى، وأحدهم يضغط على جمجمتي بيده، ويأمرني بأن اتمدد على بطني، شعرت بقواي تخور، و بالضوضاء حولي تخفت شيئا فشيئا، وينقطع صوت ينادي بإلحاح نحتاج دم نحتاج دم... .
ما أن تماثلت للشفاء حتى أسرعت مبكرا إلى المدرسة، هالني الدمار الذي ألحقته طائرة العدوان بجزء منها، تجمع المعلمون والطلاب حولي، اعتليت المنصة، أحلت الطابور إلى جذوة من الحماس، والنشاط متجاهلا وجعي، وحزني، ومشاعري؛ فأنا أصبحت في سباق وعلي أن أفوز .
عبدالله عبدالإله باسلامه. اليمن / ذمار .
