تجرني الحياة من أذنيِ...كصبي مشاكس وأستاذة حاقدة..لكن... إلى أين تذهبين بي يا أستاذة حياة؟
والأستاذة حياة لا تجيب، بل تسير وتسير وأنا مُنجر من أذني منحنياً خلفها..
...
قال ضاحكاً:
-كنت أهمس بأنها ربما ستلقي بي على كرسي أمام طاولة قُبالة فتاة جميلة..
فأطيعها قليلاً وأقاوم كثيراً"..
يضع ساقاً فوق ساق ويمد يده:
- هات ألفاً ومأئتي جنيه..
فأرفع بصري متردداً..ثم أتذكر بأنني لا أملك هذا المبلغ.
يقول غاضباً:
- أحكي لك عن أسراري الشخصية كلها ورغم ذلك تبخل عليَّ بهذا المبلغ التافه..
اعترضت:
- أقسم لك لا أملكه..نحن نعيش سلفقة..
- سلفقة؟!!
ينهض ويقول بغضب:
- أنت من يعيش سلفقة..أما أنا فلا...أنا رجل كسيب..وداعاً..لا تنس أن تدفع ثمن كوب الشاب..
ثم يغادر.
....
إنه الشخص الوحيد الذي لم يوحِ لي بالقصص، لأنه في الواقع قد حكى لي كل القصص المحتملة. وكنت محتاجاً للتدخين بشراهة لأتخلص من قصصه.
...
طلبت بيرجر بالجبنة ومعها مخلل وصندوق بطاطس صغير.
ألا يمكننا أن نتخلص من هذا الجوع إلى الأبد..يبدو أنه مرض مزمن.. إن كل احتياجات الجسد مرض مزمن. ورأيت الأستاذة تجر الصبي من خلف نافذة المطعم الزجاجية. فتركت السندوتش وهرولت خارجاً من المطعم.
- أستاذة حياة..أستاذة حياة..
توقفت والصبي خلفها ثم التفتت نحوي بوجه متجهم كجنرال عسكري..ورمقتني بنظرة ساخطة.
- ليس من الجيد أن تفعلي هذا بطفل صغير...
وبطريقة ما مدت يدها بسرعة وقبضت على اذني..وعوت بصوتها:
- هيا..
وجرتنا نحن الإثنين من أذنينا.. ثم برزت من تحت تنورتها الصوفية يد أخرى فقبضت على اذن شخص ثالث، ويد رابعة وشخص رابع...
...
فتحت عيني، ورأيتها تدخن أمامي.
- نمت؟
سألتني كما لو لم تكن تنتظر الإجابة.
- غفوت ولم أكمل قهوتي بعد..من الجيد أن رأسي لم يسقط على الطاولة..
- سيسقط..
- نعم؟!
- سيسقط يوماً ما..
ثم ارتكزت بكفيها على حافة الطاولة والسجارة بين أصابعها.
- عليك أن تصبح جاداً قليلاً..
أصابني الفزع وثقبتني بعينين غاضبتين..ثم لملمت الهواء داخل حقيبتها الجلدية القديمة وغادرت.
----
- آه آه يا معلمتي.. أذني تؤلمني.. تؤلمني..
____
- اللعنة عليك يا فتحي..اللعنة.. لم أعد قادراً على التخلص من صورة الصبي والأستاذة حياة..
شمر أكف بنطاله وأنفاسه تضيق والعروق تظهر من جانبي عينيه:
- سأخلصك من هذا المشهد..
ولما انتهى نصب ظهره ورفع ساقيه قليلاً عن الأرض وفرك حذائيه مع بعضهما واستقر ثابتا على الكرسي ثم التفت نحوي وقال:
- أولاً أحتاج لبعض المال..
ضاقت عيناه وهمّ بالبكاء:
- الوضع لا يحتمل..
- تركتني سعاد أيضاً..
أوقف بكاءه وقال:
- ستلتقي بغيرها فهذه أقل مشكلة يمكن أن تواجهك في الحياة..
نهض ووقف أمامي في انتظار المال.
- أقسم لك لا أملك سوي تسعمائة جنيه..
- هاتها..
وكالمغيب مددت يدي وأخرجتها..
----
عليَّ أن أسير مشواراً طويلاً على قدميَّ الآن...
ستحصل المعجزة..
أنا متأكد ستحصل المعجزة..
سحقتُ كعب السجارة بحذائي ومضيت كأي مشرد أحمق..
___
"لا تتعلق المسألة بالمال .. أبداً أقسم لك.. بل تتعلق بشعورنا الذاتي.. بأن نشعر بأننا أحياء.. أحياء بلا خوف ولا قلق..أن نعيش التشبع بالحياة"..
- ولكنك تبدو كلبياً..
رشف من كوب الشاي وأجاب:
- الكلبيون حمقى...ليس من المهم شكل الحياة الذي يشبعنا..فلو فهموا فلسفتهم لأدركوا بأننا جميعنا من الكلبيين بصورة أو بأخرى...إن الحياة خيار فردي في النهاية..
مد يده إلى جيبه وأخرج ورقتين ماليتين:
- هذه اربعمائة جنيه جزء من الدين..
مددت يدي لأخذها فسحبها بسرعة وقال:
- يا إلهي.. يا إلهي..تذكرت.. يجب أن أدفع سبعمائة جنيه حتى لا يتم سجني..أرجوك اكملها لي..
- قل ذلك منذ البداية بدلاً عن هذه الحركة المتحذلقة..
تجهم وجهه هاماً بالبكاء كعادته..فأخرجت مائة جنيه:
- لا أحتمل السير بقدمي..هذه مائة فقط..
...
وكنت متوتراً كالعادة، وأشعر بأن وجهي جاف، وشفاهي تختلج.
كان عليَّ أن أفكر دائما في الأمام..وليس في الهنا.. وهذه معضلة.. "يجب أن تكون مثل فتحي"..ولكن كيف؟..إنني أمر بأوقات عصبية مع التوتر النفسي. "انفتح على المباهج" قالت ذلك لي إحداهن بعد دقيقتين فقط. أو ربما أقل. "إنني أفشل بسرعة".. "لأنك تفكر في الفشل..". قلت لها:
- لو كنت أمتلك مالاً لطلبت منك التجربة مرة أخرى..
قالت ضاحكة:
- وهل كانت هناك مرة أولى..
ضحكت، وبدا لي أنني سأنجح في المرة الثانية:
- إذاً..إمنحيني فرصة أخرى..
ونجحت.. ولكنه كان نجاحا بلا طعم..
نظر إليَّ الطبيب النفسي وهمس:
- لماذا؟
ربما تعمد أن يكون صوته هامساً حتى لا أكون متأكداً من السؤال، فأجبته:
- لأنني فشلت في المرة الأولى..
لوى شفتيه وقال:
- أمر طبيعي..
ثم دفع بمنفضة السجائر نحوي:
- يمكنك أن تدخن لو أحببت..رغم أنني لا أشجع على التدخين..
....
- هل غفوت مرة أخرى؟..
- لا.. هل وجدتِ رجلا آخر..
نظرت نحوي بعينيها الواسعتين ثم قالت بثبات:
- لا..
أدركت أنها وجدت رجلاً حقيقياً.. ولم يكن ذلك مهماً..
- بالنسبة لي أشعر بإضطراب تجاه ذلك.. ربما.. ربما من الأفضل أن تتخلي عني وربما لا.. أنا لا أعرف.. فأنا لست رجلاً حقيقياً..
أشاحت بوجهها إلى اليسار. كان فتحي يعبر الطريق وقد ارتدى نظارة سوداء وبيده عصا العميان. إنه دور جديد يمثله.
- أنا كذلك لا أدري.. لا تبدو مناسباً لي كرجل ولكن كطفل..
- من الجيد أنهم يسمحون بالتدخين هنا..
قالت:
- لا تكترث بالقوانين على هذا النحو الصارم..فالقوانين مجرد برستيج.
....
"إن المرأة العقلانية نادرة جداً"..
قلت لفتحي ذلك وصوتها الرخيم يدق في أذني؛ فندت منه قهقهة مكتومة وقال:
- إنها أيضاً الأكثر خبرة في الخيانة..
- لا أجد معنى لهذه الكلمة.. إنها وهم التملك..
قال وقد دفع ورقة نقود على الطاولة:
- لا تستبعد المشاعر من سلطان الحقيقة..إليك بعض دينك علي.
- هل أنت متأكد؟..
قال:
- نعم.. متأكد تماماً.. لقد حصلت على مرتب شهري..
قلت:
- من مركز المعاقين الخليجي؟
نظر لي بدهشة وذعر أيضاً.
...
هناك شك دائماً..دائماً هناك شك..ولا أشك في ذلك الشك أبداً..
- إنك لم تحكِ قصة حتى الآن..
قلت:
- لأن القصة الحقيقية لا يمكن أن تُحكى..
- لماذا؟
- لأنها أعمق من سطحية اللغة..إنها..إنها خليط من وقائع ومشاعر.. تاريخ.. ماضٍ وحاضر..تقلبات.. حظ أو قدر أو تأثير نجمي..ميلادات وميتات..وهذا فوق احتمال اللغة..يبدو كل شيء تافها حين يُكتب...مصنوعاً وليس طبيعياً..
- هل تناولت الدواء؟
نظر إليَّ نظرة بوليسية فسكت..
مد يده اليمنى واقتلع دفتراً صغيراً وأخذ يدون فيه كلمات بلغة أجنبية..
- بماذا تشعر؟
قلت:
- أشعر بأنني نقلت إليك توتري..
توقف عن الكتابة قليلاً ثم واصل أسئلته المتعجرفة:
- لماذا تشعر بأنك نقلت إليَّ توترك؟
- لا أدري..
كنت أود لو أخبرني مباشرة بصدق شعوري، لكنه جمَّد ملامحه فزادني شكاً.
قطع الورق من كعب الدفتر بنفضة واحد وقال:
- سنغير الدواء..
كتب الوصفة الطبية ومد الورقة لي:
- إنه دواء فصام..ستتناول منه قرصاً واحداً إما صباحاً أو مساءً..لمدة ثلاثة أسابيع وسنرى بعد ذلك..
....
اختفى فتحي واختفت هي أيضاً، وبت وحيداً داخل العربة.
هذا الكون عربة معطلة قديمة ملقاة في صحراء..
"يا إلهي ربما كان أرتور آدموف يقصد ذلك..في العربة.. حيث السيدات الثلاث المعزولات.."..
- تتشابه تجربتك مع تجربتهن؟
ليس من المفترض على الطبيب أن يحول علاقته بمريضه إلى علاقة شخصية..أنا أدرك ذلك..ولكنني أحتاج لك بشدة..
أرسلت له الرسالة..ولم يرد..
..
لم يكن الكون منعزلاً كهذا اليوم.. الكون منعزل عن أي شيء؟ عن نفسه؟ لا.. إنما عن معناه..
تخيلت فتحي جالساً قربي..إنه تافه ولكنه حكيم.. وهذا ما يجذبني إليه..إنه قورينائي شهواني.. ليس تجاه النساء وإنما تجاه الفناء في الوجود..عدمي ولا عدمي..
وجدت قدميَّ تقوداني إلى عشته المركبة خلق أحد القصور، فهناك يصنع الخمر البلدي ويدفنها تحت الأرض.. لكنه لا يبيعها أبداً..إنه يخزنها فقط..
كانت العشة مظلمة..
وحين ازحت قطعة القماش ودخلت وجدت جثة فتحي متفسخة ومتعفنة..
...
- فليرقد بسلام..
ضحكتُ عندما سمعتها تقول ذلك..
- لا زلتِ راديكالية..
ولأول مرة اراها تبتسم..
- لستُ كذلك.. لكنني ملتزمة فقط..
- الإلتزام هو كل شيء..
قالت:
- يجب عليك أن تؤمن بذلك لتجد علاجاً لمشكلتك.. هذا كل ما ينقصك..
- إنني أبحث..
أدرت راسي متلفتاً حولي..وقلت:
- عن ذلك الشيء الذي سيجعلني ملتزماً به..
هزت رأسها كما لو كانت ترتعش:
- لن تجده..
ثم اضافت:
- إن الخوف هو الذي يمنعك من أن تجده..الخوف من الفشل..حاول أن تقتحم وتقبل الفشل بعد ذلك..
- لا أملك أعصاباً للمجازفة..
ثم قلت:
- لا أحد يعرفني.. في الواقع لا احد يعرف أي أحد آخر.. لكننا نحكم على الآخرين بسهولة أكثر من الحكم على أنفسنا..
قالت:
- تزوج..
- بكِ؟
- لا أمانع فأنا لا أملك كبرياءً أنثوياً للممانعة..ولكنني أقصد بشكل عام..
....
كنت أجلس أمام الطبيب، وكان يجلس بصمت مثلي، يكتب على الورقة في الدفتر..
وكنت أتخيل حواراً متوهماً معي:
- حياتك تبدو غامضة جداً..
- نعم..
- لماذا؟
- لأنها واضحة أكثر مما يجب..
فيزم شفتيه وعدسات نظارته تلمع فوق أرنبة أنفه، فأقول:
- لماذا لا تسألني أسئلة جوهرية؟
فيرفع عينيه نحوي ويجيب:
- لأنني طبيب..
وحين أصمت يقول:
- لست كاهناً يتلقى الإعترافات..بل أسأل الأسئلة التي أعرف أنها تصب في تشخيص المرض..
قطع صوته حواري المتخيل وهو يقول:
- هل تناولت الدواء..
- نعم..
- هل شعرت بتحسن..
- لا..
- بماذا شعرت؟
كدت أن أجيبه بأنني لم أتحسن، لكنني فضلت إجابة أقل سخرية:
- لا زلتُ متوتراً..لا زلت أشعر بأنني أنقل توتري إلى الناس..
رأيت عينيه تضيقان والغضب يرتسم على ملامحه..
- هيا..
نظرت نحوه مستفهماً، لكن وجهه بدأ يتبدل لوجه آخر، وجه الأستاذة حياة..
صحت:
- ليس أنتَ أيضاً..
نهض من مقعده ودار من خلف المكتب بسرعة ثم أمسكني من أذني وجرني خلفه:
- هيا هيا..
فتحت باب العيادة وجرتني وراءها.. كنت منحنياً وضغطات أصابعها على أذني تؤلمني..
- آه آه يا معلمتي.. أذني تؤلمني.. تؤلمني..
تؤلمني.. تؤلمني..تؤلمني..
(تمت)
والأستاذة حياة لا تجيب، بل تسير وتسير وأنا مُنجر من أذني منحنياً خلفها..
...
قال ضاحكاً:
-كنت أهمس بأنها ربما ستلقي بي على كرسي أمام طاولة قُبالة فتاة جميلة..
فأطيعها قليلاً وأقاوم كثيراً"..
يضع ساقاً فوق ساق ويمد يده:
- هات ألفاً ومأئتي جنيه..
فأرفع بصري متردداً..ثم أتذكر بأنني لا أملك هذا المبلغ.
يقول غاضباً:
- أحكي لك عن أسراري الشخصية كلها ورغم ذلك تبخل عليَّ بهذا المبلغ التافه..
اعترضت:
- أقسم لك لا أملكه..نحن نعيش سلفقة..
- سلفقة؟!!
ينهض ويقول بغضب:
- أنت من يعيش سلفقة..أما أنا فلا...أنا رجل كسيب..وداعاً..لا تنس أن تدفع ثمن كوب الشاب..
ثم يغادر.
....
إنه الشخص الوحيد الذي لم يوحِ لي بالقصص، لأنه في الواقع قد حكى لي كل القصص المحتملة. وكنت محتاجاً للتدخين بشراهة لأتخلص من قصصه.
...
طلبت بيرجر بالجبنة ومعها مخلل وصندوق بطاطس صغير.
ألا يمكننا أن نتخلص من هذا الجوع إلى الأبد..يبدو أنه مرض مزمن.. إن كل احتياجات الجسد مرض مزمن. ورأيت الأستاذة تجر الصبي من خلف نافذة المطعم الزجاجية. فتركت السندوتش وهرولت خارجاً من المطعم.
- أستاذة حياة..أستاذة حياة..
توقفت والصبي خلفها ثم التفتت نحوي بوجه متجهم كجنرال عسكري..ورمقتني بنظرة ساخطة.
- ليس من الجيد أن تفعلي هذا بطفل صغير...
وبطريقة ما مدت يدها بسرعة وقبضت على اذني..وعوت بصوتها:
- هيا..
وجرتنا نحن الإثنين من أذنينا.. ثم برزت من تحت تنورتها الصوفية يد أخرى فقبضت على اذن شخص ثالث، ويد رابعة وشخص رابع...
...
فتحت عيني، ورأيتها تدخن أمامي.
- نمت؟
سألتني كما لو لم تكن تنتظر الإجابة.
- غفوت ولم أكمل قهوتي بعد..من الجيد أن رأسي لم يسقط على الطاولة..
- سيسقط..
- نعم؟!
- سيسقط يوماً ما..
ثم ارتكزت بكفيها على حافة الطاولة والسجارة بين أصابعها.
- عليك أن تصبح جاداً قليلاً..
أصابني الفزع وثقبتني بعينين غاضبتين..ثم لملمت الهواء داخل حقيبتها الجلدية القديمة وغادرت.
----
- آه آه يا معلمتي.. أذني تؤلمني.. تؤلمني..
____
- اللعنة عليك يا فتحي..اللعنة.. لم أعد قادراً على التخلص من صورة الصبي والأستاذة حياة..
شمر أكف بنطاله وأنفاسه تضيق والعروق تظهر من جانبي عينيه:
- سأخلصك من هذا المشهد..
ولما انتهى نصب ظهره ورفع ساقيه قليلاً عن الأرض وفرك حذائيه مع بعضهما واستقر ثابتا على الكرسي ثم التفت نحوي وقال:
- أولاً أحتاج لبعض المال..
ضاقت عيناه وهمّ بالبكاء:
- الوضع لا يحتمل..
- تركتني سعاد أيضاً..
أوقف بكاءه وقال:
- ستلتقي بغيرها فهذه أقل مشكلة يمكن أن تواجهك في الحياة..
نهض ووقف أمامي في انتظار المال.
- أقسم لك لا أملك سوي تسعمائة جنيه..
- هاتها..
وكالمغيب مددت يدي وأخرجتها..
----
عليَّ أن أسير مشواراً طويلاً على قدميَّ الآن...
ستحصل المعجزة..
أنا متأكد ستحصل المعجزة..
سحقتُ كعب السجارة بحذائي ومضيت كأي مشرد أحمق..
___
"لا تتعلق المسألة بالمال .. أبداً أقسم لك.. بل تتعلق بشعورنا الذاتي.. بأن نشعر بأننا أحياء.. أحياء بلا خوف ولا قلق..أن نعيش التشبع بالحياة"..
- ولكنك تبدو كلبياً..
رشف من كوب الشاي وأجاب:
- الكلبيون حمقى...ليس من المهم شكل الحياة الذي يشبعنا..فلو فهموا فلسفتهم لأدركوا بأننا جميعنا من الكلبيين بصورة أو بأخرى...إن الحياة خيار فردي في النهاية..
مد يده إلى جيبه وأخرج ورقتين ماليتين:
- هذه اربعمائة جنيه جزء من الدين..
مددت يدي لأخذها فسحبها بسرعة وقال:
- يا إلهي.. يا إلهي..تذكرت.. يجب أن أدفع سبعمائة جنيه حتى لا يتم سجني..أرجوك اكملها لي..
- قل ذلك منذ البداية بدلاً عن هذه الحركة المتحذلقة..
تجهم وجهه هاماً بالبكاء كعادته..فأخرجت مائة جنيه:
- لا أحتمل السير بقدمي..هذه مائة فقط..
...
وكنت متوتراً كالعادة، وأشعر بأن وجهي جاف، وشفاهي تختلج.
كان عليَّ أن أفكر دائما في الأمام..وليس في الهنا.. وهذه معضلة.. "يجب أن تكون مثل فتحي"..ولكن كيف؟..إنني أمر بأوقات عصبية مع التوتر النفسي. "انفتح على المباهج" قالت ذلك لي إحداهن بعد دقيقتين فقط. أو ربما أقل. "إنني أفشل بسرعة".. "لأنك تفكر في الفشل..". قلت لها:
- لو كنت أمتلك مالاً لطلبت منك التجربة مرة أخرى..
قالت ضاحكة:
- وهل كانت هناك مرة أولى..
ضحكت، وبدا لي أنني سأنجح في المرة الثانية:
- إذاً..إمنحيني فرصة أخرى..
ونجحت.. ولكنه كان نجاحا بلا طعم..
نظر إليَّ الطبيب النفسي وهمس:
- لماذا؟
ربما تعمد أن يكون صوته هامساً حتى لا أكون متأكداً من السؤال، فأجبته:
- لأنني فشلت في المرة الأولى..
لوى شفتيه وقال:
- أمر طبيعي..
ثم دفع بمنفضة السجائر نحوي:
- يمكنك أن تدخن لو أحببت..رغم أنني لا أشجع على التدخين..
....
- هل غفوت مرة أخرى؟..
- لا.. هل وجدتِ رجلا آخر..
نظرت نحوي بعينيها الواسعتين ثم قالت بثبات:
- لا..
أدركت أنها وجدت رجلاً حقيقياً.. ولم يكن ذلك مهماً..
- بالنسبة لي أشعر بإضطراب تجاه ذلك.. ربما.. ربما من الأفضل أن تتخلي عني وربما لا.. أنا لا أعرف.. فأنا لست رجلاً حقيقياً..
أشاحت بوجهها إلى اليسار. كان فتحي يعبر الطريق وقد ارتدى نظارة سوداء وبيده عصا العميان. إنه دور جديد يمثله.
- أنا كذلك لا أدري.. لا تبدو مناسباً لي كرجل ولكن كطفل..
- من الجيد أنهم يسمحون بالتدخين هنا..
قالت:
- لا تكترث بالقوانين على هذا النحو الصارم..فالقوانين مجرد برستيج.
....
"إن المرأة العقلانية نادرة جداً"..
قلت لفتحي ذلك وصوتها الرخيم يدق في أذني؛ فندت منه قهقهة مكتومة وقال:
- إنها أيضاً الأكثر خبرة في الخيانة..
- لا أجد معنى لهذه الكلمة.. إنها وهم التملك..
قال وقد دفع ورقة نقود على الطاولة:
- لا تستبعد المشاعر من سلطان الحقيقة..إليك بعض دينك علي.
- هل أنت متأكد؟..
قال:
- نعم.. متأكد تماماً.. لقد حصلت على مرتب شهري..
قلت:
- من مركز المعاقين الخليجي؟
نظر لي بدهشة وذعر أيضاً.
...
هناك شك دائماً..دائماً هناك شك..ولا أشك في ذلك الشك أبداً..
- إنك لم تحكِ قصة حتى الآن..
قلت:
- لأن القصة الحقيقية لا يمكن أن تُحكى..
- لماذا؟
- لأنها أعمق من سطحية اللغة..إنها..إنها خليط من وقائع ومشاعر.. تاريخ.. ماضٍ وحاضر..تقلبات.. حظ أو قدر أو تأثير نجمي..ميلادات وميتات..وهذا فوق احتمال اللغة..يبدو كل شيء تافها حين يُكتب...مصنوعاً وليس طبيعياً..
- هل تناولت الدواء؟
نظر إليَّ نظرة بوليسية فسكت..
مد يده اليمنى واقتلع دفتراً صغيراً وأخذ يدون فيه كلمات بلغة أجنبية..
- بماذا تشعر؟
قلت:
- أشعر بأنني نقلت إليك توتري..
توقف عن الكتابة قليلاً ثم واصل أسئلته المتعجرفة:
- لماذا تشعر بأنك نقلت إليَّ توترك؟
- لا أدري..
كنت أود لو أخبرني مباشرة بصدق شعوري، لكنه جمَّد ملامحه فزادني شكاً.
قطع الورق من كعب الدفتر بنفضة واحد وقال:
- سنغير الدواء..
كتب الوصفة الطبية ومد الورقة لي:
- إنه دواء فصام..ستتناول منه قرصاً واحداً إما صباحاً أو مساءً..لمدة ثلاثة أسابيع وسنرى بعد ذلك..
....
اختفى فتحي واختفت هي أيضاً، وبت وحيداً داخل العربة.
هذا الكون عربة معطلة قديمة ملقاة في صحراء..
"يا إلهي ربما كان أرتور آدموف يقصد ذلك..في العربة.. حيث السيدات الثلاث المعزولات.."..
- تتشابه تجربتك مع تجربتهن؟
ليس من المفترض على الطبيب أن يحول علاقته بمريضه إلى علاقة شخصية..أنا أدرك ذلك..ولكنني أحتاج لك بشدة..
أرسلت له الرسالة..ولم يرد..
..
لم يكن الكون منعزلاً كهذا اليوم.. الكون منعزل عن أي شيء؟ عن نفسه؟ لا.. إنما عن معناه..
تخيلت فتحي جالساً قربي..إنه تافه ولكنه حكيم.. وهذا ما يجذبني إليه..إنه قورينائي شهواني.. ليس تجاه النساء وإنما تجاه الفناء في الوجود..عدمي ولا عدمي..
وجدت قدميَّ تقوداني إلى عشته المركبة خلق أحد القصور، فهناك يصنع الخمر البلدي ويدفنها تحت الأرض.. لكنه لا يبيعها أبداً..إنه يخزنها فقط..
كانت العشة مظلمة..
وحين ازحت قطعة القماش ودخلت وجدت جثة فتحي متفسخة ومتعفنة..
...
- فليرقد بسلام..
ضحكتُ عندما سمعتها تقول ذلك..
- لا زلتِ راديكالية..
ولأول مرة اراها تبتسم..
- لستُ كذلك.. لكنني ملتزمة فقط..
- الإلتزام هو كل شيء..
قالت:
- يجب عليك أن تؤمن بذلك لتجد علاجاً لمشكلتك.. هذا كل ما ينقصك..
- إنني أبحث..
أدرت راسي متلفتاً حولي..وقلت:
- عن ذلك الشيء الذي سيجعلني ملتزماً به..
هزت رأسها كما لو كانت ترتعش:
- لن تجده..
ثم اضافت:
- إن الخوف هو الذي يمنعك من أن تجده..الخوف من الفشل..حاول أن تقتحم وتقبل الفشل بعد ذلك..
- لا أملك أعصاباً للمجازفة..
ثم قلت:
- لا أحد يعرفني.. في الواقع لا احد يعرف أي أحد آخر.. لكننا نحكم على الآخرين بسهولة أكثر من الحكم على أنفسنا..
قالت:
- تزوج..
- بكِ؟
- لا أمانع فأنا لا أملك كبرياءً أنثوياً للممانعة..ولكنني أقصد بشكل عام..
....
كنت أجلس أمام الطبيب، وكان يجلس بصمت مثلي، يكتب على الورقة في الدفتر..
وكنت أتخيل حواراً متوهماً معي:
- حياتك تبدو غامضة جداً..
- نعم..
- لماذا؟
- لأنها واضحة أكثر مما يجب..
فيزم شفتيه وعدسات نظارته تلمع فوق أرنبة أنفه، فأقول:
- لماذا لا تسألني أسئلة جوهرية؟
فيرفع عينيه نحوي ويجيب:
- لأنني طبيب..
وحين أصمت يقول:
- لست كاهناً يتلقى الإعترافات..بل أسأل الأسئلة التي أعرف أنها تصب في تشخيص المرض..
قطع صوته حواري المتخيل وهو يقول:
- هل تناولت الدواء..
- نعم..
- هل شعرت بتحسن..
- لا..
- بماذا شعرت؟
كدت أن أجيبه بأنني لم أتحسن، لكنني فضلت إجابة أقل سخرية:
- لا زلتُ متوتراً..لا زلت أشعر بأنني أنقل توتري إلى الناس..
رأيت عينيه تضيقان والغضب يرتسم على ملامحه..
- هيا..
نظرت نحوه مستفهماً، لكن وجهه بدأ يتبدل لوجه آخر، وجه الأستاذة حياة..
صحت:
- ليس أنتَ أيضاً..
نهض من مقعده ودار من خلف المكتب بسرعة ثم أمسكني من أذني وجرني خلفه:
- هيا هيا..
فتحت باب العيادة وجرتني وراءها.. كنت منحنياً وضغطات أصابعها على أذني تؤلمني..
- آه آه يا معلمتي.. أذني تؤلمني.. تؤلمني..
تؤلمني.. تؤلمني..تؤلمني..
(تمت)