كنت خارجا للتو من مكتب المدير, ممتلئ قلبي بالغيظ والغضب, تعوَّد على أن يرفع صوته على كل موظفي الإدارة, يواري ضعفه بصوته المرتفع؛ هكذا قال لي زميلي شعبان, حينما خرج من عنده ملطخا بشتائمه وكلمات التنقيص التي أدمنها, قال لي بأسًى وقهر لا أنساهما: هذا الرجل يواري ضعفا ما في هذا الصوت الرهيب,
- أتَذْكرُ يا صابر يوم خرج من مكتبه يجري خلف موظفة جاءته تشتكي من مديرها في مؤسسة كفر الشيال؟
- ضحكتُ وقلت له: هل هذا مشهد يُنسى! تواريت خلف هذا الجدار ونظرت إليه وهو يهرول خلفها في هذا الممر ونزل السلم خلفها، خرَجَت من بوابة المؤسسة وهو على أثرها يلهث من العدو؛ حتى أصبح أمامها وجها لوجه, انتقلتُ للنافذة كي أكمل متابعته بعد أن خرج للشارع, لم يتوقف يا شعبان يا حبيبي عن مشاجرتها ولومها, لأنها خرجت في وقت العمل لتأتيه وتشتكي! ماذا يفعل المظلوم ومتى تأتي لتقدم شكواها؟ أبعد انتهاء العمل!؟
- ساعتها يا صابر أشفقت على هذه الموظفة, من هذا الشرس الذي لم يكفه تقريعُها في مكتبه وإنما هرول خلفها عابرا الممر والسلم وبوابة المؤسسة لم يهدأ ولم يرعوي وأيضا لم يستح لهرولته خلف امرأة وإهانتها.
- جلست إلى مكتبي ولم أنتبه إلى الرجل المنتظر في يده أوراق خروجه للمعاش, فعملي في تلك المؤسسة هو إنهاء إجراءات المعاشات للموظفين الذين انتهت مدة خدمتهم, فبادرني قائلا:
- أستاذ صابر أنا هنا بعد أن دخلت لمكتب المدير بخمس دقائق, وقد مر عليَّ ثلث الساعة وأنا أنتظرك, الله يكرمك أنهِ أوراقي حتى أكمل توقعيها من موظفي الإدارة, فكما تعرف ما زال أمامي الإجازات والأرشيف والحسابات والأجور المتغيرة ثم المدير العام.
اندهش الرجل حين سألته هذا السؤال: كيف تحملت ثمانية وثلاثين سنة موظفا يا أستاذ صدقي؟ كيف ابتلعت إهانات المديرين, كيف تعاملت مع المعقدين منهم, كيف صبرت؟ لِمَ لَمْ تفعلها وتتركها لهم وتبحث في مناكبها عن لقمة عيش تسعى لها دون عبودية الوظيفة؟
فتح عم صدقي رئتيه ليملأهما هواءً كثيرا ثم قال: كيف وكيف, ستعرف حين تطَّلع على ملفي الصحي في الأرشيف وترى جراحات القلب لتركيب الدعامة ولتوسيع الشرايين, سترى توابع مرض السكر على عيني, وأيضا تحويلي لأطباء الضغط والروماتويد في عيادات التأمين الصحي.
ثم قلب في أوراق الشؤون القانونية في الملف, واقرأ المذكرات التي قدمتها للشؤون القانونية أشكو فيها من ظلم المدير محسن الهواري ومن الاعتداء اللفظي من زميلي عليِّ, ومن مشادة وقعت بيني وبين زميلتي عنايات, ومن ومن... كثير من المنازعات, هل يتسع اليوم لرواية رحلة ثمانية وثلاثين سنة مستخدما كما كانوا يطلقون علينا زمان؟
انظر الجزاءات التي وُقّعت عليّ؛ كما وُقّعت عليهم أيضا.
يا بني أن تكون موظفا صغيرا في الأرض؛ يعني أن تكون كرة يتداولها لعيبة محترفون في ملعب كبير ممتلئٍ بآلاف المتفرجين, يستمتعون بالفرجة ويهتفون للعيبة, أما الكرة فإن تمزقت من كثرة الركل والتهديف فسرعان ما تستبدل بغيرها؛ دون أن يشغل أحد نفسه بمصير تلك الكرة التي لا تقوم اللعبة إلا بها!
- صدقت والله يا عم صدقي؛ كنت تلك الكرة من خمس دقائق, حينما تناوب على ركلي المدير ونائبه ورئيسا قسم كانا يتناولان القهوة في مكتبه, لم تكن لهما علاقة بالحديث لكن واجب الضيافة في مكتب المدير أن يجاملا بركلتين للكرة التي تغسل وتنشر بالإهانات, لا لشيء إلا لأني أتحمل مزيدا من الأعمال التي تضاف إليَّ كل شهر فوق عملي, كيف أجرؤ وأقول لسيادة المدير العام: أني تعبت وأني أذهب إلى بيتي فاقدا للقوة, وأن لي زملاء في مكاتب مختلفة من المؤسسة لا يفعلون إلا الثرثرة واحتساء الشاي والقهوة, وأن هناك من لا يأتي ويُوَقَّع له, وأني أريد نقلي لقسم من هذه الأقسام.
- ضحك عم صدقي وقال: لقد تجرأت حقا يا صابر, تجرأت جدا!
- وسأوجه إليك السؤال يا بني الذي سبق ووجهته إليَّ, لم لم تفعلها أنت؟ ما زلت في الثلاثين من عمرك, والعمر أمامك وليس خلفك مثلي.
- أسند رأسه ليده وشرد بذهنه ثم أجاب: كل يوم أحدث نفسي بها, كل يوم يا عم صدقي أتخيلني بائعا للجرجير في السوق, أبيع خضرتي وأضحك مع زبائني, فرحا أنني أحكم نفسي بنفسي, لا مدير لي يهينني؛ يأمرني وينهاني, لا أبتلع لساني إذا تطاول عليَّ أحدُهم, أمتلك حرية رفع الظلم عن نفسي بالحكمة, دون أن أكتب مذكرة وأنتظر حكم الشؤون القانونية, ثم مرور ستة أشهر لرفع الجزاء عني إذا وقع, أحلم أن أعود آخر اليوم بما وهبه الله لي من رزق, سليم الصدر لا أتناول حبوب الضغط؛ والتي في كل زيارة يضيف لي الطبيب منها أصنافا جديدة.
- ها هي أوراقك انتهيت من توقيعها يا عم صدقي؛ ومؤكد قريبا جدا ستدخل السوق لتشتري الجرجير وتجد صابرَ هناك جالسا خلف "مشنة" الجرجير ينتظرك أن تستفتحه بشراء باقتين منه.
- حينها سأهنئك على شجاعتك التي لم أقدر عليها.
- أتَذْكرُ يا صابر يوم خرج من مكتبه يجري خلف موظفة جاءته تشتكي من مديرها في مؤسسة كفر الشيال؟
- ضحكتُ وقلت له: هل هذا مشهد يُنسى! تواريت خلف هذا الجدار ونظرت إليه وهو يهرول خلفها في هذا الممر ونزل السلم خلفها، خرَجَت من بوابة المؤسسة وهو على أثرها يلهث من العدو؛ حتى أصبح أمامها وجها لوجه, انتقلتُ للنافذة كي أكمل متابعته بعد أن خرج للشارع, لم يتوقف يا شعبان يا حبيبي عن مشاجرتها ولومها, لأنها خرجت في وقت العمل لتأتيه وتشتكي! ماذا يفعل المظلوم ومتى تأتي لتقدم شكواها؟ أبعد انتهاء العمل!؟
- ساعتها يا صابر أشفقت على هذه الموظفة, من هذا الشرس الذي لم يكفه تقريعُها في مكتبه وإنما هرول خلفها عابرا الممر والسلم وبوابة المؤسسة لم يهدأ ولم يرعوي وأيضا لم يستح لهرولته خلف امرأة وإهانتها.
- جلست إلى مكتبي ولم أنتبه إلى الرجل المنتظر في يده أوراق خروجه للمعاش, فعملي في تلك المؤسسة هو إنهاء إجراءات المعاشات للموظفين الذين انتهت مدة خدمتهم, فبادرني قائلا:
- أستاذ صابر أنا هنا بعد أن دخلت لمكتب المدير بخمس دقائق, وقد مر عليَّ ثلث الساعة وأنا أنتظرك, الله يكرمك أنهِ أوراقي حتى أكمل توقعيها من موظفي الإدارة, فكما تعرف ما زال أمامي الإجازات والأرشيف والحسابات والأجور المتغيرة ثم المدير العام.
اندهش الرجل حين سألته هذا السؤال: كيف تحملت ثمانية وثلاثين سنة موظفا يا أستاذ صدقي؟ كيف ابتلعت إهانات المديرين, كيف تعاملت مع المعقدين منهم, كيف صبرت؟ لِمَ لَمْ تفعلها وتتركها لهم وتبحث في مناكبها عن لقمة عيش تسعى لها دون عبودية الوظيفة؟
فتح عم صدقي رئتيه ليملأهما هواءً كثيرا ثم قال: كيف وكيف, ستعرف حين تطَّلع على ملفي الصحي في الأرشيف وترى جراحات القلب لتركيب الدعامة ولتوسيع الشرايين, سترى توابع مرض السكر على عيني, وأيضا تحويلي لأطباء الضغط والروماتويد في عيادات التأمين الصحي.
ثم قلب في أوراق الشؤون القانونية في الملف, واقرأ المذكرات التي قدمتها للشؤون القانونية أشكو فيها من ظلم المدير محسن الهواري ومن الاعتداء اللفظي من زميلي عليِّ, ومن مشادة وقعت بيني وبين زميلتي عنايات, ومن ومن... كثير من المنازعات, هل يتسع اليوم لرواية رحلة ثمانية وثلاثين سنة مستخدما كما كانوا يطلقون علينا زمان؟
انظر الجزاءات التي وُقّعت عليّ؛ كما وُقّعت عليهم أيضا.
يا بني أن تكون موظفا صغيرا في الأرض؛ يعني أن تكون كرة يتداولها لعيبة محترفون في ملعب كبير ممتلئٍ بآلاف المتفرجين, يستمتعون بالفرجة ويهتفون للعيبة, أما الكرة فإن تمزقت من كثرة الركل والتهديف فسرعان ما تستبدل بغيرها؛ دون أن يشغل أحد نفسه بمصير تلك الكرة التي لا تقوم اللعبة إلا بها!
- صدقت والله يا عم صدقي؛ كنت تلك الكرة من خمس دقائق, حينما تناوب على ركلي المدير ونائبه ورئيسا قسم كانا يتناولان القهوة في مكتبه, لم تكن لهما علاقة بالحديث لكن واجب الضيافة في مكتب المدير أن يجاملا بركلتين للكرة التي تغسل وتنشر بالإهانات, لا لشيء إلا لأني أتحمل مزيدا من الأعمال التي تضاف إليَّ كل شهر فوق عملي, كيف أجرؤ وأقول لسيادة المدير العام: أني تعبت وأني أذهب إلى بيتي فاقدا للقوة, وأن لي زملاء في مكاتب مختلفة من المؤسسة لا يفعلون إلا الثرثرة واحتساء الشاي والقهوة, وأن هناك من لا يأتي ويُوَقَّع له, وأني أريد نقلي لقسم من هذه الأقسام.
- ضحك عم صدقي وقال: لقد تجرأت حقا يا صابر, تجرأت جدا!
- وسأوجه إليك السؤال يا بني الذي سبق ووجهته إليَّ, لم لم تفعلها أنت؟ ما زلت في الثلاثين من عمرك, والعمر أمامك وليس خلفك مثلي.
- أسند رأسه ليده وشرد بذهنه ثم أجاب: كل يوم أحدث نفسي بها, كل يوم يا عم صدقي أتخيلني بائعا للجرجير في السوق, أبيع خضرتي وأضحك مع زبائني, فرحا أنني أحكم نفسي بنفسي, لا مدير لي يهينني؛ يأمرني وينهاني, لا أبتلع لساني إذا تطاول عليَّ أحدُهم, أمتلك حرية رفع الظلم عن نفسي بالحكمة, دون أن أكتب مذكرة وأنتظر حكم الشؤون القانونية, ثم مرور ستة أشهر لرفع الجزاء عني إذا وقع, أحلم أن أعود آخر اليوم بما وهبه الله لي من رزق, سليم الصدر لا أتناول حبوب الضغط؛ والتي في كل زيارة يضيف لي الطبيب منها أصنافا جديدة.
- ها هي أوراقك انتهيت من توقيعها يا عم صدقي؛ ومؤكد قريبا جدا ستدخل السوق لتشتري الجرجير وتجد صابرَ هناك جالسا خلف "مشنة" الجرجير ينتظرك أن تستفتحه بشراء باقتين منه.
- حينها سأهنئك على شجاعتك التي لم أقدر عليها.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com