إيمان فجر السيد - رؤية إنطباعية لنص (ما لا تراه العيون) للقاص ياسر جمعة.

القاص ياسر جمعة.

(ما لا تراه العيون)

يقفز الرجل الوحيد من الحلم إلى أرض الواقع، لا تتحمله قدماه، يقع، يعتدل جالساً ويتلفت حوله.. يرى وجوهاً كثيرةً بملامح غائبةٍ في الأسى والجهامة، تعبره.. تعبره وتغيب في بحر النهار الذي يخنق ضوءه الغبار الكثيف، يغمض عينيه متنفساً في راحةٍ لعدم انتباههم له، ومع ذلك يتساءل: هل ما زلتُ في الحلم؟ فيجيبه صوتٌ أجشٌّ كأنه آتٍ من بداية الزمان: نعم. ولا يأخذ هذه الـ"نعم" بعين الاعتبار، يفتح عينيه ويقوم مائلاً كي ينفض عن ثيابه ما علق بها من أتربةٍ، فيما يستعيد تفاصيل الحلم الذي طالما انتظره طويلاً، منذ اكتسبَ خاصية التنقل بين الواقع والأحلام، دون أن يعلم لماذا ينتظره تحديداً!

كان في الثمانين من العمر، أو أكثر قليلاً، عندما جاءته امرأةٌ أربعينيةٌ ذات وجهٍ صبوحٍ وعينين واسعتين، ظلت تبحث عنه طويلاً، وما إن وجدته في كوخٍ من "البوص" على أطراف هذه القرية المنسية ذاهلاً عن كل شيءٍ حوله وهزيلاً.. يؤلمه حتى الشهيق الواهن والزفير، ومع ذلك كان يتحدث بفمه الخالي من الأسنان، ليلاً، مع الأموات والغائبين -أحبابه وأصدقاؤه الذين يبثونه الطاقة والمؤانسة الودود- والطيور والأشجار والسماء.. السماء التي كانت تمده في الصيف والشتاء بالماء -غذاؤه الوحيد قبل وصول المرأة- وهو على فراشه العطن من فرجةٍ صغيرةٍ أعلى رأسه تماماً، وكان، كذلك، لا يسمع أحداً قط إلا أناس خياله العجوز، لذا كان في عزلةٍ مريحةٍ من صخب لعب الأطفال بجوار كوخه، الأطفال الذين كانوا ينسجون، هم وعائلاتهم، من حضوره الضامر هذا حكاياتٍ عديدةً، متشابهةً في بعض جوانبها، وكان يتخللها كلها السعال المتواصل والأنين، فما كان منها -المرأة الأربعينية- بعد أن وجدته أخيراً، إلا أن نظفت المكان، وفتحت فسحةً ضيقةً في جدار الكوخ ليدخل الهواء النقي وضوء الشمس، وهكذا صارت تطعمه ما تطبخه له من الثمار اللينة، وتحمله كطفلٍ عجوزٍ كل صباحٍ إلى البحر القريب، تحممه وهي تغني له الأغاني التي كانت تسمعها من أمها صغيرةً، على مرأىً ومسمعٍ من أهل هذه القرية، مما جعلهم يعتقدون أنها تتلو عليه طلاسم وتعويذ سحريةً كي تعود له الفتوة، لذلك لم يندهشوا عندما انتفخت بطنها وبرزت أمامها، بعد شهورٍ قليلةٍ، دون أن تفقد شيئاً من جمالها اللافت، بل كانت تزداد جمالاً وحيويةً، وكأنها عروسٌ تتغذى كل ليلةٍ على شهد السعادة وعسلها.. السعادة نفسها التي كانت تلهب قلوب النساء قبل الرجال في القرية، وتزرعهم على مقربةٍ من كوخ العجوز الغريب كأشجارٍ جافةٍ.

ينتهي الرجل الوحيد من تنظيف ثيابه من التراب ويعتدل واقفاً، يلمح مقهىً شعبيٍ على مقربةٍ، يمشي نحوه في عرجٍ واضحٍ، وما إن يجلس على أول مقعدٍ يقابله، ويشمر عن ساقه اليمنى، المتألمة، ويدعك الورم الخفيف فيها، حتى ينادي على النادل النحيف الذي يروح ويجيء بجواره كي يطلب منه كوب ماء، فلا يسمعه، يكرر النداء في حيرةٍ تقبض قلبه، ويسمع الصوت الأجشَّ: إنتبه، التيه في الحلم لا عودة منه. يهز رأسه في رفضٍ يائسٍ وهو يتذكر أن هذا الصوت القديم يصاحبه دائماً، في الصحو والمنام، ويشاكسه كثيراً، لذلك لا يهتم به، ويقوم كي يعترض طريق النادل، الذي، قبل أن يصطدم به بخطوةٍ واحدةٍ، يتجه يساراً وهو يبتسم فيتقوس شاربه الضخم، وقد رقت ملامحه الخشنة، يتابعه بعينيه حتى يراه يصافح امرأةً في جلبابٍ أسودَ محبوكٍ على جسدها البض، فيتذكر المرأة الأربعينية في الحلم، ويعود إلى مقعده مرةً أخرى ويجلس وقد ازداد ألم ساقه.

كانت المرأة الأربعينية في السابعة عشر عندما تزوجت، رغم رفضها في البداية، برجلٍ بقيَ صابراً على امتناعها عنه، رغم حريق شوقه، وغضبه، الذي كانت تطفئه بهمسها الفوَّاح وهي تحدثه، وترجوه الصبر، وقد ذوبها الشوق الواجع إليه هي أيضاً، ورغم شكوكه العديدة وخناجرها الطاعنة، التي كانت تمحو ندوبها وآثارها، كل مرةٍ، بنظرةٍ دامعةٍ، ورجفةٍ كانت تجعلها تنكمش على نفسها وهي محتضنةٌ جلباب أبيها الغائب مثل طفلةٍ، ورغم أنه أقدم على الزواج من غيرها، تعنتاً فيها، مرتين، بقيَ صابراً عليها حتى وجدت أباها -رجل الكوخ الثمانيني- أخيراً، فصارت تهبه نفسها كل ليلةٍ، بعد أن تحمم أباها وتطعمه وتعود من قريته التي تذهب إليها وتعود منها في ثلاث ساعاتٍ كل صباحٍ، رغم انتفاخ بطنها الذي يثقلها وأنياب كلام الناس الحادة.

يتأوه الرجل الوحيد وينظر نحو النادل، حيث يواجهه بظهره الصلب، والذي يتحدث بما لا يسمع وهو يحرك ذراعيه، فتتمايل صاحبته، ذات الجلباب الأسود، كأنها تستمد إيقاعاً ما من حديثه المتحمس، تتمايل خفيفاً وتضحك، يلتفت إلى الناحية الأخرى ويقوم، بعد خطوتين، أمام منضدةٍ تتوسط رجلين مندمجين في الحديث، يتوقف ويتناول من أمامهما كوباً زجاجياً ممتلئاً بالماء، يشربه دفعةً واحدةً ويعيد الكوب، لا ينظران نحوه فلا يندهش، يبتعد عنهما مقترباً من النادل النحيف وصاحبته ذات الجلباب الأسود على الناصية القريبة، التي يتبين أنها تبكي.. تبكي فيرتج جسدها، خفيفاً، وهي تسأله حلاً لمشكلة أبيها العجوز، الذي فاقمت وحدته الجبرية من مرضه، فيوضح لها النادل النحيف وهو يحرك ذراعيه منفعلاً، أنه مندهشٌ من رفض أبيها للعودة، رغم مرور كل هذه الأعوام، منذ أجبره الأهل على الهجرة وعدم العودة مرةً أخرى، بعد أن قتل شقيقه بالخطأ، زمان.. منذ ثلاثين عاماً أو أكثر، ويصمت النادل النحيف محتاراً، ثم يطلب منها أن تخبر أباها أن كل من أجبره على الهجرة قد رحلوا، وترد عليه من بين دموعها أنه يعرف، فيبتعد عنهما الرجل الوحيد مهرولاً والصوت الأجشُّ في روحه يضحك ساخراً فيتعثر ويقع.

يستيقظ الرجل الوحيد من غفوته على ألمٍ في ساقه اليمنى، يعتدل جالساً ويتلفت حوله.. ظلامٌ حالك، يغمض عينيه ويفتحهما فيرى وجوهاً كثيرةً يُثقل ملامحها الأسى والجهامة، يُمعن النظر، فيراها تسبح في الظلام الحالك حوله، يغمض عينيه مرةً أخرى مستعيداً تفاصيل حلمه الذي كان فيه عجوزاً، هارباً من الناس والحياة، يعيش في قريةٍ منسيةٍ، بعد حادث قتله لأخيه والتشرد طويلاً في البلاد، يستعيد الرجل الوحيد تفاصيل الحلم ويكرر سرده على نفسه، بصوته الأجشِّ، في الليل، غير أنه لا يستطيع تذكر السبب الذي دفعه لقتل أخيه، فيفتح عينيه منزعجاً ويقوم واقفاً، يمشي بعرجٍ واضحٍ في ساقه اليمنى حتى منتصف الغرفة الباردة، وما يلبث أن يقفز من أرض الواقع إلى أرض الأحلام كي يعرف سبب القتل، فيجد نفسه رضيعاً في حضن المرأة الأربعينية، ابنة عجوز الكوخ ذاتها، حيث كانت تضمه بذراع وتلقمه ثديها وهي مفترشةٌ الأرض بثوبها الأسود، فيما كانت تغني.. تغني دامعةً وهي تربت بكفها الأخرى على مقدمة قبرٍ كان بجوارهما.

--------------------------------------


رؤيتي الإنطباعية

نص مربك بصراحة
يعتمد على تكنيك أدبيٍّ مميَّز يكتنفه الغموض أحياناً و يأخذنا أحيانًا أخرى بين متاهات الحلم وخيالات الواقع؛ لنرى مالا تراه العيون
فأتساءل:
هل كل ما نراه بأعيننا في الواقع هو واقعٌ حقًا، وهل كل مالا نراه هو محض أحلامٍ وخيالاتٍ نتوه بين حقيقتها ووهمها؟!

هذا النص التخييلي الذي هدف كاتبنا من خلاله إلى خلق حيواتٍ اجتماعيةٍ عديدةٍ ونسج شخوصها وأحداثها عبر الحلم والخيال ونقلها إلى الواقع والعودة منها إلى الحلم، تبدأ برجل مسنٍ يخرج من الحلم وتنتهي به أيضًا عائدًا إلى الحلم مرورًا بمشاهد حية وشخوص واقعية اختلطت بالتخيّليَّة.

بين الحلم والواقع يروي لنا القاص حكايات تكون المرأة ذاتها ابنةٌ تارةً و زوجةٌ تارةً أخرى وأمٌ في النهاية
لذات الرجل:
(الميت - الحي)
(العجوز - الطفل)
(الزوح- الابن)
لندرك أن المرأة عند القاص ياسر جمعة وحدها القادرة على تلوين الحياة بل على بث الروح في الحياة
عبر رؤيته وتجسيده لها في هذا النص
كابنة بارةٍ وزوجةٍ رغم تمردها إلا أنها وفية ومخلصة يحكمها حزنها على موت أبيها الذي يعيده الكاتب حيّاً عبر خياله والحلم فتدب في ابنته الحياة وتعيش حياتها الطبيعية عبر التزاوج والحمل والعناية بأبيها، فيوقن القارىء أن خروج الأب من الحلم حقيقةٌ وليس زعمًا في عالم الكاتب التخيِّلي عبر ما تقوم به ابنته:
" فما كان من المرأة الأربعينية، بعد أن وجدته أخيراً، إلا أن نظفت المكان وفتحت فسحةً ضيقةً في جدار الكوخ ليدخل الهواء النقي وضوء الشمس، وهكذا صارت تطعمه ما تطبخه له من الثمار اللينة، وتحمله كطفلٍ عجوزٍ كل صباح إلى البحر القريب، تحممه وهي تغني له الأغاني التي كانت تسمعها من أمها صغيرةً، على مرأى ومسمع من أهل هذه القرية"

نلاحظ أن تقلُّبَ الزمن في هذا النص القصصي رصف جسرًا بين الواقع والخيال؛ لتفعيل الأحداث حتى كدنا كقراء -عبر إيهام القاص لنا- نصدق حدوثها في الحقيقة.

أخيرًا أتساءل:
هل يستطيع الآباء -لهذا الحدّ- أن يخلدوا في ذاكرة وجدان بناتهن زمناً طويلاً تمتد خلاله حياة آبائهن حتى إلى ما بعد الموت فلا يتزاوجن ولا يحملن ولا يُنجبن إلا من يشبه آبائهن أو عبر وجودهم حتى ولو كانوا أشباحًا تشبه الموتى؟!

تحية للقاص الذي يشغل ويشاغل عقولنا وتفكيرنا دائمًا عبر نصوصه الشائقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى