نبيل مملوك - مفتاح القلق

لا شيء يوحي بأن مرآة ما سيحصل عليها ليرى لحيته الكثيفة وهي تتآكل من الشيب داء الشَّعر والشِّعر والشعراء، ولا شيء سيعزّي أنامله السمراء التي توغل بأطرافها النيكوتين نتيجة انقطاع وصول سجائره المفضّلة، هو الآن في مساحة مظلمة لا يعرف- وقد بلغ الخمسين من العمر ومضى على تواجده كنقطة في كبدها- مدى هذه المساحة ، هو فقط يشعر بالضيق ، بالإختناق أحيانًا،يستطيع خياله أن يقدر حجم عينيه الجاحظين ومدى احمرارهما، لا يعرف ...هل هو مصاب بالسكري ، بالضغط أو بأمراض أخرى...حتى الهدوء سلب منه فالمساحة هذه خصبة لكل أصوات... صوت رجل يتأوه وهو يشاهد أحدث فيلم porno بعد تراكم اللذات وتعتقها واستنمائه على يافطة قد كتب عليها " الشعب يريد فض البكارات" وآخر ما زال على راديو شبه شغال يستمع للمرة الألف على التوالي إلى خطاب جمال عبد الناصر ويبكي كأنه الآن قد أدرك النكسة ، وآخرون يغنون ويتكلمون بسعر صرف الدولار وخطاب فلان وعتلان ...أما الأقرب منه يمينًا فكان بديعًا بإصدار صوت مع رائحة... من بنيته التحتية وأحيانًا من بنيته الفوقيّة وعلى شماله رجل سبعينيّ لا يكف عن سؤاله عن اسمه وهل سيدق الجرس ويذهبون إلى الملعب؟!
كلها اجواء لا تجعله يفكر من كان ومن يكون أو أن يتوقع اجابة حول سؤال هل سيكون؟!
لأول مرة منذ زمم لا يقدّر ثمة ما اخترق العتمة، شيء غريب حاول بينه وبين نفسه تذكر المفردة التي تشير الى ما يراه، يكاد لسانه ينطق لكن عبثًا...حتى ساد الهدوء وصرخ السجان قائلا:" انقلع لجوا يقطع عمرك وعمركن يا مساطر الكرة الأرضية" إنه الضوء...الضوء الذي استرده ذاكرة بفعل الشتيمة والذي حرم منه حتى بات اعجوبة تزوره كل موسم أو كلما شاء الله..."هي انفاس لا تشترى" إذن هكذا قال في سره مستأذنا الشاعر أمل دنقل... اقترب ذاك المنقلع بأمر السجان الغليظ ، ازاح بخطواته الرجل السبعيني ...ارتاح أخيرًا من سؤالاته المتكررة كلازمة أغاني أم كلثوم...
لم يكن أمام السجين الجديد، الثلاثيني النحيل صاحب تسريحة الفرذاتشي والملابس التي تذكرنا بAdrian brody في فيلم the pianist ولحيته التي عفى عنها قبل ان ينتهي به المطاف الى هذه الحجرة المعمولة على شاكلة مزرعة آدمية...رآه صامتًا يحاول ان يتآلف مع الصوت المعطر بالقذرات الصادر عن شخص يجاوره يمينًا...والسجين الجديد لا يطيق الصمت فسعى للتقرب منه كونه رأى الأسى المختبئى الحكمة خلفها في عيون الرجل الخمسيني قائلاً:

-شو قصتك

استغرب الخمسيني هذا السؤال الذي سيجبره على تحريك فك عاطل عن العمل منذ ازل

- اي انت شو قصتك

-...

-يلا خلصني منك مش فاضيلك، ولا فاضي لدلعك

استفزه هذا التطفل المجبول بالوقاحة

-وانت شو مال أهلك ...حل عن اجري

استغرب رغم ذلك صوته وقاموس ملافظه الذي تغير
بعد ربع قرن من دخوله عالم الظلمة

صفعه دون ان يراعي العشرين سنة الفاصلة بينهما
وقبل أن يرد الخمسيني الصفعة قال له النحيل:
- احكي تحكي لك الدنيا

قهقها عاليا ولم يجد صاحب العينين الحمراوين نفسه الا ساردا يقول:

كان يا مكان في قديم الزمان...كنت استاذ لغة عربية أعلم الأطفال واحثهم على زراعة شغف القراءة في نفوسهم وكان الاندفاع والانفعال والخروج عن نصوص الحياة حرفتي ولعبتي التي لا اهاب نارها...وقد عملت لسنتين متتالتين في مدرسة شاء القدر ان اكون مدرسًا فيها لصفي الخامس والسادس أساسي...وتحت امرة مدير لا يزور المدرسة الا في اول يوم من كل شهر ...وفي طبيعة لم أكن محور المدرسة ولا الكون كان لي زملاء بعضهم مستفز والاخر مسالم وبعضهم الثاني ظل محط شبهة...كنت اخاف جدا من الابواب واحاول ان اغلقها الالاف المرات بالمفاتيح المناسبة حرصا مني على المصلحة الخاصة بالمؤسسة التربوية وبنفسي...
وكان المدير يدخن بشراهة يغدقني بتكبره ولكنته الترهيبية ويقف كحارس مرمى يتصدى لاعتراضاتي وحقي بالدفاع عن نفسي متحججا بكسلي رافضا التعامل معي بانسانية انطلاقا من كوني يتيم الأب والأم وعاجز عن متابعة دراسة الدكتوراه لولا هذه الوظيفة التعليمية الكئيبة.
حاولت طيلة السنتين التعامل مع طلابي بحسن ولين حتى المشاغبين المنحرفين المستفزين منهم...تفاديا لملاحظة ستصل من خلال طالب الى ذاك الاستاذ الذي يغار مني ويحسدني ويحشو الديناميت في رأس المدير
الا ان القدر فعل فعلته وعوقبت فقط لاني ضحية لعبة
...اغمي على احد الطلاب قرب مصطبة الباب فهرعت تاركا امتعتي واغراضي ولا سيما مفتاح الصف على الطاولة وقد هاج الصف وماج واقفل الباب نتيجة الهواء هكذا خمنت خاصة اننا في منتصف تشريه الثاني..بينما انا والناظر نلتهي بتأمين الطبابة للطالب المغمى عليه...حاولت فتح الباب لكن عبثا....الباب مقفل...طرقت بعنف لا احد يسمعني جراء الصراخ والعويل نتيجة خوف الطلاب من الصف المقفل...حاولت الاستعانة بالناظر ، ليس في مكتبه، بالفرّاش، مقعده شاغر...حاولت مجددًا خلعه لكن دون جد...

-بعدين شو صار حمستني يلا

تفادى مقاطعته واكمل قائلا:

قرع الجرس...وصدمت اثر تلاشي اعداد التلامذة بدأوا بالقفز من الشباك دون الاكتراث للخطر الطفيف الذي قد يصيب بعضهم

نزلت مهرولا على الدرج واذ بصدمة كادت تفتت بنيتي...لسنا في واحد تشرين ....نحن في نهاية الدوام...بنظرة لا تخلو من الابلسة رمقني المدير قائلا" انت مطرود يا فاشل"

طردني وطرد معي كل ذرة من الامل بحلم او تفوق او شهادات عليا...طرد فرحتي واستقراري ورفاهيتي
"بعد اسبوع بتجي يا مستهتر بتاخد تعويضك "

-ورحت بعد اسبوع؟؟

- هون بيت القصيد...اسمع مع اني ما بعرف لي عم بحكيلك...

مضى اسبوع وقبل دخولي الى مكتب المدير قرا سورة السد
والشرح والضحى...لفتته شماعة صغيرة عليها معلقة portcles مفاتيح...دخل وتواجه مع المدير الذي لم يستبدل
نظرته المحتقرة وتوبيخاته

- تفضل امضي...منيح لي امك ميتة ، والا كنت انت قتلتها بعملتك

كي أتفادى الرد عليه باستفزاز خرج من المكتب متذرعا بالرد على مكالمة طارئة
فاجأه احد الطلاب في الخارج:

-استاذ الي ساعة بعيطلك بس ما سمعتني وما بعرف سكنك
وين...بدي خبرك انو المدير اتفق مع الطالب زيد يخبو المفتاح ويقفلو الصف لتعلق انت وتطلع متهم بالاستهتار
ويجي استاذ نحول محلك
صدمتني هذه الحقيقة الغريبة المألوفة
صرفت الطالب بابتسامة...نظرت الى علاّقة المفاتيح...تذكرت كل باب اقلقني صريره ليلا ...
ودخلت الى المدير

- فعلا انت مستهتر ، الي ساعة ناطر امضاءك ع الورق
شو ناطر امضاء ال باتشينو انا

الهمني اسم الممثل الايطالي الساطع...اقتربت من مديري السابق بعد التوقيع، متذرعا اني اريد وشوشته واذ بي اشك المفتاح بقسوة في رقبته، مرة ومرتين وعشرة

لم تفزعني الدماء المتطايرة على طريقة مايكل كوروليوني ورجالاته في فيلم العراب اخذت ثائري
وصرخت اني فتحت الباب...فتحت الباب...بمفاتيح...بمفتاح
مفتاااااااح ذاك القلق...


صور في ١٢ تشرين الثاني ٢٠٢١

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى