د . محمد سعيد شحاتة - حركة المعنى وتفكيك شفرة العنوان.. قراءة في قصة (رحلة السيد العجوز) للدكتور أحمد الباسوسي

(الجزء الثاني)

لقد تحدثنا في الجزء الأول من هذه الدراسة عن طبيعة الإبداع القصصي عند الدكتور أحمد الباسوسي، ثم انتقلنا إلى الحديث عن قصة (رحلة السيد العجوز) فتحدثنا عن العنوان من حيث كونه مفتاحا تأويليا، فربطنا بين العنوان بدلالته المتخفية خلف الألفاظ وما تثيره القصة من أحداث، وما تسعى إليه من رؤية فكرية، ثم تحدثنا عن حركة المعنى وتشكيل الدلالة، وبيَّنا أن رحلة السيد العجوز في القصة كانت تتكون من رحلتين: الأولى رحلة مادية تتمثل في الانتقال من مكان إلى مكان آخر، والثانية رحلة معنوية تتمثل في الانتقال عبر الزمن من مرحلة عمرية إلى مرحلة عمرية مختلفة تماما، ولكل مرحلة من المرحلتين ملامح وأحداث، وفي هذا الجزء سوف نحاول الكشف عن جوانب أخرى من رحلة السيد العجوز.
الرؤية الفكرية وتشابكات الأحداث:
من الملاحظ منذ الوهلة الأولى أن الكاتب تعمَّد نزع الطبيعة الفيزيائية عن الشخصيات في القصة، وإلباسها بالطبيعة التجريدية، بحيث تمثل قيما عامة، وليست شخصيات محددة بأعيانها، وبذلك تصبح ذات طبيعة إدراكية عامة، فالعجوز يمثل شريحة عامة في المجتمع هم كبار السن الذين تهمِّشهم الحياة وينساهم المجتمع، فينسحبون من حياتهم وتنزوي أحلامهم وتضمر طوحاتهم حتى تصبح مجرد أمل في أنفاس مريحة لا يكدرها صخب الحياة وتآمر الأمراض، ويبدأون في الركون إلى الانعزال عن الحياة، ومشاهدة أحداثها وتأملها من بعيد أو من وراء زجاج دون أن يكونوا فاعلين فيها بحكم خبرتهم الطويلة، وكثرة الأحداث التي مرُّوا بها، وكذلك تخلت الشوارع عن طبيعتها الفيزيائية لتتحول إلى طبيعة إدراكية، فلا نعرف عنها شيئا سوى أنها شوارع القاهرة دون تحديد للشارع أو المنطقة أو الحي، وكأن الكاتب أراد أن يجعل من ذلك إطارا عاما بحيث لا تخرج عن هذا التصور منطقة من المناطق أو شارع من الشوارع في القاهرة، فكلها تتسم بالسمة نفسها، وإن تغيَّرت الأسماء، وإذا كانت الأماكن والأشخاص تحولوا جميعا إلى طبيعة إدراكية فإن التصرفات ومنظومة القيم كذلك يمكن أو تدخل ضمن هذا الإطار العام، لقد تشابكت أحداث القصة وأشخاصها في الكشف عن الرؤية الفكرية المتخفية، وقد تنوعت شخصيات القصة من حيث الحضور والتأثير في الرؤية الفكرية ما بين حضور رئيس ومتوسط وباهت، فقد كانت شخصية العجوز تحتل مكان الصدار من حيث الحضور الفعلي والتأثير في الأحداث، والكشف عن الرؤية الفكرية بجوانبها المختلفة، فعلى الرغم من اندماجه في يوم من الأيام في أحداث المدينة وصراعاتها فقد آلت حياته إلى الانزواء، ولم يعد يتذكره أحد.
1 – يمثل العجوز النوع الأول من الحضور، وهو الحضور الرئيس؛ إذ هو محور القصة، بما تحمله من دلالات، فليس حضوره حضورا ماديا فقط، ولكنه حضور معنوي كذلك، فالحضور المادي تمثَّل في دوران أحداث القصة حول شخصيته ورحلته المعتادة التي يقوم بها مرة وأحيانا مرتين كل أسبوع يطالع فيها شوارع القاهرة ومحالها وناسها وأحاديث الناس، كما تمثل حضوره المادي في اتكائه على عصاه وحجله إلى موقف الحافلات العامة المجاور لمنزله، أما الحضور المعنوي فقد تمثل في منظومة القيم التي يمثلها هذا العجوز في بيئة القاهرة/المدينة المزدحمة الصاخبة، فهو لم يتخلَّ عن تكوينه الفكري ورؤاه المتشكلة عبر الزمن في مقابل التغير الذي أصاب المدينة بكل تفاصيلها ابتداء من الشوارع والناس والحياة، وانتهاء بنظرتها إلى أولئك الذين كانوا في يوم من الأيام فاعلين ومتفاعلين في أحداث هذه المدينة وصراعاتها، وكل ما يمور فيها ويؤثر على حياتها، وقد عبَّرت القصة عن هذا التغيُّر بالقول (تغيرت وجوه الناس وأسمالهم وأصواتهم، ملامح الباعة الجائلين اختلفت واختلف معها بضاعتهم الرخيصة ونداءاتهم لجذب الركاب للشراء، بقيت فقط رائحة العرق لم تتغير رغم اختلاف الأجساد. كأن الحركة في الميدان والضوضاء المنبعثة من عشوائية السلوك وعدم انضباط الحركة والناس تمنح زخما للحياة من نوع مميز جدا – يمضي في الشارع المتخم بالفوضى والعشوائية والوجوه القبيحة التي تصاحبه خلال رحلته الأسبوعية المعتادة) كما عبَّرت القصة عن تغيُّر كل شيء وعدم تغيُّر العجوز في القول (تثبت بصر العجوز على زجاج الشباك المنفرج قليلا يطالع في رحلة العودة كل شيء، يتأمل كل شيء، يقول لنفسه في وداعة لافتة " لقد تغير الزمن، وتغير الناس وتغيرت الأماكن والأحداث لكني لم اتغير") أما حضوره المعنوي الذي تمثل في منظومة قيمه التي يمثلها فقد أشارت القصة إلى أنها لم تعد محل اهتمام المدينة التي تغيَّرت بفعل الزمن وأحداثه، ومن ثم فإن الحضور الرئيس للعجوز هنا كان حضورا كاشفا عن الفكرة الرئيسية للقصة، وهي التغيُّر الذي أصاب المجتمع، وهذا يعني أن القصة في رؤيتها العميقة تحاول الكشف عن التغيرات التي تصيب المجتمعات، وما يصاحبها من انزياح لعناصر القديم بكل مكوناته؛ ليحل محله الجديد مهما كان هذا القديم فاعلا ومؤثرا وجادا، فالزمن متغيِّر ويزيح مع مروره عناصر ويحل محلها عناصر أخرى، وهي سنة الحياة، فتصبح العناصر القديمة التي كانت فاعلة ومؤثرة مجرد شاهد على الجديد مهما كان عشوائيا وفوضويا وقبيحا، فهي لن تستطيع تغييره بما تمتلك من خبرة؛ لأن الحياة أزاحتها عن المشهد، ولم تعد في موقف الفاعل والمثر، ولكنها أصبحت في موقف الشاهد والمتفرِّج.
2 – الحضور المتوسط، ويتمثل في حضور زوجته التي توفيت قبل سنوات، وظل تأثير هذه الوفاة حاضرا في ذهنه مهما مرت الأيام، ومؤثرا عليه، تقول القصة (غادرته امرأته فجأة ومن دون سابق إنذار ذات نهار صعب في أحد أيام الصيف منذ أكثر من عشرين عاما. كان في العمل في هذا الوقت، هاتفه جهاد أصغر الأبناء حينئذ، كان يصرخ مهلوعا " بابا ماما وقعت في المطبخ، موش بتتحرك خالص، مفيش حد في البيت"، انخلع قلبه، طار إلى المنزل. المكان مخنوق بالرعب والقلق والناس الذين هرعوا للمساعدة، كانت مسجاة على ظهرها بجوار موقد الغاز، الهدوء والراحة بادية على ملامح بشرتها البيضاء المبتسمة، حملوها إلى المستشفى القريب، لم تفلح ضربات القلب الهلعة من تغيير النتيجة والقدر، أبلغه الطبيب الشاب الذي وشت ملامحه عن مبلغ كبير من التأثر قبل أن يختفي من أمامه سريعا " المدام متوفاة منذ أكثر من ساعتين، واضح أنه هبوط مفاجئ وحاد في الدورة الدموية، شد حيلك") وحضورها المتوسط هنا ناشئ من كونها شخصية مؤثرة في الشخصية المحورية/العجوز، وكاشفة عن جانب من جوانب ملامحه، ولكنها ليست مؤثرة في أحداث القصة بصورة عامة، وقد بدت تلك الشخصية ذات حضور مريح للعجوز/الزوج من خلال الصفات التي أضفتها القصة عليها (الهدوء والراحة بادية على ملامح بشرتها البيضاء المبتسمة) فالصفات السابقة تتسم بملمحين أساسيين هما: الهدوء والراحة، وهو ما يمثل الجانب المادي من الشخصية، والملمح الثاني ما أشارت إليها القصة (بشرتها البيضاء المبتسمة) في إشارة إلى الجانب الروحي لهذه الشخصية؛ لأن الذاكرة الجمعية تتخذ من ابتسام الميت دلالة على القبول عند الله، وهو ما يشير إلى القيم الأخلاقية والدينية التي تتمتع بها الزوجة، ومن الملاحظ أن العجوز ظل محتفظا بمشهد وفاتها في ذاكرته، ويصل هذا التأثير مبلغا كبيرا لدرجة أنه يجعله يخرج عن نمط حركته المعتادة، وقد حدث ذلك في قول القصة (رياح تلك الذكرى عندما تزوره تعرقل من حركته وتطفئ وجدانه وعيونه. هذا الذي حصل اليوم أثناء اختراق الاوتوبيس شوارع القاهرة، وانتشار الجلبة والضوضاء حواليه، رياح الذكرى السوداء منعته من التحديق كالمعتاد في الشوارع والناس، بدت الشوارع والأرصفة أمام عينيه كأنها خلت من الناس ومن الحياة، بل إن الحافلة ذاتها التي يركبها كأنها لاتتحرك) وكما كان تأثير الزوجة عليه ماديا ومعنويا فإن حضور ذكراها يؤثر كذلك ماديا ومعنويا عليه، فمن الناحية المادية تعرقل من حركته، ومن الناحية المعنوية تطفئ وجدانه، وقد بدا ذلك واضحا عندما زارته رياح ذكراها هذه المرة إذ فعلى الرغم من انتشار الجلبة والضوضاء في كل مكان حواله فإن (رياح الذكرى السوداء منعته من التحديق كالمعتاد في الشوارع والناس، بدت الشوارع والأرصفة أمام عينيه كأنها خلت من الناس ومن الحياة) وبذلك تكشف شخصية الزوجة المتوفاة عن ملمح من ملامح الشخصية الرئيسية ذات الحضور الرئيس/العجوز.
3 – الحضور الباهت، وقد بدا ذلك في حضور نوعيات مختلفة من الشخصيات، مثل ابنه جهاد الذي لا نستطيع تحديد ملامح شخصيته؛ فلم يرد ذكره إلا في موقف الحديث عن وفاة والدته واتصاله بوالده/العجوز، ولم يتضمن الحديث عنه أي شيء يكشف عن ملامح شخصيته، وكذلك الأحفاد لم يكن لهم حضور إلا من خلال الحديث عنهم في إطار التغير الذي أصاب حياة العجوز (الأولاد كبروا، تزوجوا، غابوا في مشاكلهم وقيودهم. لم يعد يكترث كثيرا بحضورهم المؤقت والأحفاد في حياته الحالية، اعتاد زياراتهم الروتينية الباردة. يمنحهم واطفالهم كل الذي يملكه مع كل زيارة، يأخذ بضعة دقائق أو حتى ساعات يتمرغ فيها الأحفاد في حضنه وكفى) وكذلك الشخصيات التي كان يقابلها العجوز في طريقه، أو يتأمل تصرفاتها، وقد عبَّرت القصة بوضوح عن الحضور الباهت لهذه الشخصيات في القول (يمضي في طريقه مصطحبا عصاه وعباءته السمني الخفيفة فوق الجلباب الأبيض ومصطحبا أيضا معه أعواما ثمانين يسير في ظلها، متحررا من كافة القيود والعراقيل التي تحول كل تلك الأشباح التي تترجل حواليه إلى كائنات ممسوحة الملامح) فقد وصفتها بأنها كائنات ممسوحة الملامح، أي أنها باهتة الحضور، وفي الحقيقة فإن القصة لم تهتم بتلك الشخصيات من كونها أسماء محددة لها تأثير فعلي في الأحداث، ولكنها اهتمت بها من حيث كونها معبرة عن التغير الذي أصاب المجتمع نتيجة مرور الزمن، ومن ثم كان حضورها بمقدار ما تكشف عن ملمح أو أكثر من ملامح الأحداث.
التشكيل البلاغي ودوره في إنتاج الدلالة:
سوف نتوقف في هذه الزاوية من الدراسة أمام بعض الصور البلاغية الواردة في القصة محاولين اكتشاف علاقتها بالإطار العام للرؤية التي أوضحناها سابقا، وكذلك علاقتها بالدلالة العامة للشخصيات؛ فقد تعاضدت الآليات جميعا للكشف عن الرؤية المتخفية خلف العلاقات اللغوية، والانحيازات الجمالية في القصة، وفي البداية نرى أن الكاتب شكَّل الدلالة من خلال الصور البلاغية الدالة، وسوف نتوقف أمام ملمح واحد؛ لإبراز التشكيل البلاغي ودوره في إنتاج الدلالة؛ لأن القصة بأكملها تتشكل الرؤية فيها عبر الملامح البلاغية إلى جانب العلاقات اللغوية، ففي تصويره للعجوز أورد ثلاث صور كلية، تتشكَّل كل واحدة من مجموعة من الصور الجزئية، وتبرز كل صورة جزئية ملمحا من الصورة الكلية، والصورة الكلية الأولى في قوله (حركته في شوارع القاهرة لم تعد مثل زمان، ثقلت، وهنت. عاتقه مثقل بكل ما يحمله على كتفيه من أيام وصراعات وأحداث وأحلام وأمنيات تبخرت كما يتبخر الماء المغلي في القدور) تتشكَّل هذه الصورة الكلية من ثلاث صور جزئية، ففي البداية أشار إلى التغيُّر المادي (حركته في شوارع القاهرة لم تعد مثل زمان) وهذا التغير المادي في صورة العجوز يستتبعه تغيُّر في الأداء (ثقلت، وهنت) ويستتبع ذلك تغيُّر في الاهتمامات، وانحسار للطموحات وهو ما جاء في الصورة الجزئية الثانية (عاتقه مثقل بكل ما يحمله على كتفيه من أيام وصراعات وأحداث وأحلام وأمنيات) ولنا أن نتخيل صورة الإنسان المثقل بالأعباء لا يستطيع أن يتحرك من شدة الأحمال التي يحملها على كاهله (عاتقه مثقل) فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا الإنسان عجوز لا يستطيع حمل الأعباء والأثقال فإن الدلالة هنا تكشف عن العبء الثقيل الذي ينوء به هذا العجوز، ولكن هذه الأثقال ليست أثقالا مادية يمكن أن يضعها ويرتاح كاهله، بل هي أثقال معنوية مصاحبة له في جميع أحواله، وكل تحركاته، وهذا يعني أن المعاناة مستمرة في كل مكان يذهب إليه، وفي كل وقت يمرُّ عليه، ثم تأتي الصورة الجزئية الثالثة في التشبيه في نهاية هذه الصورة الكلية (أحلام وأمنيات تبخرت كما يتبخر الماء المغلي في القدور) ليدل على زوال كل شيء، وأن هذا الزوال لم يكن دفعة واحدة ولكنه كان تدريجيا، فالماء المغلي عندما يتبخر فإنه لا يتبخر دفعة واحدة، وهذا يتناسب مع طبيعة الأشياء؛ فهذا العجوز لم يكن انسحابه من الحياة دفعة واحدة، ولكنه كان انسحابا تدريجيا نتيجة كبر السن، فهو لم يكبر فجأة، أي لم يجد نفسه في الثمانين من عمره فجأة فيترك كل شيء، ولكنه كلما تقدم به العمر تسربت من بين أصابعه بعض الأحلام والأمنيات، وانسحب من بعض الأحداث والاهتمامات، واختفت بعض الصراعات التي كانت تحكم حياته، حتى وجد نفسه على هذه الصورة التي تشكَّلت في القصة، وجد نفسه عجوزا ثقلت حركته في شوارع القاهرة التي كان يقطعها يوميا طولا وعرضا، ووهنت قوته، وأثقلت عاتقه الأيام والصراعات والأحلام والأمنيات والمتبخرة، إنها الحياة في دورانها الدائم المستمر الذي لا ينتهي، ولن ينتهي، مثل قطار منطلق وفي كل محطة من محطاته يغادر ركاب ليحل محلهم آخرون، فتتغير الوجوه والأحداث والمحادثات والصراعات نتيجة تغير الظروف والناس، لقد كشفت الصورة الكلية الأولى عن الإطار العام لهذا العجوز متعاضدة في ذلك مع الآليات الأخرى التي كشفنا عنها في تحليلنا السابق، فإذا انتقلنا إلى اللغة، وهي المادة الخام التي تشكَّلت منها هذه الصور الجزئية، ومدى قدرتها على الكشف الدقيق عن ملامح شخصية هذا العجوز فإننا ستجد أنها تكونت من سبع جمل، جملتان اسميتان (حركته في شوارع القاهرة لم تعد مثل زمان – عاتقه مثقل بكل ما ...) وإذا دققنا النظر فسوف نكتشف أن الجملتين تدوران حول حالتين من حالات، هما التغير المادي الذي أصابه (حركته في شوارع القاهرة لم تعد مثل زمان) والتغير المعنوي (عاتقه مثقل) وهاتان الحالتان ثابتتان، أي أنهما لا يحتمل أن تتغيرا أو تتبدلا؛ لأنهما مرتبطتان بالتغير الناشئ عن الزمن، وهو تغير لا يمكن استبداله، ولذلك وجدنا الجملتين اسميتين، وهو ما يتناسب مع حالة الثبات؛ فالجملة الاسمية تدل على الثبات، أما الجمل التالية فهي جمل فعلية تختلف من حيث نوع الفعل، فهناك ثلاث جمل فعلية، الفعل في كل منها ماض (ثقلت – وهنت – تبخرت) الجملتان الأوليان مرتبطتان بالجملة الاسمية الأولى (حركته في شوارع القاهرة لم تعد مثل زمان) وهي جملة دالة على حالة الثبات، وكذلك الجمل الفعلية بعدها؛ فالفعل الماضي يدل أيضا على الثبات، فالحركة أصبحت ثقيلة وواهنة، وهي حالة ثابتة لحركة هذا العجوز، ومن ثم فإن الجملتين المرتبطتين بالتغير المادي للعجوز لهما دلالة ثابتة، وهو ما يتعاضد مع التغير المادي الذي حدث له، فتغيُّر الحالة الجسمانية نتيجة الكبر جعلت حركته ثقيلة وواهنة في كل تحركاته، وليس في حركة دون أخرى، أما الجملة الثالثة (تبخرت) فهي دالة على زوال الأحلام والأمنيات، أي التغير المعنوي الذي حدث لهذا العجوز، وهذا الزوال أصبح حالة ثابتة أيضا؛ لأن الأحداث والصراعات تجاوزته، وانتهت نتيجة انتهاء زمانها، وزالت كذلك الأمنيات نتيجة زوال زمانها وهو زمن الشباب وما يحمله من حيوية وديناميكية، ثم تأتي جملتان فعليتان الفعل فيهما مضارع، وهما (يحمله على كتفيه من أيام وصراعات وأحداث وأحلام وأمنيات – يتبخر الماء المغلي في القدور) ونعلم أن الفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار، ومن ثم فإن الجملة الأولى تعبر عن دلالة التغير والتجدد والاستمرار؛ فالصراعات والأحلام والأمنيات لم تأتِ كلها مرة واحدة، بمعنى أنها كانت متجددة ومستمرة طوال حياته، ففي كل قترة من فترات الحياة كانت هناك صراعات وأحلام وأمنيات متوافقة مع طبيعة هذه الفترة، ومعنى ذلك أن الأحلام والأمنيات والصراعات صاحبته طوال حياته، وهو ما يحمل معنى التجدد والاستمرار، أما الجملة الثانية (يتبخر الماء المغلي في القدور) فهي دالة بوضوح على التجدد والاستمرا في الفعل المضارع (تتبخر) وقد أشرنا سابقا أن زوال الأحلام والأمنيات لم يكن دفعة واحدة ولكنه كان تدريجيا، فالماء المغلي عندما يتبخر فإنه لا يتبخر دفعة واحدة، وهذا يتناسب مع طبيعة الأشياء؛ فهذا العجوز لم يكن انسحابه من الحياة دفعة واحدة، ولكنه كان انسحابا تدريجيا نتيجة كبر السن، ومن ثم فإن استخدام الفعل المضارع في هذا الموقف دال بعمق على المعنى المراد. لقد نجحت الصور الجزئية في الكشف عن الدلالة المشكِّلة الرؤية الفكرية في النص، كما كانت شبكة العلاقات اللغوية متعاضدة تماما مع الشبكة البلاغية من خلال الصور الجزئية المشكلة للصورة الكلية، بحيث كانا/اللغة والبلاغة وجهين لعملة واحدة، وبرزت من خلالهما صورة العجوز وملامحه المادية والمعنوية.
والصورة الكلية الثانية هي (أمراض تتآمر على ركبتيه وظهره وعموده الفقري ومعدته. وهنت عضلة القلب، قدرتها وحركتها تباطأت في ضخ الدماء الى أوصاله، أنذرته عدة مرات بكوارث لكن الله سلم) وتتكون هذه الصورة الكلية من أربع صور جزئية، الأولى (أمراض تتآمر على ركبتيه وظهره وعموده الفقري ومعدته) وهي استعارة مكنية حيث شبَّه الأمراض بإنسان يتآمر، وهي تجسيد للمعنوي في صورة الحسي؛ لإبراز الفكرة وإيضاحها، وهنا نجد الأمراض وهي تتآمر على الركبتين والظهر والعمود الفقري والمعدة، وكلها من أساسيات حياة هذا العجوز وضعف أي منها أو هلاكه يمثل تهديدا لحياته وهلاكا له، ثم تأتي الصورة الجزئية الثانية في قوله (وهنت عضلة القلب) وهي كناية عن المرض وكبر السن، أما الصورة الجزئية الثالثة فهي (قدرتها وحركتها تباطأت في ضخ الدماء إلى أوصاله) وهي صورة مرتبطة بالصورة السابقة، وهي وهن عضلة القلب وضعفها، ونتيجة لها فإذا وهنت عضلة القلب فإن قدرتها على الأداء سوف تقل تلقائيا، أما الصورة الرابعة فهي إنذار عضلة القلب للعجوز بالكوارث (أنذرته عدة مرات بكوارث لكن الله سلم) فإذا كانت الصورة الكلية الأولى أبرزت حالة التغير المادي والمعنوي التي أصابت العجوز فإن الصورة الكلية الثانية شرحت ووضحت آثار هذا التغير على العجوز، ومن ثم فإن العلاقة بين الصورتين يمكن النظر إليها على أنها علاقة تفصيل بعد إجمال، ويمكن النظر إليها على أنها علاقة تفسير وشرح، وفي جميع الأحوال فقد استطاعت الصورة الكلية الثانية الكشف أكثر عن ملامح الشخصية المحورية في القصة، وهي شخصية العجوز، ومن الناحية اللغوية فقد تشكَّلت الصورة من أربع جمل، اثنتان اسمية واثنتان فعلية، ولكن الجملتين الاسميتين جاء الخبر في كل منهما جملة فعلية، والجملة الاسمية الأولى (أمراض تتآمر على ركبتيه وظهره وعموده الفقري ومعدته) فالمبتدأ (أمراض) جاء جمعا؛ للدلالة على الكثرة، كما جاءت نكرة؛ للدلالة العموم والشمول، فهذه الأمراض متنوعة وكثيرة، منها ما يتعلق بأمراض الشيخوخو، وهي الأمراض المصاحبة لكبر السن عادة، ومنها ما يتعلق بالأمراض الأخرى، ولكننا نلاحظ أن الخبر جاء جملة فعلية فعلها مضارع يدل على التجدد والاستمرار؛ ليشير إلى أن تآمر هذه الأمراض عليه لا ينتهي، فهو متجدد ومستمر، ولا يبدو أن له نهاية، فإذا نظرنا إلى من يتم التآمر عليهم فسوف نجد الركبتين والظهر والعمود الفقري والمعدة، وهو ما يتناسب مع استخدام لفظ (أمراض) جمعا، ومجيئ الخبر جملة فعلية فعلها مضارع، أما الجملة الاسمية الثانية فهي (قدرتها وحركتها – أي عضلة القلب – تباطأت في ضخ الدماء الى أوصاله) وهنا نجد الخبر جملة فعلية فعلها ماض، وهو ما يتناسب مع الدلالة؛ فالفعل الماضي يدل على الثبات، وهذه الدلالة مناسبة للمعنى؛ لأن عضلة القلب عندما تضعف فإن قدرتها تضعف، وهذا الضعف في القدرة والحركة يظل ثابتا، ومن ثم كان من المناسب استخدام الفعل الماضي الدال على الثبات؛ فهي حالة ثابتة غير متغيرة، وقد جاءت هذه الجملة الاسمية الثانية بعد جملة فعلية فعلها ماض (وهنت عضلة القلب) وهو دال على الثبات أيضا، والجملة الرابعة (أنذرته عدة مرات بكوارث) وقد لاحظنا أن الجملة ستخدمت الفعل الماضي أيضا؛ لتدل على أن حالة الإنذار ثابتة وإن كثرت الكوارث.
ثم تأتي الصورة الكلية الثالثة (انتثرت أخاديد الزمن في خلايا وجهه ورقبته وذراعيه، ضرب الشيب في كل مكان يمكن أن يصل إليه في تفاصيل هيئته التي يصر دوما على الخروج بها الى الناس)؛ لتكون بمثابة إغلاق للدلالة على هذا الملمح من ملامح الشخصية المحورية/العجوز، وقد تشكَّلت هذه الصورة الكلية كغيرها من مجموعة من صور جزئية، فالصورة الجزئية الأولى (انتثرت أخاديد الزمن في خلايا وجهه ورقبته وذراعيه) وهي صورة مادية دالة على التغير الذي أصابه، وقد عبَّرت القصة بعمق عن المعنى من خلال هذه الصورة الجزئية، فلفظ (انتثرت) دالة كثرة الأماكن التي ظهرت فيها التجاعيد/الوجه والرقبة والذراعين، واستخدمت القصة لفظ (أخاديد) للدلالة على التجاعيد، مما يوحي بعمق هذه التجاعيد ووضوحها على ملامح الوجه والرقبة والذراعين، وهي صورة كنائية، ثم تأتي الصورة الجزئية الثانية في (ضرب الشيب في كل مكان يمكن أن يصل إليه في تفاصيل هيئته) وهي استعارة مكنية حيث شبه الشيب بإنسان، وهي أيضا كناية عن انتشار الشيب في كل مكان يمكن أن يدل عليه، أو يصل إليه، ثم تأتي الصورة الجزئية الثالثة (يصر دوما على الخروج بها الى الناس) وهي صورة كنائية حيث إنها تدل على الإرادة القوية لهذا العجوز، فهو يعرف تغيرات الزمن ولا ينكرها، ويصر على إظهارها؛ لأنها تعبر عن حقيقة حياته، ومن حيث التشكيل اللغوي نجد الصورة الكلية تتكون من ثلاث جمل فعلية، اثنتان الفعل في كل منهما ماض، والثالثة فعلها مضارع، أما الجملة الأولى فهي (انتثرت أخاديد الزمن في خلايا وجهه ورقبته وذراعيه) وهي تجمل معنى الثبات، وهو ما يتناسب مع طبيعة الصورة؛ فالصورة تعبر عن التغير المادي الذي أصاب هذا الرجل/العجوز، وظهر ذلك على شكل تجاعيد في الوجه والرقبة والذراعين، وهي أشياء لا يمكن إخفاؤها، وهي ثابتة في الشخصية، ومن ثم استخدامت القصة الفعل الماضي الدال على الثبات، وإن دل على الكثرة (انتثرت) أما الجملة الثانية فهي (ضرب الشيب في كل مكان يمكن أن يصل إليه في تفاصيل هيئته) وهي أيضا جملة فعلية فعلها ماض يدل على الثبات، وهو ما يتناسب مع المعنى؛ إذ إن الشيب حالة ثابتة ولا يمكن إنكارها أو تغييرها، وأما الجملة الثالثة فهي (يصر دوما على الخروج بها الى الناس) ونلاحظ أن الفعل في هذه الجملة مضارع وهو ما يتناسب مع المعنى؛ إذ إن الخروج متجدد ومستمر، ومن ثم فإن استخدام الفعل المضارع الدال على التجدد والاستمرار مناسب في هذه الحالة؛ ليتوافق مع الرؤية التي أراد الكاتب إبرازها.
لقد ساعدت الصور الكنائية والاستعارية والتشبيهية في الفقرات السابقة في الكشف عن ملامح الرؤية المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية، وتحولت شبكة العلاقات البلاغية إلى معادل للعلاقات اللغوية في النص، وأصبحت كل منهما كاشفة عن المعنى المراد ومتعاضدة مع الأخرى في إبراز الرؤية التي يسعى النص إلى إبرازها.
رحلة السيد العجوز
د. أحمد الباسوسي
حركته في شوارع القاهرة لم تعد مثل زمان، ثقلت، وهنت. عاتقه مثقل بكل ما يحمله على كتفيه من أيام وصراعات وأحداث وأحلام وأمنيات تبخرت كما يتبخر الماء المغلي في القدور.
أمراض تتآمر على ركبتيه وظهره وعموده الفقري ومعدته. وهنت عضلة القلب، قدرتها وحركتها تباطأت في ضخ الدماء الى اوصاله، أنذرته عدة مرات بكوارث لكن الله سلم.
انتثرت أخاديد الزمن في خلايا وجهه ورقبته وذراعيه، ضرب الشيب في كل مكان يمكن ان يصل اليه في تفاصيل هيئته التي يصر دوما على الخروج بها الى الناس.
أحلام شبابية عظيمة حملته على أجنحتها في عشرينياته، طارت به نحو تغيير العالم والتاريخ، لكنها في النهاية تقزمت لدرجة الانقراض. الآن لم يعد يتبقى له من شيء سوى عصا يحجل بها فوق ايامه المتبقية، وابتسامة عريضة مريحة يصدرها للعالم، ابتسامة تكشف بوضوح عن حالة فسيحة من الرضا والتصالح، والانفصال عن عالم الصراع والتشاحن والجدل.
لم يعد يملك من عالمه سوى بضعة انفاس مريحه يحمد ربه عليها، وراديو ترانزستوستر مثبت على موجة وحيدة يتيمة وهي موجة اذاعة القرآن الكريم، يظل رحيقها يملأ غرفته البسيطة، يستدفئ وينتشي بتلاوة القرآن طوال الاربعة وعشرين ساعة من دون انقطاع. كذلك بقى له تلك الرحلة التي اعتاد على خوضها مرة وأحيانا مرتين كل اسبوع يطالع فيها شوارع القاهرة، ومحالها وناسها واحاديث الناس. اعتاد ان يحجل متكئا على عصاه الى موقف الحافلات العامة المجاور لمنزله في هدوء وصمت بالغين، وحرص تام على عدم السقوط في الطريق الاسفلتي المترب المرصع بالحفر والمطبات العشوائية المفخخة التي يترصع بها الطريق،
ثم يلقى نفسه داخل أحد مقاعد الحافلة العامة بجوار الشباك الزجاجي، يترك حواسه لتعليقات الناس، ومعرفة آخر الأخبار، ومطالعة الشوارع والأحوال والمحال التجارية، كل ذلك من خلال زجاج الحافلة في رحلة الذهاب من موقف الحافلات بالقرب من منزله، الى موقف الحافلات في الجانب الآخر، ثم يظل جالسا في مقعده لايحرك ساكنا في انتظار رحلة عودة الحافلة للموقف الأول لكي يترجل حجلا الى المنزل.
أصبحت تقاطيع وجهه الكمثري المضمخ بحمرة الجلد المحروق المكرمش الذي يكشف عن آثار الزمن التأديبية في خلاياه مألوفة لدى الناس في الطريق، وكذلك بدت تلك النظارة الطبية ذات الزجاج السميك الذي يطلقون عليه كعب الكباية والمعلقة بعناية على وجهه ومقفوشة على صيوان أذنيه المفرطحين، والمثبتة بارتياح على أرنبة أنفه الغليظة علامة واشية على حضوره المميز وهيبته وأناقته البسيطة، بالإضافة إلى التقوس البارز على ظهره والمنسجم مع حركته البطيئة الحجلى في الطريق، أصبح كل ذلك يمثل بالنسبة له علامات وألفة وود مميز له لدى غالبية السائقين والكمسارية وكثير من الوجوه التي تستخدم هذا الخط من الحافلات في ذلك التوقيت من النهار.
بعد صلاة الظهر مباشرة يظهر هذا السيد العجوز صاحب الشعر القطني الناعم، الذي أهمل تشذيبه وقصه لدرجة تطاير خصلاته متحررة تراقص الهواء وتمنح وجهه الأبيض المريح زخما هائلا من الوسامة والاعتداد بالنفس، اعتاد أن يظهر في هذا العالم وتلك البقعة من الأرض، يمضي في الشارع المتخم بالفوضى والعشوائية والوجوه القبيحة التي تصاحبه خلال رحلته الأسبوعية المعتادة. يمضي في طريقه مصطحبا عصاه وعباءته السمني الخفيفة فوق الجلباب الأبيض ومصطحبا أيضا معه أعواما ثمانين يسير في ظلها، متحررا من كافة القيود والعراقيل التي تحول كل تلك الأشباح التي تترجل حواليه إلى كائنات ممسوحة الملامح، غاضبة دائما وليس لديها يقين. الأولاد كبروا، تزوجوا، غابوا في مشاكلهم وقيودهم. لم يعد يكترث كثيرا بحضورهم المؤقت والأحفاد في حياته الحالية، اعتاد زياراتهم الروتينية الباردة. يمنحهم واطفالهم كل الذي يملكه مع كل زيارة، يأخذ بضعة دقائق أو حتى ساعات يتمرغ فيها الأحفاد في حضنه وكفى. غادرته امرأته فجأة ومن دون سابق إنذار ذات نهار صعب في أحد أيام الصيف منذ أكثر من عشرين عاما. كان في العمل في هذا الوقت، هاتفه جهاد أصغر الأبناء حينئذ، كان يصرخ مهلوعا " بابا ماما وقعت في المطبخ، موش بتتحرك خالص، مفيش حد في البيت"، انخلع قلبه، طار إلى المنزل. المكان مخنوق بالرعب والقلق والناس الذين هرعوا للمساعدة، كانت مسجاة على ظهرها بجوار موقد الغاز، الهدوء والراحة بادية على ملامح بشرتها البيضاء المبتسمة، حملوها إلى المستشفى القريب، لم تفلح ضربات القلب الهلعة من تغيير النتيجة والقدر، أبلغه الطبيب الشاب الذي وشت ملامحه عن مبلغ كبير من التأثر قبل أن يختفي من أمامه سريعا " المدام متوفاة منذ أكثر من ساعتين، واضح أنه هبوط مفاجئ وحاد في الدورة الدموية، شد حيلك". رياح تلك الذكرى عندما تزوره تعرقل من حركته وتطفئ وجدانه وعيونه. هذا الذي حصل اليوم أثناء اختراق الاوتوبيس شوارع القاهرة، وانتشار الجلبة والضوضاء حواليه، رياح الذكرى السوداء منعته من التحديق كالمعتاد في الشوارع والناس، بدت الشوارع والأرصفة أمام عينيه كأنها خلت من الناس ومن الحياة، بل إن الحافلة ذاتها التي يركبها كأنها لاتتحرك. استسلم لقدره الذي اعتاده. ترك نفسه تسبح في ملكوت الأيام الغائمة، وعطرها الذي يحتويه، هذا هو الشيء الذي بقى له في هذا العالم، مع عصاه، وذلك الراديو الترانزستور القديم وصوت إذاعة القرآن الكريم. توقفت الحافلة في الميدان الفسيح، نزل جميع الركاب سواه، صعد آخرون، تغيرت وجوه الناس وأسمالهم وأصواتهم، ملامح الباعة الجائلين اختلفت واختلف معها بضاعتهم الرخيصة ونداءاتهم لجذب الركاب للشراء، بقيت فقط رائحة العرق لم تتغير رغم اختلاف الأجساد. كأن الحركة في الميدان والضوضاء المنبعثة من عشوائية السلوك وعدم انضباط الحركة والناس تمنح زخما للحياة من نوع مميز جدا، كأنها تبعث في الأرواح التي قبضتها الذكريات والأيام السوداء قبلة حياة جديدة لكي تستعيد ألقها وطبيعتها. كأن ذلك هو ما حدث بالضبط للسيد العجوز سجين المقعد داخل الحافلة العامة. الرجل استفاق على صوت الجلبة وحوارات الناس مع أنفسهم، وفي هواتفهم النقالة بصوت مرتفع، ونداء محصل التذاكر له بصوت مرتفع معتقدا ان سمعه ضعيف " تذاكر" ، خرج من غفوته، اعتدل في جلسته مفسحا مكانا أوسع للشاب الصغير المنكمش بجواره. دارت السيارة في رحلة العودة، تعلقت معها ابتسامة العجوز المريحة المعتادة، انتفضت خلاياه بتلك الفرحة الداخلية التي تفجرها هذه الابتسامة الرائعة التي تكسو وجهه الرائق، وهدوءه اللافت الذي يكشف عن طبيعة هائلة في السيطرة والتسامي، والارتقاء بعيدا عن ترهات البشر الطبيعيين.
الحافلة تمخر عباب الشوارع والصراخ وسباب الناس لبعضهم والوقت الذي يمضي من دون طائل في شوارع ضاقت بكل شيء، لم يعد فيها خرم إبرة، وعرق كثير مسكوب يحتج بقوة على ذلك النهار الصيفي الذي يحتفي بقهر الناس وغليهم داخل قدوره الرهيبة. تثبت بصر العجوز على زجاج الشباك المنفرج قليلا يطالع في رحلة العودة كل شيء، يتأمل كل شيء، يقول لنفسه في وداعة لافتة " لقد تغير الزمن، وتغير الناس وتغيرت الأماكن والأحداث لكني لم اتغير"، التفت الى الشاب الصغير المنكمش جواره سأله عن الساعة؟، أصابع الشاب كانت تعبث في الهاتف النقال وعيون مخزوقة في شاشته المضيئة، أخبره بسرعة وبغير اكتراث أو انفعال " الساعة اربعة ونص ياجدي". تطلع الى وجهه في هدوء وامتنان، صدرت عنه شهقة مريحة تنم عن فرحة وانتصار، قال لنفسه " الحمد لله هالحق صلاة العصر، لسه بدري على المغرب". طريق الحافلة متعسر، الزمن ينفلت، حالة الرضا التي تتملك العجوز تتسع أكثر فأكثر، تكاد ترفع الحافلة على جناحيها وتطير بها حيث شقته القديمة التي تهالكت جدرانها وأثاثها، وكذلك وحدته القديمة، والراديو القديم، وصوت المقرئ الندي المنبعث من إذاعة القرآن الكريم ولا شيء غير ذلك .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى