(9)
نُزْهَةُ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق
ما إنْ دَخَلْنَا عَلَى طَريد الزَّمَان بَعْدَ العِشَاء، حَتَّى قَامَ يُصَلِّي خَلْفَ سَجَّادة حَمْرَاء، فَجَلَسْنَا في مَجْلِسِهِ بخُشُوع، نَنْتَظِرُ انتِهَاءَهُ مِنَ السُّجُودِ والرُّكُوع، وإذْ أَطَالَ عَلَيْنَا الأَمْر، ظَنَنَّا أنَّا في لَيْلَةِ القَدْر، فلَمَّا أنْهَى صَلاتَهُ وَسَلَّم، دَعَوْنَا أنْ يَتَقَبّلَ اللهُ مِنْه النَّافِلَةَ والمَفْرُوضَة، فَقَالَ: اسمَعُوا مِنّي هَذِهِ الأُمْحُوضَة: دَعُوا ثُلثَ لَيْلِكُم لعِبَادَة رَبِّ العِبَاد، وثُلُثَهُ للرُّقَاد، وثُلُثَهُ للمُذَاكَرَة ، فَقُلْنَا: وأَيْنَ وَقْتُ المُسَامَرة؟ ومَتَى ستَلْتَقي الرِّفَاق؟ وَقَدْ واعَدْتَهُم بِـ "نُزْهَةِ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق "؟ قَالَ: سَأَعُدُّ وَقْتَ المُسَامَرة مِنَ المُذَاكَرة، قُلْنَا وَقَدْ أَصَابَنا الذُّهُول: عَهِدْنَاَك تَكْتَفي بالفَرْض، وتَقْطَعُ الدّنْيَا بالطُّولِ والعَرْض، فَقَالَ: مَنَّ اللهُ عَليَّ بنُورِ اليَقِين، وَهُو يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ لصِرَاطِهِ المُبِين، فقُلْنا ضَاحِكِين: دَعْنَا نَجْلِسْ بِحِذَائِك، ونَتَمَسَّحْ بِرِدائِك.
غَيْرَ أنَّ طَريدَ الزَّمَان، لم تَضْحَك مِنْهُ الأسْنَان، بَل راحَ يقُولُ في وَقَار: حِينَ انتَصَرَت المُقَاوَمَةُ عَلَى جَحَافِلِ العَدُوِّ الغَدّار، في كِلِّ شِبْرٍ مِنْ قِطَاعِ غَزَّة، مَلأني شُعُورُ العِزّة، إذْ لم تَسْتَطِعْ مَنَاظِيرُ الأَعْدَاء، أَنْ تَرْصُدَ رايةً بَيْضَاء، لذلِكَ انصَرَفُوا يَجُرّون ذُيُولَ الهَزِيمة، بَعْدَ أن ارتكَبُوا الجريمةَ إثرَ الجريمة، مُسْتَخْدِمِينَ الدَّبَابةَ والطَّائِرَة، والسَّفِينَةَ الحَرْبِيَّةَ المَاخِرَة. وخطَرَ لي أن أزورَ القِطَاع، فأَبُوسَ تُرابَه الثَّمين، وأطْبَع قُبْلةً عَلَى خدِّ شَارِعِ صَلاحِ الدّين.
لِذَلِكَ عَقَدْتُ النِّيَّة، وَانطَلَقْتُ إلى رَفَحٍ المِصْرِيَّة، وَإِذْ وَصَلْتُ رَأَيْتُ رَجُلاً أرْبَى عَلَى الخَمْسِين، يُنْشِدُ بِصَوْتٍ حَزِيْن:
وَإِنّي لَمُشْـتَاقٌ إِلَى أَرْضِ غَـزَّةٍ وَإِنْ خَـانَنِي بَعْدَ التَّفَـرُّقِكِتْمَاني
سَقَـى اللهُ أَرْضاً لَوْظَفِرْتُ بِتُرْبِهاكَحَلْتُ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِأَجْفَانِي
فاغرَوْرَقَت لحزْنِهِ مَدَامِعي، وتَذَكَّرْتُ أبَا عَبْدِ اللهِالشَّافِعيّ ، وخمّنتُ أنْ أَكُونَ في حَضْرَةِ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّة، فَشَكَرْتُ اللهَ عَلَى هَذه المِنّة، ثمَّ اقترَبْتُ مِنْهُ، وأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ السَّلام، فَرَدَّ عَلَيَّ في ابتِسَام، فَسَأَلتُه في وُدٍّ وإينَاس: أأنتَ مُحَمَّد بنُ إدرِيسَ بنِ العَبَّاس، فَأوْمَأَ بالإيجَاب، ثمَّ أضَافَ في اقتِضَاب: هَلْ دَلَّكَ عَليَّ العَسَس؟ فَقُلْتُ: أُقْسِمُ بِمَنْ جَمَعَني بِكَ هَذِهِ الحَزّة ، أنِّي عَرَفْتُكَ مِنْ شَوْقِكَ إلى غَزّة.
فَقَالَ الشَّافِعِيّ: في غَزَّةَ وُلِدْتُ، وإلى مَكَّةَ والمَدِينَةِ رَحَلْتُ، وتَبَغْدَدْتُ وأيمَنْتُ وأَمْصَرْتُ، ولَكِنَّنِي لم أَنْسَ غَزّةَ الَّتِي تَزُورُني في المَنَام، بَعْدَ أنْ أَضْنَاني الشّعَفُ ودَلَّهَني الهُيَام.
- أتَنْوِي زِيَارَتَهَا في هَذِهِ الأَيَّام؟
- مَا وُجُودِي هُنَا إلا لهَذَا المَرَام، وَقَدْ قِيلَ لي:إنَّهُم يُغْلِقُونَ الحُدُودَ والبِحَارَ والآفَاق، ولا بُدَّ مِنْدُخُولِهَا عَبْرَ الأَنْفَاق. ثمَّ استَطْرَدَ قَائِلاً:
- عَرَفْتُ مَنْ يَرْكَبُ الشِّمْلالَ والنَّاجِيَة ، ومَنْ يَجُوزُ البِحَارَ في الجَارية، وسَمِعْتُ عَمَّن يَجْتَازُونَ الآفَاق، أمَّا أنْ يُسَافِرَ النّاسُ عَبْرَ الأنفَاق، فَهَذِهِ إِحْدَى الكُبَر، الَّتي لم يَأْتِهَا أحَدٌ مِنَ البَشَر. فَكَيْفَ استَغْنَى أَبْنَاءُ كَنْعَان، عَنِ الطّائِرَةِ والدَّسْراءِ والحِصَان؟
فَقُلْتُ: لَقَدْ حَاصَرَ بَنُو قَيْنُقَاع، كُلَّ شِبْرٍ مِنْ أرَاضِي القِطَاع، وَمَا زَادَ الطِّينَ بِلّة، أنَّ بَعْضَ شُرَكَائِنَا في اللّسَانِ والملِّة، لم يَحْفَظُوا عَهْداً ولا إلّة ، فَأَغْلَقُوا مَعْبَرَ رَفَحٍفي وُجُوهِ المَرْضَى والجِيَاع؛ وَلأنَّ الحَاجةَ أمُّ الاِخْتِرَاع، فَقَدْ لَجَأَ أهَالي غَزّةَ إلى حَفْرِ الأنفَاق، وَجَاؤُوا عَبْرَها بالسِّلاحِ والغِذاءِ والتِّرْيَاق، لِيَحْفَظُوا حَيَاةَ الإِخْوةِ والأَهْلِ والرِّفَاق، فَهِيَ إجَابةُ الفِلَسْطِينيِّين الشَّافِيَة، عَلَى مَنْ يَدْفَعُهُمْإلى الهَاوِيَة.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لعَمْري إنّه حِصَارٌ غَاشِم، يطحَنُ الأهْلَ في غَزَّةِ هَاشِم ، وَلَنْ أهْنَأَ سَاعَةً فَوْقَ الثَّرَى، حَتَّى أُقَابِلَ فِيهَا آسَادَ الشَّرَى، الّذِينَ يُجَاهِدُونَ العَدُوَّ اللَّئِيم، في سَبِيلِ الحُرّيّةِ والعَيْشِ الكَرِيم.
فَأَخْبَرْتُهُ أنَّنِي إليهَا ذَاهِب، وأنَّه لَنِعْمَ المُصَاحِب، فَقَالَ: ألا أَعْرِفُ الرَّفِيق؟ قَبْلَ أنْ أبْدَأَ الطَّرِيق؟
قُلْتُ: أنَا مِنْ مَدينةٍ سَارَ فَوْقَ بُحَيْرَتِهَا المَسِيْح، ليُهَدِّئَ عَصْفَ الرِّيح، وَقَدْ طَرَدَني مِنْهَا زَمَانٌ أَغْبَر، طَغَى عَلَى قَومِي وتَجَبَّر.. فَقَالَ: إنَّه لَمِنْ أَعْذَبِ الأمَاني، أنْ أُصَاحِبَ طَرِيدَ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني.
ثمَّ اتّكَلْنَا عَلَى مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، وذَهَبْنا إلى أَحَدِ المُهَرِّبِين، فطَلَبَ مِنّا أَجْرَ رِحْلَةٍ إلى الصِّين، وحِينَ استَثْقَلْنا كَثْرَةَ المِئين، قَالَ: آخُذُكُم عَبْرَ نَفَقٍ أَمِين، ونبّهَنَا عَلَى ضَرُورَةِ الامْتِثَال، ثمَّ تَحَدَّثَ في هَاتِفِهِ الجَوَّال، وَقَال: تَتَحَرَّوْنَ بالمَكَان ، حَتَّى يَأتِيَكُم البَيَان، فَتَمَكَّثْنَا سَاعَتين، حَتَّى غَابَتِ العَين ، وإذ غَسَا ليلُ الديجُور ، أَدْخَلَنا إلى بَيْتٍ مَهْجُور، ورفَعَ غِطَاءً أسفَرَ عَنْ ضَوْءٍ سَاطِع، ثم خَرَجَ إِلَيْنَا مِنْهُ غُلامٌ يَافِع، فَأَسْلَمَنَا الرَّجُلُ إِلَيْه، وَقَالَ لَنَا: اعتَمِدَا عَلَيْهِ. ولمّا أَنْزَلَنَا الفَتى وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا في مَمَرٍّ غَيْرِ مَأْلُوف، وأزعَجَنَا أنَّنَا لا نَسْتَطِيعُ فِيْهِ الوُقُوف، فخَلصْتُ إلى الشَّافِعِيِّ نَجِيَّا : "لَعَلَّنَا سَنُتَابِعُ الرِّحْلةَ جِثِيّا". غَيْرَ أنَّ الأحْوَالَ تَبَدَّلَتْ بَعْدَ آن، إِذْ اِنْفَتَحَ المَمَرُّ عَلَى مَا لم يَكُنْ بالحُسْبَان، فَتَعَجَّبْنَا ممَّا نَرَى: عَالَمٌ آخَرُ تَحْتَ الثَّرَى: عَرَبَاتٌ تحمِلُ السَّجائِرَ والشَّمْعَ وزَيْتَ الزَّيْتُون، والجُبْنَ والأَدْوِيَةَ والصَّابُون، والهَوَاتِفَ الجَوَّالةَ والحَوَاسِيبَ والأجهزَةَ الكَهْرَبِيّة، ومُحَرّكَاتِ السَّيَّاراتِ والدرّاجَاتِ الهَوَائِيَّة. وإِذْ لمَحَ الفَتَى دَهَشَنَا قَالَ: هُنَا يَتِمُّ تَهْرِيْبُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ المِلْحِ والفُلْفُلِ والبَهْرَمَان ، إلى الإِنْسَانِ والحَيَوَان ، حَتَّى إنِّي سَمِعْتُ أنَّ الأنفَاق، حَمَلَتْ عَرُوساً إلى عريسِهَا المُشْتَاق ، فانتصَرَتْ بِذَلِكَ قُوَّةُ الحَيَاة، عَلَى حِصَارِ الطُّغَاة.
ثمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ لِلْفَتَى: مَا زِلْتَ صَغيراً عَلَى الشَّقَاء، وَكَانَ الأَجْدَرُ بِكَ أن تجلِسَ إلى العُلَمَاء، فَتَأْخُذَ عَنْهُم العِلْمَ النَّافِع، فَقَالَ الفَتَى: أنَا في الصَّفِّ التَّاسِع، أشتَغِلُ حَتّى مُنْتَصَف اللَّيْل،وأستَيْقِظُ مَهْدُودَ الحَيْل، فَأَنطَلِقُ إلى المدرَسَةِ في الصَّبَاح، وَلَيْسَ لَهَذَا الدَّيْدَنِ مِنْ بَرَاح، فَأَخِي أثخَنَتْهُ الجِرَاح، وأبي استُشْهِدَ وهُوَ يُعَانِقُ السِّلاح، أمَّا وَالدَتي فَقَدْ لَصِبَ جِلْدُهَا بِلَحْمِهَا مِنْ شِدَّةِ الهُزَال، وباتَتْ عَاجِزَةً عَن الاحتِمَال.
وهُنَا سَأَلْتُه: ألا يُشَكِّلُ العَمَلُ في الأنفَاقِ خَطَراً عَلَى حَيَاةِ العُمَّال؟
فوجَمَ لَحْظَةً ثُمَّ قَال: طَالمَا قَصَفَها اليَهُود، وسَدَّهَا أُولُو القُرْبَى عَبْرَ الحُدُود، وغَيْدَقَ المطَرُ فَانْهَارَتْ نَوَاحِيهَا، وبثَقَ المَاءُ فقَضَى عَلَى مَنْ فِيْهَا، وَرُبَّمَا بُثَّ في أرجَائِهَا الغَازُ السَّام، فَأهْلَكَ مَنْفِيْهَا مِنَ الأنَام. غَيْرَ أنَّ العَيْشَ فَوْقَ الأرضِ لَيْسَ أقلَّ خَطَراً، فَرُبَّمَا تَنَامُ في العِلِّيَّة، فتَحْرِقُكَ قُنْبُلَةٌ فُوسْفُورِيَّة، وَقَدْ تَأتِيْكَ صَوَاريخُ الأَعْدَاء، وأَنْتَ قَائِمٌ لصَلاةِ العِشَاء.
ثُمَّتَنَهَّدَ الفَتَى مِنْصَدْرٍ مَجْرُوح، وَقَالَ بِصَوْتٍ مَبْحُوح: العَالَمُ كُلُّهُ يُحَارِبُ أَنْفَاقَنَا، ويُرِيْدُ إِزْهَاقَنَا، وَيُشَارِكُ البَاغِي في قَتْل العِبَاد، حَتَّى يَحْرِمَ المُجَاهِدِينَمِن تَهْرِيبِ السِّلاحِ والعَتَاد.
فَقَالَ الشَّافعيّ مُتَعَجِّباً: أَيَمْنَعُونَ السِّلاحَ عَن الشَّعْبِ المقْهُور، ويُزَوِّدُونَ بهِ المُعْتَدِي المَغْرُور، ليُرْهِبَ المَقْهُورِينَ بِالنَّارِ والحَدِيد؟ قُلْتُ: إِنَّهَا شِرعَةُ الشَّرقِ الأَوْسَطِ الجَدِيد: يَمْنَعُونَنَا مِنْ حَفْرِ الأَنْفَاق، مِنْ أَجْلِ الغِذَاءِ والتِّريَاق، وَيَغُضُّونَ الطَّرْفَ عَن الأَنْفَاقِ الَّتي يَحْفِرُهَا الأَوْغَادُ، عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَاد.
- ولماذَا يَحْفرُون؟ وَهُم يَحْصلُونَ عَلَى مَا يَطْلُبُونَ، وَمَا لا يَطْلُبُون.
- يُخَلْخِلُونَ البُنيَانَ تَحْتَ القُدْسِ الشَّريفِ المَكْلُوم، ليُبْنى عَلَى أنْقَاضِ الأقْصَى هَيْكلٌ مَزْعُوم، لا يهمُّهُم في ذَلِكَ انهِيَارُ المَكَان، عَلَى رُؤُوسِ السُّكَّان، وربَّما سَمِعْتَ عَن انهيَارِ صَفٍّ في إِحْدَى مَدَارِسِ المَدِينَةِ المُقَدَّسَة، أدَّى إلى إِصَابَةِ العَشَرَاتِ مِن تَلامِيذِ المَدْرَسة.
وإذْ اِطْمَأنَّ الفَتَى إلَيْنا، أَخَذَنَا الحَدِيثُ في دُرُوبٍ ودُرُوب، فَشَكَا إلَيْنا تُجَّارَ الحُرُوب، وَمَا زَالَ يُحَدّثُنا عَنْ غَزَّة، وَعَن اسمِهَا المُشْتَقِّ مِنَ المنعَةِ والعِزَّة، حَتَّى انتَهَتْ لَحَظَاتُ القَلَق، ووَصَلْنا إلى نهَايَةِ النَّفَق، فَمَا خَرَجْنا مِنْهُ حتّى أَخَذَ الشّافعيُّحَفنةً مِنَ التُّرَاب، وَرَاحَ يُكَحِّل الجُفُونُ والأُهْدَاب.
وسَكَتَطَرِيدُ الزَّمانِعَنِ الكَلام، فاستعدَّ الجَمْعُ للقِيَام، وَقَبْلَ أنْ نَخْرُجَ مِنَ البَاب، قُلْنا في لهجَةِ عِتَاب: ألا تَدْعُونا إلى جَلْسَةٍعَامِرَة، تَرْوِي لَنَا فِيهَا المَقَامَةَ العَاشِرَة، فقَال: لَكُم مَا تُريدُونَ أيُّهَا الضِّيفَان، قُلْنا: فما العنْوان؟ قَال: "فَصْلُ البَيَان في اِخْتِلالِ المِيْزَان".
7/3/2009
د. يوسف حطيني
نُزْهَةُ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق
ما إنْ دَخَلْنَا عَلَى طَريد الزَّمَان بَعْدَ العِشَاء، حَتَّى قَامَ يُصَلِّي خَلْفَ سَجَّادة حَمْرَاء، فَجَلَسْنَا في مَجْلِسِهِ بخُشُوع، نَنْتَظِرُ انتِهَاءَهُ مِنَ السُّجُودِ والرُّكُوع، وإذْ أَطَالَ عَلَيْنَا الأَمْر، ظَنَنَّا أنَّا في لَيْلَةِ القَدْر، فلَمَّا أنْهَى صَلاتَهُ وَسَلَّم، دَعَوْنَا أنْ يَتَقَبّلَ اللهُ مِنْه النَّافِلَةَ والمَفْرُوضَة، فَقَالَ: اسمَعُوا مِنّي هَذِهِ الأُمْحُوضَة: دَعُوا ثُلثَ لَيْلِكُم لعِبَادَة رَبِّ العِبَاد، وثُلُثَهُ للرُّقَاد، وثُلُثَهُ للمُذَاكَرَة ، فَقُلْنَا: وأَيْنَ وَقْتُ المُسَامَرة؟ ومَتَى ستَلْتَقي الرِّفَاق؟ وَقَدْ واعَدْتَهُم بِـ "نُزْهَةِ المُشْتَاق في اجتِيَازِ الأَنْفَاق "؟ قَالَ: سَأَعُدُّ وَقْتَ المُسَامَرة مِنَ المُذَاكَرة، قُلْنَا وَقَدْ أَصَابَنا الذُّهُول: عَهِدْنَاَك تَكْتَفي بالفَرْض، وتَقْطَعُ الدّنْيَا بالطُّولِ والعَرْض، فَقَالَ: مَنَّ اللهُ عَليَّ بنُورِ اليَقِين، وَهُو يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ لصِرَاطِهِ المُبِين، فقُلْنا ضَاحِكِين: دَعْنَا نَجْلِسْ بِحِذَائِك، ونَتَمَسَّحْ بِرِدائِك.
غَيْرَ أنَّ طَريدَ الزَّمَان، لم تَضْحَك مِنْهُ الأسْنَان، بَل راحَ يقُولُ في وَقَار: حِينَ انتَصَرَت المُقَاوَمَةُ عَلَى جَحَافِلِ العَدُوِّ الغَدّار، في كِلِّ شِبْرٍ مِنْ قِطَاعِ غَزَّة، مَلأني شُعُورُ العِزّة، إذْ لم تَسْتَطِعْ مَنَاظِيرُ الأَعْدَاء، أَنْ تَرْصُدَ رايةً بَيْضَاء، لذلِكَ انصَرَفُوا يَجُرّون ذُيُولَ الهَزِيمة، بَعْدَ أن ارتكَبُوا الجريمةَ إثرَ الجريمة، مُسْتَخْدِمِينَ الدَّبَابةَ والطَّائِرَة، والسَّفِينَةَ الحَرْبِيَّةَ المَاخِرَة. وخطَرَ لي أن أزورَ القِطَاع، فأَبُوسَ تُرابَه الثَّمين، وأطْبَع قُبْلةً عَلَى خدِّ شَارِعِ صَلاحِ الدّين.
لِذَلِكَ عَقَدْتُ النِّيَّة، وَانطَلَقْتُ إلى رَفَحٍ المِصْرِيَّة، وَإِذْ وَصَلْتُ رَأَيْتُ رَجُلاً أرْبَى عَلَى الخَمْسِين، يُنْشِدُ بِصَوْتٍ حَزِيْن:
وَإِنّي لَمُشْـتَاقٌ إِلَى أَرْضِ غَـزَّةٍ وَإِنْ خَـانَنِي بَعْدَ التَّفَـرُّقِكِتْمَاني
سَقَـى اللهُ أَرْضاً لَوْظَفِرْتُ بِتُرْبِهاكَحَلْتُ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِأَجْفَانِي
فاغرَوْرَقَت لحزْنِهِ مَدَامِعي، وتَذَكَّرْتُ أبَا عَبْدِ اللهِالشَّافِعيّ ، وخمّنتُ أنْ أَكُونَ في حَضْرَةِ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّة، فَشَكَرْتُ اللهَ عَلَى هَذه المِنّة، ثمَّ اقترَبْتُ مِنْهُ، وأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ السَّلام، فَرَدَّ عَلَيَّ في ابتِسَام، فَسَأَلتُه في وُدٍّ وإينَاس: أأنتَ مُحَمَّد بنُ إدرِيسَ بنِ العَبَّاس، فَأوْمَأَ بالإيجَاب، ثمَّ أضَافَ في اقتِضَاب: هَلْ دَلَّكَ عَليَّ العَسَس؟ فَقُلْتُ: أُقْسِمُ بِمَنْ جَمَعَني بِكَ هَذِهِ الحَزّة ، أنِّي عَرَفْتُكَ مِنْ شَوْقِكَ إلى غَزّة.
فَقَالَ الشَّافِعِيّ: في غَزَّةَ وُلِدْتُ، وإلى مَكَّةَ والمَدِينَةِ رَحَلْتُ، وتَبَغْدَدْتُ وأيمَنْتُ وأَمْصَرْتُ، ولَكِنَّنِي لم أَنْسَ غَزّةَ الَّتِي تَزُورُني في المَنَام، بَعْدَ أنْ أَضْنَاني الشّعَفُ ودَلَّهَني الهُيَام.
- أتَنْوِي زِيَارَتَهَا في هَذِهِ الأَيَّام؟
- مَا وُجُودِي هُنَا إلا لهَذَا المَرَام، وَقَدْ قِيلَ لي:إنَّهُم يُغْلِقُونَ الحُدُودَ والبِحَارَ والآفَاق، ولا بُدَّ مِنْدُخُولِهَا عَبْرَ الأَنْفَاق. ثمَّ استَطْرَدَ قَائِلاً:
- عَرَفْتُ مَنْ يَرْكَبُ الشِّمْلالَ والنَّاجِيَة ، ومَنْ يَجُوزُ البِحَارَ في الجَارية، وسَمِعْتُ عَمَّن يَجْتَازُونَ الآفَاق، أمَّا أنْ يُسَافِرَ النّاسُ عَبْرَ الأنفَاق، فَهَذِهِ إِحْدَى الكُبَر، الَّتي لم يَأْتِهَا أحَدٌ مِنَ البَشَر. فَكَيْفَ استَغْنَى أَبْنَاءُ كَنْعَان، عَنِ الطّائِرَةِ والدَّسْراءِ والحِصَان؟
فَقُلْتُ: لَقَدْ حَاصَرَ بَنُو قَيْنُقَاع، كُلَّ شِبْرٍ مِنْ أرَاضِي القِطَاع، وَمَا زَادَ الطِّينَ بِلّة، أنَّ بَعْضَ شُرَكَائِنَا في اللّسَانِ والملِّة، لم يَحْفَظُوا عَهْداً ولا إلّة ، فَأَغْلَقُوا مَعْبَرَ رَفَحٍفي وُجُوهِ المَرْضَى والجِيَاع؛ وَلأنَّ الحَاجةَ أمُّ الاِخْتِرَاع، فَقَدْ لَجَأَ أهَالي غَزّةَ إلى حَفْرِ الأنفَاق، وَجَاؤُوا عَبْرَها بالسِّلاحِ والغِذاءِ والتِّرْيَاق، لِيَحْفَظُوا حَيَاةَ الإِخْوةِ والأَهْلِ والرِّفَاق، فَهِيَ إجَابةُ الفِلَسْطِينيِّين الشَّافِيَة، عَلَى مَنْ يَدْفَعُهُمْإلى الهَاوِيَة.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لعَمْري إنّه حِصَارٌ غَاشِم، يطحَنُ الأهْلَ في غَزَّةِ هَاشِم ، وَلَنْ أهْنَأَ سَاعَةً فَوْقَ الثَّرَى، حَتَّى أُقَابِلَ فِيهَا آسَادَ الشَّرَى، الّذِينَ يُجَاهِدُونَ العَدُوَّ اللَّئِيم، في سَبِيلِ الحُرّيّةِ والعَيْشِ الكَرِيم.
فَأَخْبَرْتُهُ أنَّنِي إليهَا ذَاهِب، وأنَّه لَنِعْمَ المُصَاحِب، فَقَالَ: ألا أَعْرِفُ الرَّفِيق؟ قَبْلَ أنْ أبْدَأَ الطَّرِيق؟
قُلْتُ: أنَا مِنْ مَدينةٍ سَارَ فَوْقَ بُحَيْرَتِهَا المَسِيْح، ليُهَدِّئَ عَصْفَ الرِّيح، وَقَدْ طَرَدَني مِنْهَا زَمَانٌ أَغْبَر، طَغَى عَلَى قَومِي وتَجَبَّر.. فَقَالَ: إنَّه لَمِنْ أَعْذَبِ الأمَاني، أنْ أُصَاحِبَ طَرِيدَ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني.
ثمَّ اتّكَلْنَا عَلَى مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، وذَهَبْنا إلى أَحَدِ المُهَرِّبِين، فطَلَبَ مِنّا أَجْرَ رِحْلَةٍ إلى الصِّين، وحِينَ استَثْقَلْنا كَثْرَةَ المِئين، قَالَ: آخُذُكُم عَبْرَ نَفَقٍ أَمِين، ونبّهَنَا عَلَى ضَرُورَةِ الامْتِثَال، ثمَّ تَحَدَّثَ في هَاتِفِهِ الجَوَّال، وَقَال: تَتَحَرَّوْنَ بالمَكَان ، حَتَّى يَأتِيَكُم البَيَان، فَتَمَكَّثْنَا سَاعَتين، حَتَّى غَابَتِ العَين ، وإذ غَسَا ليلُ الديجُور ، أَدْخَلَنا إلى بَيْتٍ مَهْجُور، ورفَعَ غِطَاءً أسفَرَ عَنْ ضَوْءٍ سَاطِع، ثم خَرَجَ إِلَيْنَا مِنْهُ غُلامٌ يَافِع، فَأَسْلَمَنَا الرَّجُلُ إِلَيْه، وَقَالَ لَنَا: اعتَمِدَا عَلَيْهِ. ولمّا أَنْزَلَنَا الفَتى وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا في مَمَرٍّ غَيْرِ مَأْلُوف، وأزعَجَنَا أنَّنَا لا نَسْتَطِيعُ فِيْهِ الوُقُوف، فخَلصْتُ إلى الشَّافِعِيِّ نَجِيَّا : "لَعَلَّنَا سَنُتَابِعُ الرِّحْلةَ جِثِيّا". غَيْرَ أنَّ الأحْوَالَ تَبَدَّلَتْ بَعْدَ آن، إِذْ اِنْفَتَحَ المَمَرُّ عَلَى مَا لم يَكُنْ بالحُسْبَان، فَتَعَجَّبْنَا ممَّا نَرَى: عَالَمٌ آخَرُ تَحْتَ الثَّرَى: عَرَبَاتٌ تحمِلُ السَّجائِرَ والشَّمْعَ وزَيْتَ الزَّيْتُون، والجُبْنَ والأَدْوِيَةَ والصَّابُون، والهَوَاتِفَ الجَوَّالةَ والحَوَاسِيبَ والأجهزَةَ الكَهْرَبِيّة، ومُحَرّكَاتِ السَّيَّاراتِ والدرّاجَاتِ الهَوَائِيَّة. وإِذْ لمَحَ الفَتَى دَهَشَنَا قَالَ: هُنَا يَتِمُّ تَهْرِيْبُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ المِلْحِ والفُلْفُلِ والبَهْرَمَان ، إلى الإِنْسَانِ والحَيَوَان ، حَتَّى إنِّي سَمِعْتُ أنَّ الأنفَاق، حَمَلَتْ عَرُوساً إلى عريسِهَا المُشْتَاق ، فانتصَرَتْ بِذَلِكَ قُوَّةُ الحَيَاة، عَلَى حِصَارِ الطُّغَاة.
ثمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ لِلْفَتَى: مَا زِلْتَ صَغيراً عَلَى الشَّقَاء، وَكَانَ الأَجْدَرُ بِكَ أن تجلِسَ إلى العُلَمَاء، فَتَأْخُذَ عَنْهُم العِلْمَ النَّافِع، فَقَالَ الفَتَى: أنَا في الصَّفِّ التَّاسِع، أشتَغِلُ حَتّى مُنْتَصَف اللَّيْل،وأستَيْقِظُ مَهْدُودَ الحَيْل، فَأَنطَلِقُ إلى المدرَسَةِ في الصَّبَاح، وَلَيْسَ لَهَذَا الدَّيْدَنِ مِنْ بَرَاح، فَأَخِي أثخَنَتْهُ الجِرَاح، وأبي استُشْهِدَ وهُوَ يُعَانِقُ السِّلاح، أمَّا وَالدَتي فَقَدْ لَصِبَ جِلْدُهَا بِلَحْمِهَا مِنْ شِدَّةِ الهُزَال، وباتَتْ عَاجِزَةً عَن الاحتِمَال.
وهُنَا سَأَلْتُه: ألا يُشَكِّلُ العَمَلُ في الأنفَاقِ خَطَراً عَلَى حَيَاةِ العُمَّال؟
فوجَمَ لَحْظَةً ثُمَّ قَال: طَالمَا قَصَفَها اليَهُود، وسَدَّهَا أُولُو القُرْبَى عَبْرَ الحُدُود، وغَيْدَقَ المطَرُ فَانْهَارَتْ نَوَاحِيهَا، وبثَقَ المَاءُ فقَضَى عَلَى مَنْ فِيْهَا، وَرُبَّمَا بُثَّ في أرجَائِهَا الغَازُ السَّام، فَأهْلَكَ مَنْفِيْهَا مِنَ الأنَام. غَيْرَ أنَّ العَيْشَ فَوْقَ الأرضِ لَيْسَ أقلَّ خَطَراً، فَرُبَّمَا تَنَامُ في العِلِّيَّة، فتَحْرِقُكَ قُنْبُلَةٌ فُوسْفُورِيَّة، وَقَدْ تَأتِيْكَ صَوَاريخُ الأَعْدَاء، وأَنْتَ قَائِمٌ لصَلاةِ العِشَاء.
ثُمَّتَنَهَّدَ الفَتَى مِنْصَدْرٍ مَجْرُوح، وَقَالَ بِصَوْتٍ مَبْحُوح: العَالَمُ كُلُّهُ يُحَارِبُ أَنْفَاقَنَا، ويُرِيْدُ إِزْهَاقَنَا، وَيُشَارِكُ البَاغِي في قَتْل العِبَاد، حَتَّى يَحْرِمَ المُجَاهِدِينَمِن تَهْرِيبِ السِّلاحِ والعَتَاد.
فَقَالَ الشَّافعيّ مُتَعَجِّباً: أَيَمْنَعُونَ السِّلاحَ عَن الشَّعْبِ المقْهُور، ويُزَوِّدُونَ بهِ المُعْتَدِي المَغْرُور، ليُرْهِبَ المَقْهُورِينَ بِالنَّارِ والحَدِيد؟ قُلْتُ: إِنَّهَا شِرعَةُ الشَّرقِ الأَوْسَطِ الجَدِيد: يَمْنَعُونَنَا مِنْ حَفْرِ الأَنْفَاق، مِنْ أَجْلِ الغِذَاءِ والتِّريَاق، وَيَغُضُّونَ الطَّرْفَ عَن الأَنْفَاقِ الَّتي يَحْفِرُهَا الأَوْغَادُ، عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَاد.
- ولماذَا يَحْفرُون؟ وَهُم يَحْصلُونَ عَلَى مَا يَطْلُبُونَ، وَمَا لا يَطْلُبُون.
- يُخَلْخِلُونَ البُنيَانَ تَحْتَ القُدْسِ الشَّريفِ المَكْلُوم، ليُبْنى عَلَى أنْقَاضِ الأقْصَى هَيْكلٌ مَزْعُوم، لا يهمُّهُم في ذَلِكَ انهِيَارُ المَكَان، عَلَى رُؤُوسِ السُّكَّان، وربَّما سَمِعْتَ عَن انهيَارِ صَفٍّ في إِحْدَى مَدَارِسِ المَدِينَةِ المُقَدَّسَة، أدَّى إلى إِصَابَةِ العَشَرَاتِ مِن تَلامِيذِ المَدْرَسة.
وإذْ اِطْمَأنَّ الفَتَى إلَيْنا، أَخَذَنَا الحَدِيثُ في دُرُوبٍ ودُرُوب، فَشَكَا إلَيْنا تُجَّارَ الحُرُوب، وَمَا زَالَ يُحَدّثُنا عَنْ غَزَّة، وَعَن اسمِهَا المُشْتَقِّ مِنَ المنعَةِ والعِزَّة، حَتَّى انتَهَتْ لَحَظَاتُ القَلَق، ووَصَلْنا إلى نهَايَةِ النَّفَق، فَمَا خَرَجْنا مِنْهُ حتّى أَخَذَ الشّافعيُّحَفنةً مِنَ التُّرَاب، وَرَاحَ يُكَحِّل الجُفُونُ والأُهْدَاب.
وسَكَتَطَرِيدُ الزَّمانِعَنِ الكَلام، فاستعدَّ الجَمْعُ للقِيَام، وَقَبْلَ أنْ نَخْرُجَ مِنَ البَاب، قُلْنا في لهجَةِ عِتَاب: ألا تَدْعُونا إلى جَلْسَةٍعَامِرَة، تَرْوِي لَنَا فِيهَا المَقَامَةَ العَاشِرَة، فقَال: لَكُم مَا تُريدُونَ أيُّهَا الضِّيفَان، قُلْنا: فما العنْوان؟ قَال: "فَصْلُ البَيَان في اِخْتِلالِ المِيْزَان".
7/3/2009
د. يوسف حطيني