سعد عبد الرحمن - إستاطيقا القبح

- 1 -
رغم أن العلاقة التي تربط بين الطبيعة والفن علاقة حميمة جدا إلا أن لكل منهما منطقه الخاص الذي يحكم عالمه ويغاير منطق الآخر، ومن أوضح الأدلة على تلك المغايرة بين المنطقين ما يتعلق بقضية القبح في الطبيعة والفن، فمفهوم القبح في الطبيعة يختلف اختلافا كليا وجذريا عن مفهومه في الفن، صحيح أن القبح لم يكن يحظى في العصور الماضية بأي اهتمام صريح إذ إن الاهتمام كله كان منصبا على مقابله "الجمال"، والطبيعة الإنسانية يتداخل لديها ما هو حسي بما هو أخلاقي، وهي مجبولة على النفور الدائم من القبح وكراهية كل ما يتصف به لأن القبح مرادف للشر والشر هو كل ما يسبب للإنسان الأذى والالم أوالضجر والسأم ماديا ومعنويا ولذلك يدخل في باب الشر من زاوية معينة أن تتسم الأشياء بالفوضى والعشوائية ويسيطر عليها التنافر وعدم التوازن وتكون مفتقرة إلى التناسب والانسجام، ومجبولة أيضا على الشغف الدائم بالجمال وعشق كل ما يتحلى به لأن الجمال مرادف للخير والخير هو كل ما يجلب السرور والراحة والطمأنينة ماديا ومعنويا ومن ثم يدخل في باب الخير من زاوية معينة أن تتسم الأشياء بالنظام والتوازن وأن يسود أجزاءها التناسب وتتمتع بالانسجام، إلا أنه ينبغي ألا ننسى أن الحديث عن الجمال هو بالضرورة حديث معكوس عن القبح وسبب ذلك أن مفهومي الجمال والقبح مرتبطان ببعضهما رغم تقابلهما ارتباط وجهي العملة الواحدة، فلا يمكن أن يتضح مفهوم أحدهما في الذهن إلا من خلال مفهوم الآخر شأنهما في ذلك شأن كل مفهومين آخرين متقابلين مثل الخير والشر والعدل والظلم والصدق والكذب والحب والبغض والنور والظلام إلى آخر تلك المتوالية الطويلة من المفاهيم العقلية المتقابلة.
ولهذا فإن الخلاف على مفهوم الجمال بين أصحاب النزعة الموضوعية وأصحاب النزعة الذاتية هو أيضا خلاف على مفهوم القبح، فمن يقول بأن الجمال موضوعي أي أنه صفة ماثلة في الأشياء التي نصفها بأنها جميلة يقول في نفس الوقت بأن القبح موضوعي ومن يقول بأن الجمال ذاتي أي أنه صفة تخلعها ذواتنا على الأشياء فنصفها بأنها جميلة يقول في نفس الوقت بأن القبح ذاتي، كذلك نجد أيضا أن القبح كالجمال تماما بتمام هو نتاج علاقة التفاعل بين الذات والموضوع عند أصحاب النزعة التوفيقية الذين أرادوا فض النزاع بين الموضوعيين والذاتيين بالجمع بين مقولتيهما.
على كل حال فبعيدا عن هذه الإشكالية الفلسفية التي لم تحسم حتى الآن بقول قاطع ونهائي، وعودا على بدء نستطيع أن ندلل على اختلاف مفهوم القبح في الفن عن مفهوم القبح في الطبيعة بملاحظة ما يطرأ على الموضوعات الطبيعية القبيحة عندما تنتقل إلى مجال الفن سواء عددنا هذا القبح موضوعيا أو ذاتيا أو موضوعيا وذاتيا في آن معا.
والملاحظة تؤكد لنا أنه بقدر ما يكون الفن فنا جيدا وراقيا تتحول الموضوعات القبيحة طبيعيا فيه إلى موضوعات جميلة فكل ما هو قبيح في الطبيعة من الممكن أن يصير جميلا في الفن من خلال المعالجة الفنية الجيدة، ما معنى ذلك؟ معناه أن الصنعة الفنية (التكنيك) هي المحك الذي يقوم على أساسه التمييز أو الفصل بين مفهوم القبح ومفهوم الجمال في الأعمال الفنية، وهذا ما يفسر لنا سر إعجابنا الشديد مثلا بهذين البيتين للشاعر ابن الرومي (836 - 896 م):
قصرت أخادعه وطال قذاله .. فكأنه متـــرقب أن يصفعا
وكأنما قــــد ذاق أول صفعة .. وأحس ثانيــة لهــا فتجمعا
الرجل الذي يصفه ابن الرومي في البيتين السابقين رجل أحدب ذو رقبة قصيرة وشعر مؤخرة رأسه طويل أي باختصار (رجل قبيح الشكل) ويجسد لنا الشاعر شكله في صورة شخص صفع على قفاه صفعة مؤلمة ويتوقع صفعة أخرى بعدها، بيد أن صورة الرجل "القبيحة فيزيقيا" تلك قد أحالها ابن الرومي بعبقريته الشعرية الفذة إلى صورة فنية جميلة تثير إعجابنا واستحق عليها ثناء النقاد والقراء معا قديما وحديثا.
ونجد مثل هذه الصورة عند المتنبي (915 - 965 م) في هذين البيتين اللذين يصف فيها شخصا لزجا ثقيلا على نفسه:
وجفـــونه ما تستقر كأنها .. مطروفة أو فت فيها حصرم
وإذا أشار محــــدثا فكأنه .. قرد يقهقه أو عجــــوز تلطم
والصورة في البيتين فنيا جميلة بالرغم من أن الشخص الذي يصوره المتنبي في البيتين قبيح سواء أكان قبحه طبيعيا إذ إنه شيخ مسن جفونه لا تنفك عن الحركة (البربشة) وإذا أشار حين يتحدث فكأنه قرد يقهقه أو عجوز تلطم على وجهها، أو كان قبحه معنويا بمعنى أن المتنبي يراه لثقله على نفسه وشدة لزاجته قبيحا إلى درجة أنه يكاد لا يطيق رؤيته.
- 2 -
شعراء كثيرون أدركوا الفرق بين مفهوم القبح في الطبيعة ومفهومه في الفن بشكل عفوي وتلقائي، ولكن منذ فيكتور هوجو (1802 - 1885 م) - كما يقول الدكتور عبد الغفار مكاوي - بدأ الاهتمام يتزايد بالقبح لا بوصفه قيمة مضادة للجمال بل بوصفه قيمة مستقلة معادلة لقيمة الجمال، وقد طرح هوجو أفكاره عن هذا الموضوع في مقدمة مسرحيته الشهيرة (كرومويل) عام 1827 التي تعد بمثابة شهادة ميلاد (الدراما الرومانتيكية) ففي نظريته عن المسخرة التي كانت تعني كل غريب أو عجيب أو مضحك أو مشوه تشويها يبعث على السخرية أضاف هوجو إلى كل ذلك معنى القبح فسوى بين الجمال والقبح مما رفع من قيمة فكرة القبح التي كان ينظر إليها من قبل نظرة الإزراء والازدراء ولا يسمح بها إلا في الأنواع الأدبية المنحطة أو على هامش الفنون التشكيلية حتى أصبحت بفضل ذلك قيمة استاطيقية، وقد طبق هوجو نظريته على سبيل المثال في روايته "أحدب نوتردام" فنحن إذا تأملنا شخصية "كازيمودو" بطل الرواية سنجد فيها نموذجا للقبح الفيزيقي (الجسدي) الذي يتحول من خلال براعة الأديب إلى جمال فني كما رأينا من قبل عند ابن الرومي والمتنبي، فقد غير هوجو انطباعاتنا عن كازيمودو من النفور إلى الإعجاب عندما لفت انتباهنا إلى أنه يخفي تحت قبحه الظاهر قلبا مفعما بأرق المشاعر والأحاسيس، ولعل هذا ما كان يقصده جون جريجور حين قال: "مهما كان قبحنا فإنه يخفي تحته بعض الجمال"، وتلقف شارل بودلير من هوجو (1821 - 1867 م) هذه الأفكار التي شكلت جزءا أساسيا من نظريته الخاصة في "إستاطيقا القبح".
لقد غدا القبح في نظر بودلير المعين الذي لا ينضب للدهشة، الدهشة التي تصدمنا بما لا نتوقعه فتثير أعصابنا وتستفز مشاعرنا وانفعالاتنا ضد كل ما يزينه لنا فهمنا التقليدي للجمال من تفاهات الحياة، ومشروع بودلير أو أفكاره الرئيسية بخصوص القبح التي استلهمها من نظرية هوجو وجد لها روافد ثرية لدى إدجار آلان بو (1809 - 1849 م) الذي يعد أبا للرعب والفزع في الأدب الحديث فاغترف منها، وقد فعل بودلير ذلك - كما يرى بعضهم - بغية أن يغدو امتدادا لرامبو (1845 -1891 م) ولكنه امتداد بالمخالفة، فإذا كان رامبو قادرا على تشويه الجميل وجعله قبيحا كما فعل في قصيدته "فينوس أناديومين" عندما حوّل فينوس ربة الجمال ورمزه عند الإغريق إلى مسخ شائه يثير النفور والتقزز فإنه هو أيضا قادر على تحويل كل ما هو قبيح في مفهوم الناس ماديا ومعنويا إلى شيء جميل، وعنوان ديوانه "أزهار الشر" الذي صدر في أواخر يونيو عام 1857 يحيلنا إلى تأمل تلك العلاقة العريقة التي أقامها الإنسان عبر تاريخه الطويل بين القبح والشر فالشرير قبيح وكلما زادت درجة الشر زادت في المقابل درجة القبح، لذلك كان الإنسان دائما ينفر من القبح لأنه مؤذ - كما سبق أن أشرنا - ومثير للريبة والتقزز والاشمئزاز، وكان دائما يصور الشرير في صورة قبيحة، وإذا استحضرنا صورة "إبليس" الرمز الأول للشر وكذلك صور الشياطين والساحرات الشريرات في شتى الديانات والثقافات الإنسانية سنجد دليلا لا يمكن دحضه على هذا التلازم بين القبح و الشر وإن كان السعدي الشيرازي الشاعر الفارسي الشهير يرى في إحدى قصائده أن "الشيطان جميل" وحين يسأله عن السبب في اعتياد الرسامين أن يصوروه قبيحا ويبغضونه إلى العين يرد عليه إبليس قائلا: إن الريشة التي ترسمني تمسك بها يد عدو حسود سلبهم الرب النعيم فسلبوني الجمال.
بيد أن الفن وحده فقط هو القادر على فك هذا التلازم بين القبح والشر، وهو ما حاول بودلير أن يحققه في ديوانه، وقد وصف جوستاف جوردان مدير تحرير "الفيجارو" الديوان بعد صدوره بعشرة أيام فقط بأنه "كريه ومنحط ويثير الاشمئزاز، وما أشبه صفحاته بمستشفى فتحت أبوابه على مصاريعها لشتى الأمراض العقلية ، وليت ذلك كان لعلاجها لكنها مستعصية، ولقد كان من الممكن أن نفهم ونستوعب أن خيال شاعر في مقتبل العشرينيات من عمره قد ساقه إلى هذا الطريق، لكن كيف يمكننا أن نلتمس العذر لرجل ناضج تجاوز الثلاثين من عمره في اجترائه على نشر كتاب يزخر بتلك الأمور الفظيعة والبشعة؟"، وقال مرة أخرى إنه "حين يتحدث عن بودلير فهو يتحدث عن كابوس، وقراءة ديوانه تملا النفس بالكآبة والحزن العميق"، ويختم حيثياته التي يدين فيها الديوان بقوله: "أمثال هذا الديوان الذي هو بمثابة كومة من الجثث المعروضة بأعصاب باردة وتلك الأقذار المنبوشة بيدين عاريتين يجب أن تحبس حتى تتعفن في قبو المكتبة الوطنية، إنها تحريض صريح على الانحلال الأخلاقي والفساد والرذيلة والتجافي عن السلوكيات القويمة ومقاصد الدين النبيلة الخيرة"، كما يشكك الناقد فرديناند برونتيير في قيمة بودلير كشاعر معبرا مندهشا من غرام الناس به فيقول: "إن بودلير أحد الأصنام المعبودة في هذا الزمن، وهو أشبه مايكون بصنم شرقي شائه الصورة، وقد زاد من شناعته الطبيعية ما أضفي عليه من الأصباغ الغريبة، ومعبد هذا الصنم المعبود من أكثر المعابد ازدحاما"، بيد أن فيكتور هوجو كان له رأي آخر فقد كتب إلى بودلير يقول له "إن إدانتك على الديوان من محكمة باريس وسام على صدرك، وأزهار شرك تشع على العالم كما تشع الشموس والأقمار ... إنك بقصائدك تزود سماء الفن بشعاع جنائزي حزين وتخلق رعشة جديدة في الأدب الفرنسي".
يقول بودلير معبرا عن فلسفته في الخلط بين الجميل والقبيح في شعره والتركيز على القبيح بوصفه قيمة مناظرة لقيمة الجمال: "إن المزية المدهشة للفن هي أن الشيء المفزع المخيف يصبح جميلا إذا عبر عنه تعبيرا فنيا؛ وإن الألم الذي يدخله الإيقاع والتكوين يملأ الروح بالفرح الهادئ"، وقد استطاع بودلير أن يطبق بجدارة نظريته في القبح في شعره جاعلا من القبح نقطة انطلاق مناسبة يبدأ منها رحلته نحو عالمه المثالي الخاص، على سبيل المثال يخاطب بودلير حبيبته في إحدى قصائد ديوانه الشهير (أزهار الشر) بطريقة غير مألوفة قائلا :
وا أسفاه
أنت أيضا ستلاقين نفس المصير البشع
حين تصيرين مثل تلك الجيفة المنتنة
التي تصدم الأعين بمنظرها الفظيع
وقائلا في موضع آخر:
بعد القداس الأخير يا جميلتي
عندما تدفنين تحت الحشائش الناضرة
والأزهار الفواحة
ويفترسك البلى بين العظام النخرة
أخبري - بالله يا حبيبتي - هذه الديدان
التي سترعى في جسدك المتهرئ
أنني بخلت على الفناء بحبك المقدس
إن بودلير في الأبيات السابقة يتعمد الجمع بين الجميل والقبيح فتتجاور في سطوره وجمله الحشائش الناضرة والأزهار الفواحة جنبا إلى جنب العظام النخرة والديدان والجسد المتهرئ، لكنه يركز اهتمامه بشكل خاص على الأشياء القبيحة فيكاد لا يذكر عنصرا جميلا إلا وقد حشد قبله وبعده جملة من الأشياء القبيحة، وقد أشار إلى ذلك الدكتور طه حسين في مقالة له عن "الحرية والفن" في مجلة "الجديد" القديمة فقال عن بودلير: "إذا ذكر الحب ذكر معه الألم والموت وهو إذا ذكر الألم ذكر معه الحب والموت وهو إذا ذكر الموت ذكر معه الألم والحب وهو في كل ذلك حر جريء مجازف يتخير أبشع الصور وأقبحها وأشدها تأثيرا في النفس من هذه النواحي البشعة القبيحة وهو مادي التصور لحسه المادي أثر قوي في شعره ولا سيما حس اللمس والشم أو البصر فهو يعرض عليك هذه الصور البشعة التي يحسها الشم أو اللمس أم البصر في الأجسام الهالكة المتحللة و"أزهار الشر" هذه التي يشتمل عليه ديوانه أزهار فيها جمال قوي رائع ولكنه في نفس الوقت بشع مخيف تضطرب له النفس وتشمئز في كثير من الأحيان.
بيد أن العقاد - مناقشا لمقالة الدكتور طه حسين ومعلقا عليها في جريدة البلاغ الأسبوعي تحت عنوان "الجمال والشر في الفنون" - يرى أن فلسفة بودلير الفاسدة الشائهة بخصوص الحياة هي ثمرة جور الحياة وقسوتها عليه وظلمها له ظلما فادحا فهو يريد أن ينتقم منها بتصويرها هكذا ويستشهد بجزء من قصيدة بودلير "الانقباض" على ذلك حيث يقول والترجمة هنا للعقاد:
"إن هذه الحياة
قد جارت عليّ أقبح الجور
وحرمتني الأبوة
وحرمتني المنزل الأنيس
وحرمتني العافية
وحرمتني كل لذة من لذات الطبيعة البريئة،
أسقمتني فبدت لي سقيمة،
شاهت في عينيّ فلم أرها إلا شائهة،
خذلت قواي فما أبقت لي من بقية
إلا تلك القوة التي ألعنها بها
وأصوغ الشعر في هجائها"
ويعقب العقاد على هذ النص بقوله: "ما كانت ثورته الخائبة على الطبيعة إلا ضربا من ثورة الضمير على ظلم الشرور ولا كان إمعانه في النظر إلى الدمامة والقبح إلا اشمئزازا معكوسا يأخذ من نفسه الكليلة مأخذ الانتقام"، وقد أصاب العقاد في تحليله ووضع يده على مكمن العلة، ويؤكد ذلك بودلير نفسه في رسالته إلى أمه بعد الضجة التي أثارها الديوان حيث يقول "إنني مسرور ربما لأول مرة في حياتي، فالديوان ممتاز ولسوف يكتب له البقاء، إنه بمثابة شهادة على كراهيتي واشمئزازي من كل شيء"، لكن العقاد يرى أن "الشر والجمال كثيرا ما اجتمعا في الطبيعة والحياة فلماذا لا يجتمعان كثيرا في القصيد وسائر الفنون؟، بل لقد كان القبح نفسه - وهو نقيض الجمال - موضوعا للفنون الجميلة من شعر وتمثيل و تصوير"، فلا مجال للدهشة أو الاستغراب من ذلك ويروي عن ليوناردو دافينشي المصور والباحث العظيم أنه كان يتصيد المتسولة قباح المعارف والأجسام فيسقيهم الخمر ويقص عليهم النوادر المضحكة ليغربوا في الضحك ويلمح على وجوههم المنكرة سرور البشاعة المخيف فيلتقطه لتوه ويسجله في كناشته وهو سعيد بتصويره الجميل لذلك المنظر القبيح، وقد كان ذلك في عصر النهضة، أما اليوم فشعار الفنون بعامة أن كل ما يؤدى أداء جميلا فهو صالح للقلم والريشة والمعزف، وعلى هذا يعطينا الشاعر جمالا حين يعطينا الجثة الميتة في قصيد جيد الوصف والأداء ويفعل الممثل شيئا حسنا حين يتقن تمثيل الغدر والدناءة والإثم والرذائل الشائنة لمن يقارفها من الناس".
ترى هل كان بودلير يفعل لذلك لمجرد أن يثبت لنا أن القبح في الطبيعة يمكن أن يتحول إلى جمال في الفن إذا ما عولج على يدي فنان صناع وقدير مثله؟ لا أظن ذلك ففي اعتقادي أن بودلير قد تجاوز هذه النقطة إلى حد يمكن معه القول بأنه يشيد بالقبح بل يمجده ويؤمن بضرورة اعتماده في الفن كقيمة مماثلة بل مكافئة لقيمة الجمال
وهذه النظرية الجديدة الخاصة بالقبح بوصفها قيمة مكافئة لقيمة الجمال لم يقتصر تأثيرها على مجال الشعر فقط بل تعدته إلى مجالات فنون كثيرة شتى لا سيما الفنون التشكيلية والسينما، ويكاد يكون التشويه المتعمد للواقع الذي أصبح الأدباء والفنانون - منذ بودلير ورودان (المثال الشهير) الذي شاركه الإيمان بنفس النظرية - يعتمدونه في أعمالهم الفنية والأدبية كآلية فنية (تكنيك) من أجل خلق واقع جديد خال من الرتابة والضجر وأقدر على المفاجأة والإثارة وليد هذه النظرية، وعلى الدرب الذي شقته تلك النظرية في عالم الإبداع سار مثلا فنانو مدرسة الواقعية الجديدة فراحوا يشكلون من النفايات والأشياء القبيحة المنبوذة أعمالا تشكيلية ذات قيمة جمالية فنيا، وفي تجارب الرسام الفرنسي هنري ماتيس والنحات السويسري جون تانغلي وغيرهما مثلا الدليل على ذلك..

سعد عبد الرحمن

- من الكتاب الرابع "في حضرة الجمال"


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى