رفع الخريطة عالياً وقال بأسى:
- لا زلنا نعمل بخرائط الدبابيس التقليدية رغم وجود عشرات التطبيقات الرقمية.
قال شرطي يقف متكأ على مدخل باب المكتب:
- يبدو عملكم شاقاً..
ثم قهقه ضاحكاً بسخرية، وغادر تاركاً وجه المحلل الجنائي ممتقعاً من الغضب.
تنفس السيد الجبري بعمق لكي ينسى سخرية الشرطي منه، ثم أطلق صفيراً من فمه وهو يعلق الخارطة على الجدار ويتأملها، بعدها بدأ في تثبيت الدبابيس بحسب الوقائع التي أثبتتها التحقيقات الجنائية.
همس:
- الضحية الأولى كانت في شارع البستان في المحلية الرابعة، وأما الضحية الثالثة فكانت في المحلية الجنوبية في زقاق خلف المسجد الكبير..
كان يتكلم ويغرس الدبابيس على سطح الخريطة..بعدها تذكر شيئاً فغادر المكتب بسرعة، تاركاً الباب مفتوحاً، وكان فوق الباب لافتة مكتوبٌ عليها (وحدة التحليل الجنائي).
قالت له عشيقته التي تهتم بأمره أكثر من زوجته:
- سأعمل على دفعهم لترقيتك..
قال بدهشة:
- هل تستطيعين؟
قالت:
- لدي نفوذ..
قال بدهشة مرة أخرى:
- أنتِ؟
هزت رأسها ثم أطفأت سجارتها ونهضت من طاولة المقهى وقالت:
- تعال..
قال مدير مكتب وزير الداخلية باحترام جم:
- بالتأكيد يا سيدة روزا..إنه يستحق الترقية..المشكلة أنه إداري وترقياته مختلفة عن الشرطة..لكنني سأعمل على حل هذه المشكلة..
قالت بعين لامعة:
- سانتظر منك مكالمة..
ونهض الجبري وهو لم يفهم شيئاً..
لم تكن روزا تمثل له شيئاً يذكر، فسواء كانت عاهرة أم لا ما كان ذلك ليغير من الأمر شيئاً.
هكذا قال لنفسه محاولاً تجاوز الصدمة..عليه أن يختار بين كسب الترقية أو خسارة روزا.
- كان والدي يسارياً حتى لحظة إعدامه..
قالت وهي تقود السيارة منعطفة بمقودها إلى حديقة عامة..
رمش بعينيه ملتزماً الصمت..
- هل نذهب إلى المسرح؟..
قال ببطء:
- لست مهتماً بهذه الأشياء..تعرفين ذلك..
قالت:
- تبدو حانقاً قليلاً..
هز راسه وغمغم:
- لستُ حانقاً..
قالت:
- لستُ كما تتصور..
- لا يهم..
- تبدو حانقاً..
قال بحنق:
- قلت لكِ لستُ حانقاً..هذه حياتك الخاصة..
وحين صمتت أضاف:
- كل ما في الأمر أنني أفكر في مقتل أربع نساء..وأعتقد أن القاتل واحد.. كوني حذرة حتى نعرفه ونلقي القبض عليه..
وحاول الوصول إلى شباك التذاكر بصعوبة فقال متذمراً:
- منذ متى كان الشعب يهتم بمثل هذه التوافه..
قالت روزا:
- لأن مؤلفة المسرحية قتلت قبل بضعة أيام..
التفت نحوها وقال:
- حياة؟
- نعم..
- حسنٌ.. لقد استفادوا من موتها جيداً.. الرأسمالية تأكل من أعلى وأسفل..
وعند عودته وجد زوجته نائمة، كانت تشبه الشرطي الذي سخر منه بذات أنفه الكبير..تجاهل ذلك وخلع ملابسه ثم تمدد قربها محاولاً النوم..
تراءت له أحلام غريبة..روزا ومدير مكتب الوزير عاريين، ثم تحولت روزا لممثلة في مسرحية حياة، ثم ظهر له وجه إحدى القتيلات الأربع وهي تقهقه. فقفز من سريره..
كانت الشوارع مظلمة، ولكنه قاد سيارته ببطء، حتى وصل إلى القسم، ثم دخل إلى مكتب الوحدة، ليبدأ في مراجعة بيانات الجريمة..
- حياة قتلت وهي تخرج من عرض مسرحيتها الأول..والثلاث الأخريات قتلن في شوارع مختلفة، فما الذي يجمع بينهن..
ألصق صور وجوههن على الخريطة المثبتة على الجدار. وتأملهن. لم تكن هناك علاقة تذكر بينهن. بدون مختلفات في السحنات والأعمار والطول والقصر. فضلاً عن أن القاتل لم يغتصبهن. لقد ذبحهن فقط.ذبحهن من الوريد إلى الوريد..
عاد إلى درج مكتبه وأخرج ملفاً وبدأ في قراءته حتى أشرقت الشمس، ليستيقظ بعد ساعتين ويجد رأسه متكوماً فوق درج مكتبه.
- لا زلتُ أخرج لعاباً من فمي حين أنام.. اللعنة على تلك الأدوية..
وحين أخبرته روزا بأنها حامل، قال دون وعي:
- مني؟
ولأول مرة يراها غاضبة، فقد سحبت حقيبتها بسرعة وغادرت المقهى دون أن تلتفت وراءها. لم ينجب من زوجته، ولم يرَ أي أهمية لذلك، اما الآن فقد وجد نفسه وقد وُضع أمام الأمر الواقع.
- إثبات أبوتي ليس صعباً ففحص البصمة الوراثية سيكشف الحقيقة..وإن كانت روزا لن تجد صعوبة في تزوير النتيجة فنفوذها كبير.
قال الشرطي الساخر بتهكمه المعهود:
- هل اكتشفت القاتل أيها المحلل الجنائي؟
إنه يكره هذا الشرطي المتنمر، لكنه سيتحمله ولن يقذف بقبضته في وجهه.
- ليس بالشيء الذي يذكر.. الضحايا لا علاقة بينهن، إنهن مختلفات تماماً، إحداهن مؤلفة مسرحيات، والثانية موسيقية، والثالثة شاعرة أما الرابعة فخبيرة تحليل سياسي.
صفر الشرطي وقال:
- مثقفات جميعهن..
تجمد وجه الجبري وقال:
- مثقفات جميعهن؟
فتح حاسوبه وبدأ في البحث عن حياة النسوة العملية، كن جميعهن قد ألفن كتباً حتى تلك الموسيقية كانت قد ألفت كتاباً عن الموسيقى.
عاد وتتبع مسيرتهن التعليمية، ولم يجد أي رابط، فكل واحدة تخرجت من جامعة مختلفة. ثم تذكر أنهن بالتالي يتشاركن مستوى الدراسة الجامعية نفسه.
- ماذا تفعل؟
سأله الشرطي لكنه اكتفى بالنهوض وتأمل الخريطة مرة أخرى، ثم استخدم القلم الملون لرسم خطوط تصل بين مسارح الجرائم. فوجد شكلاً شبه دائري أو شبه مربع. قام برسم خطوط تصل بين كل مسرح جريمة وآخر، فوجد تقاطعا مركزياً. لمعت عيناه وهمس:
- هنا يقطن الجاني. في المحلية الوسطى.
قال ذلك وداهمه تعب مفاجئ. فنظر إلى ساعته وقرر مغادرة المكتب.
وعند الباب سمع صوت الشرطي يقول:
- ستكشف الجريمة من داخل مكتبك.. كم أنتم عباقرة أيها المحللون الجنائيون.
رد عليه باقتضاب:
- لا أحد يعرف حدود طاقة العقل البشري.
ثم غادر، وقهقهات الشرطي وراءه تختلط بكلماته:
- المحقق كونان..هاهاها..
قالت روزا وهي تعيد ربط خمارها حول رقبتها، ثم ترتدي نظارة شمسية ذات إطار بيضاوي واسع:
- لا تجعله يحبطك يا كونان..
قال بحزن:
- حتى أنتِ..
ضحكت وهي تقول:
- إنه عمل ممل.. ثم أنك تعمل وحدك وبأدوات بدائية..
قال:
- لا زالت الوحدة جديدة.. هل يمكنني أن اطلب منكِ طلباً..
قادت السيارة ببطء وهي تنظر إلى الأمام..فأضاف:
- على أن لا تفهميني فهماً خاطئاً..
قالت:
- فحص الحمض النووي؟ موافقة..
- بدون تأثير؟
قهقهت بسعادة:
- هل تظن بأنني نافذة إلى هذه الدرجة؟..
وحين فتح باب شقته اشتم رائحة الطعام، ورأى ظهر زوجته داخل الحمام مفتوح الباب وهي تقف أمام الغسالة، ثم قالت بدون أن تدير جسدها لتواجهه:
- ألن يزيدوا مرتبك لتشتري لنا غسالة فُل أوتوماتيك..
ودون أن تنتظر إجابة قالت:
- طعامك فوق البوتوجاز..
لم يكن جائعاً بل محتاجاً للنوم العميق..
- سيكون لي ولد يا درية..
اتسعت عينا درية بفزع ثم تجهم وجهها وبدأت تبكي:
- فعلتها..فعلتها وتزوجت في السر..
كان بكاؤها مخيفاً فغادر الغرفة، ونام بعيداً عنها. كان الصمت يلف الصالة، غير أن صوت أنات زوجته كانت تنفذ من بين الجدران بين الحين والآخر فتؤلم قلبه.
- إنهن أربع قتيلات جمعتهن الثقافة..
قال لرئيس القسم وهو يشرح لباقي الشرطيين.
- هناك نظرية تسمى بكيس الفحم، حيث أنك إذا رفعت كيس الفحم من مكانه ستجد مكان قاعدته غير ملوث أما حواف القاعدة فملوثة..فالمجرم أيضاً لا يرتكب الجريمة في مكان إقامته، وبتكامل هذه النظرية مع نظرية رحلة الغراب يمكننا أن نحدد دائرة إقامة الجاني..فرحلة الجاني دائماً لا تكون بعيدة عن ملاذه الأصلي وهكذا نستطيع أن نقوم بتقدير مسافة الملاذ بقليل من الحسابات الرياضية لتضييق دائرة البحث..فليس الغرض من التحليل الجنائي هو معرفة هوية الجاني بل محاولة التعرف على ملامح من شخصيته ومكانه، وفقاً للنمط الجنائي الذي نحصل عليه من تحليل البيانات وسنعرف أن الجاني لا يحب النساء المتعلمات..ربما بسبب عقدة نفسية نتجت عن زواج فاشل أو حب قديم..هكذا نستطيع أن نتوقع بأن المجرم ليس متعلماً، كما نستطيع أن نتنبأ بميعاد اقترافه للجريمة التالية ومحيطها..فالجاني يقترف جرائمه مساءً في الساعة السابعة أو العاشرة..مع ذلك فكل هذه المعلومات غير مكتملة حتى الآن ولا يمكن التعويل عليها لأنها تحتاج إلى مزيد من الجهد..
قال الشرطي المتنمر:
- إذاً؛ سننتظر الجريمة التالية..
ثم قهقه. لكن نظرة حقودة من عين الجبري ألجمته وتوتر المناخ في مكتب رئيس القسم..فقال هذا الأخير:
- إنها محاولات مهمة جداً.. سنكثف دورياتها منذ السادسة وحتى العاشرة مساءً..ونبدأ في جمع معلومات إضافية عن سكان المنطقة التي يقطنها المجرم المُحتمل...
منذ تسع سنوات لم يفكر في إقامة علاقة عاطفية حقيقية..لقد اقتحمته روزا بعد لقاء تصادفي لم يعد يتذكره، لقد احتوته بشكل كامل. لذلك كان عليه أن يتصل بها. لكنها لم ترد على هاتفه..أعاد الإتصال بها مرات ومرات لكنها لم ترد أيضاً.. نظر إلى الساعة المعلقة على مكتبه المنزلي فوجدها التاسعة مساءً.
- حذرتها من الخروج مساءً مع وجود هذا القاتل المتسلسل..
قالها بغضب وتذكر أنها أجابته:
- إنه يقتل المثقفات..
- أنتِ متعلمة أيضاً..
- لكنني لست مثقفة..لقد كان زوجي المرحوم غنياً فلم أهتم بشيء سوى الاستمتاع بالحياة حتى بعد موته وما نلته من نصيبي في الميراث.. إن لجوء المرء إلى التثقف مجرد علاج لجرح عميق..وأنا لست مصابة بهذا الجرح..
- ما كان القاتل المتسلسل ليصاب بكل هذا الجنون لو أنه تزوجك..
- ربما كان حينها سيقتل غير المثقفات وهن الغالبية..
قهقهت وانطفأت الذكرى.
ثلاثة ايام مضت دون اتصال منها، شقتها مغلقة، وهاتفها أيضاً صار مغلقاً..
كان الخريف قد بدأ يطل بسمائه الرمادية، مظللاً سيارة الجبري التي تتحرك بهدوء في عقبة الجبال. الأرض من تحته بعيدة وقد تقزمت منازلها وتحول القليل من البشر إلى نقاط كما في خريطة الدبابيس. لقد علم أن روزا قد انتقلت إلى ولاية أخرى في الشرق وقطعت علاقتها به دون أن تتصل به لتخبره بذلك. غير أنه لن يترك لها الحبل على الغارب، ففي بطنها ابنه، وعليها أن تفهم ذلك. لقد تغير كل شيء بعد هذا الحمل.
- إنني لا أعرف ما يدور في عقل النساء.. حاولت وفشلت..
كانا يجلسان على أريكة أسمنتية راسخة في مواجهة البحر..
- ستفهمهُنّ لو كنت عاطفياً..إنك لم تحبني أبداً..
تأمل البحر وقال:
- قبل الحمل لم تهتمي بمسألة الحب هذه..
التفتت إليه وقالت بشراسة:
- لأن الحمل يتطلب مني أن أهتم بهذه التي تسميها مسألة.. إنك تستحقر المشاعر.. إنك لا تعرف ما هو الحب..
قال بنبرة باردة:
- لم تكن لدي علاقة سابقة..حتى زوجتي تزوجتها بطريقة تقليدية..إنها سيدة طيبة..
قالت:
- حتى الذين لم تكن لديهم علاقات حب سابقة، يشعرون بأنهم فقدوا حباً ما، وإن كان غير محددٍ كما لدى الباقين. وربما يكون ذلك أكثر إيلاماً، لأنهم بشر.. فهل مررت بهذا الإحساس من قبل..
ظل صامتاً فأضافت:
- لقد أحببتك ومع ذلك اتهمتني..
قال بسرعة:
- لم أتهمك..
- بل اتهمتني..
- مجرد شك..
- وهل تظن بأنني كنت لأخشاك لو أردت فعل ذلك؟ هل كان بيننا رابط يدعوني إلى الخوف منك لأظل في علاقة مزيفة معك؟
قال ساخراً:
- المحقق كونان..
- ليس هذا وقت السخرية..
قال:
- وقت ماذا إذاً؟
- وقت الحديث بصراحة..هل تحبني؟
بقى صامتاً.. فنهضت وقالت:
- وداعاً إذاً..
قال بتردد:
- والطفل؟
قالت:
- ليس ابنك..
كان الغروب يزحف كالجيوش البربرية على السماء، وبعض قطرات المطر هبطت ونقرت جبهته، غير أنه لم يحاول مسحها. ظل جالساً على الأريكة الاسمنتية..وذاكرته غائبة في الماضي..أول حب وأوَّل ألم خيانة شعر به... كانت شاعرة مزيفة.. تكتب القصائد الرومانسية لكنها أبداً لم تكن كذلك..وحين تعزف على البيانو كانت الدموع تقطر من عينيها، فتضحك وتلقي نكتة ساخرة، ثم تقول:
- إنني ممثلة مسرحية بارعة..كنت وأنا طفلة أتعمد تمثيل البكاء..ولما كبرت مثلت في المسرح..إنني فنانة شاملة..
كان يقول لها وقلبه يرتجف:
- لكنك لا تعرفين الحب أبداً..
فتضحك وتقول:
- إنني امرأة تملك عقلاً يغلب على سذاجة القلب..
- وأنا؟
- أنت شاب طيب..لكنك ستعاني في حياتك من سخرية الآخرين إن لم تضغط على قلبك الصغير...
قفذت إلى مخيلته صورة الشرطي فعاد ليتأمل البحر بصمت، كان هناك سؤال وحيد لم يجد الإجابة عليه:
- لماذا قتلتُ المحللة السياسية؟..
لقد حاول أن يخفي الإجابة عن عقله.. لكنها كانت تلح على التجلي أمام بصره..لقد كانت تشبهها..تشبهها تماماً...
(تمت)
- لا زلنا نعمل بخرائط الدبابيس التقليدية رغم وجود عشرات التطبيقات الرقمية.
قال شرطي يقف متكأ على مدخل باب المكتب:
- يبدو عملكم شاقاً..
ثم قهقه ضاحكاً بسخرية، وغادر تاركاً وجه المحلل الجنائي ممتقعاً من الغضب.
تنفس السيد الجبري بعمق لكي ينسى سخرية الشرطي منه، ثم أطلق صفيراً من فمه وهو يعلق الخارطة على الجدار ويتأملها، بعدها بدأ في تثبيت الدبابيس بحسب الوقائع التي أثبتتها التحقيقات الجنائية.
همس:
- الضحية الأولى كانت في شارع البستان في المحلية الرابعة، وأما الضحية الثالثة فكانت في المحلية الجنوبية في زقاق خلف المسجد الكبير..
كان يتكلم ويغرس الدبابيس على سطح الخريطة..بعدها تذكر شيئاً فغادر المكتب بسرعة، تاركاً الباب مفتوحاً، وكان فوق الباب لافتة مكتوبٌ عليها (وحدة التحليل الجنائي).
قالت له عشيقته التي تهتم بأمره أكثر من زوجته:
- سأعمل على دفعهم لترقيتك..
قال بدهشة:
- هل تستطيعين؟
قالت:
- لدي نفوذ..
قال بدهشة مرة أخرى:
- أنتِ؟
هزت رأسها ثم أطفأت سجارتها ونهضت من طاولة المقهى وقالت:
- تعال..
قال مدير مكتب وزير الداخلية باحترام جم:
- بالتأكيد يا سيدة روزا..إنه يستحق الترقية..المشكلة أنه إداري وترقياته مختلفة عن الشرطة..لكنني سأعمل على حل هذه المشكلة..
قالت بعين لامعة:
- سانتظر منك مكالمة..
ونهض الجبري وهو لم يفهم شيئاً..
لم تكن روزا تمثل له شيئاً يذكر، فسواء كانت عاهرة أم لا ما كان ذلك ليغير من الأمر شيئاً.
هكذا قال لنفسه محاولاً تجاوز الصدمة..عليه أن يختار بين كسب الترقية أو خسارة روزا.
- كان والدي يسارياً حتى لحظة إعدامه..
قالت وهي تقود السيارة منعطفة بمقودها إلى حديقة عامة..
رمش بعينيه ملتزماً الصمت..
- هل نذهب إلى المسرح؟..
قال ببطء:
- لست مهتماً بهذه الأشياء..تعرفين ذلك..
قالت:
- تبدو حانقاً قليلاً..
هز راسه وغمغم:
- لستُ حانقاً..
قالت:
- لستُ كما تتصور..
- لا يهم..
- تبدو حانقاً..
قال بحنق:
- قلت لكِ لستُ حانقاً..هذه حياتك الخاصة..
وحين صمتت أضاف:
- كل ما في الأمر أنني أفكر في مقتل أربع نساء..وأعتقد أن القاتل واحد.. كوني حذرة حتى نعرفه ونلقي القبض عليه..
وحاول الوصول إلى شباك التذاكر بصعوبة فقال متذمراً:
- منذ متى كان الشعب يهتم بمثل هذه التوافه..
قالت روزا:
- لأن مؤلفة المسرحية قتلت قبل بضعة أيام..
التفت نحوها وقال:
- حياة؟
- نعم..
- حسنٌ.. لقد استفادوا من موتها جيداً.. الرأسمالية تأكل من أعلى وأسفل..
وعند عودته وجد زوجته نائمة، كانت تشبه الشرطي الذي سخر منه بذات أنفه الكبير..تجاهل ذلك وخلع ملابسه ثم تمدد قربها محاولاً النوم..
تراءت له أحلام غريبة..روزا ومدير مكتب الوزير عاريين، ثم تحولت روزا لممثلة في مسرحية حياة، ثم ظهر له وجه إحدى القتيلات الأربع وهي تقهقه. فقفز من سريره..
كانت الشوارع مظلمة، ولكنه قاد سيارته ببطء، حتى وصل إلى القسم، ثم دخل إلى مكتب الوحدة، ليبدأ في مراجعة بيانات الجريمة..
- حياة قتلت وهي تخرج من عرض مسرحيتها الأول..والثلاث الأخريات قتلن في شوارع مختلفة، فما الذي يجمع بينهن..
ألصق صور وجوههن على الخريطة المثبتة على الجدار. وتأملهن. لم تكن هناك علاقة تذكر بينهن. بدون مختلفات في السحنات والأعمار والطول والقصر. فضلاً عن أن القاتل لم يغتصبهن. لقد ذبحهن فقط.ذبحهن من الوريد إلى الوريد..
عاد إلى درج مكتبه وأخرج ملفاً وبدأ في قراءته حتى أشرقت الشمس، ليستيقظ بعد ساعتين ويجد رأسه متكوماً فوق درج مكتبه.
- لا زلتُ أخرج لعاباً من فمي حين أنام.. اللعنة على تلك الأدوية..
وحين أخبرته روزا بأنها حامل، قال دون وعي:
- مني؟
ولأول مرة يراها غاضبة، فقد سحبت حقيبتها بسرعة وغادرت المقهى دون أن تلتفت وراءها. لم ينجب من زوجته، ولم يرَ أي أهمية لذلك، اما الآن فقد وجد نفسه وقد وُضع أمام الأمر الواقع.
- إثبات أبوتي ليس صعباً ففحص البصمة الوراثية سيكشف الحقيقة..وإن كانت روزا لن تجد صعوبة في تزوير النتيجة فنفوذها كبير.
قال الشرطي الساخر بتهكمه المعهود:
- هل اكتشفت القاتل أيها المحلل الجنائي؟
إنه يكره هذا الشرطي المتنمر، لكنه سيتحمله ولن يقذف بقبضته في وجهه.
- ليس بالشيء الذي يذكر.. الضحايا لا علاقة بينهن، إنهن مختلفات تماماً، إحداهن مؤلفة مسرحيات، والثانية موسيقية، والثالثة شاعرة أما الرابعة فخبيرة تحليل سياسي.
صفر الشرطي وقال:
- مثقفات جميعهن..
تجمد وجه الجبري وقال:
- مثقفات جميعهن؟
فتح حاسوبه وبدأ في البحث عن حياة النسوة العملية، كن جميعهن قد ألفن كتباً حتى تلك الموسيقية كانت قد ألفت كتاباً عن الموسيقى.
عاد وتتبع مسيرتهن التعليمية، ولم يجد أي رابط، فكل واحدة تخرجت من جامعة مختلفة. ثم تذكر أنهن بالتالي يتشاركن مستوى الدراسة الجامعية نفسه.
- ماذا تفعل؟
سأله الشرطي لكنه اكتفى بالنهوض وتأمل الخريطة مرة أخرى، ثم استخدم القلم الملون لرسم خطوط تصل بين مسارح الجرائم. فوجد شكلاً شبه دائري أو شبه مربع. قام برسم خطوط تصل بين كل مسرح جريمة وآخر، فوجد تقاطعا مركزياً. لمعت عيناه وهمس:
- هنا يقطن الجاني. في المحلية الوسطى.
قال ذلك وداهمه تعب مفاجئ. فنظر إلى ساعته وقرر مغادرة المكتب.
وعند الباب سمع صوت الشرطي يقول:
- ستكشف الجريمة من داخل مكتبك.. كم أنتم عباقرة أيها المحللون الجنائيون.
رد عليه باقتضاب:
- لا أحد يعرف حدود طاقة العقل البشري.
ثم غادر، وقهقهات الشرطي وراءه تختلط بكلماته:
- المحقق كونان..هاهاها..
قالت روزا وهي تعيد ربط خمارها حول رقبتها، ثم ترتدي نظارة شمسية ذات إطار بيضاوي واسع:
- لا تجعله يحبطك يا كونان..
قال بحزن:
- حتى أنتِ..
ضحكت وهي تقول:
- إنه عمل ممل.. ثم أنك تعمل وحدك وبأدوات بدائية..
قال:
- لا زالت الوحدة جديدة.. هل يمكنني أن اطلب منكِ طلباً..
قادت السيارة ببطء وهي تنظر إلى الأمام..فأضاف:
- على أن لا تفهميني فهماً خاطئاً..
قالت:
- فحص الحمض النووي؟ موافقة..
- بدون تأثير؟
قهقهت بسعادة:
- هل تظن بأنني نافذة إلى هذه الدرجة؟..
وحين فتح باب شقته اشتم رائحة الطعام، ورأى ظهر زوجته داخل الحمام مفتوح الباب وهي تقف أمام الغسالة، ثم قالت بدون أن تدير جسدها لتواجهه:
- ألن يزيدوا مرتبك لتشتري لنا غسالة فُل أوتوماتيك..
ودون أن تنتظر إجابة قالت:
- طعامك فوق البوتوجاز..
لم يكن جائعاً بل محتاجاً للنوم العميق..
- سيكون لي ولد يا درية..
اتسعت عينا درية بفزع ثم تجهم وجهها وبدأت تبكي:
- فعلتها..فعلتها وتزوجت في السر..
كان بكاؤها مخيفاً فغادر الغرفة، ونام بعيداً عنها. كان الصمت يلف الصالة، غير أن صوت أنات زوجته كانت تنفذ من بين الجدران بين الحين والآخر فتؤلم قلبه.
- إنهن أربع قتيلات جمعتهن الثقافة..
قال لرئيس القسم وهو يشرح لباقي الشرطيين.
- هناك نظرية تسمى بكيس الفحم، حيث أنك إذا رفعت كيس الفحم من مكانه ستجد مكان قاعدته غير ملوث أما حواف القاعدة فملوثة..فالمجرم أيضاً لا يرتكب الجريمة في مكان إقامته، وبتكامل هذه النظرية مع نظرية رحلة الغراب يمكننا أن نحدد دائرة إقامة الجاني..فرحلة الجاني دائماً لا تكون بعيدة عن ملاذه الأصلي وهكذا نستطيع أن نقوم بتقدير مسافة الملاذ بقليل من الحسابات الرياضية لتضييق دائرة البحث..فليس الغرض من التحليل الجنائي هو معرفة هوية الجاني بل محاولة التعرف على ملامح من شخصيته ومكانه، وفقاً للنمط الجنائي الذي نحصل عليه من تحليل البيانات وسنعرف أن الجاني لا يحب النساء المتعلمات..ربما بسبب عقدة نفسية نتجت عن زواج فاشل أو حب قديم..هكذا نستطيع أن نتوقع بأن المجرم ليس متعلماً، كما نستطيع أن نتنبأ بميعاد اقترافه للجريمة التالية ومحيطها..فالجاني يقترف جرائمه مساءً في الساعة السابعة أو العاشرة..مع ذلك فكل هذه المعلومات غير مكتملة حتى الآن ولا يمكن التعويل عليها لأنها تحتاج إلى مزيد من الجهد..
قال الشرطي المتنمر:
- إذاً؛ سننتظر الجريمة التالية..
ثم قهقه. لكن نظرة حقودة من عين الجبري ألجمته وتوتر المناخ في مكتب رئيس القسم..فقال هذا الأخير:
- إنها محاولات مهمة جداً.. سنكثف دورياتها منذ السادسة وحتى العاشرة مساءً..ونبدأ في جمع معلومات إضافية عن سكان المنطقة التي يقطنها المجرم المُحتمل...
منذ تسع سنوات لم يفكر في إقامة علاقة عاطفية حقيقية..لقد اقتحمته روزا بعد لقاء تصادفي لم يعد يتذكره، لقد احتوته بشكل كامل. لذلك كان عليه أن يتصل بها. لكنها لم ترد على هاتفه..أعاد الإتصال بها مرات ومرات لكنها لم ترد أيضاً.. نظر إلى الساعة المعلقة على مكتبه المنزلي فوجدها التاسعة مساءً.
- حذرتها من الخروج مساءً مع وجود هذا القاتل المتسلسل..
قالها بغضب وتذكر أنها أجابته:
- إنه يقتل المثقفات..
- أنتِ متعلمة أيضاً..
- لكنني لست مثقفة..لقد كان زوجي المرحوم غنياً فلم أهتم بشيء سوى الاستمتاع بالحياة حتى بعد موته وما نلته من نصيبي في الميراث.. إن لجوء المرء إلى التثقف مجرد علاج لجرح عميق..وأنا لست مصابة بهذا الجرح..
- ما كان القاتل المتسلسل ليصاب بكل هذا الجنون لو أنه تزوجك..
- ربما كان حينها سيقتل غير المثقفات وهن الغالبية..
قهقهت وانطفأت الذكرى.
ثلاثة ايام مضت دون اتصال منها، شقتها مغلقة، وهاتفها أيضاً صار مغلقاً..
كان الخريف قد بدأ يطل بسمائه الرمادية، مظللاً سيارة الجبري التي تتحرك بهدوء في عقبة الجبال. الأرض من تحته بعيدة وقد تقزمت منازلها وتحول القليل من البشر إلى نقاط كما في خريطة الدبابيس. لقد علم أن روزا قد انتقلت إلى ولاية أخرى في الشرق وقطعت علاقتها به دون أن تتصل به لتخبره بذلك. غير أنه لن يترك لها الحبل على الغارب، ففي بطنها ابنه، وعليها أن تفهم ذلك. لقد تغير كل شيء بعد هذا الحمل.
- إنني لا أعرف ما يدور في عقل النساء.. حاولت وفشلت..
كانا يجلسان على أريكة أسمنتية راسخة في مواجهة البحر..
- ستفهمهُنّ لو كنت عاطفياً..إنك لم تحبني أبداً..
تأمل البحر وقال:
- قبل الحمل لم تهتمي بمسألة الحب هذه..
التفتت إليه وقالت بشراسة:
- لأن الحمل يتطلب مني أن أهتم بهذه التي تسميها مسألة.. إنك تستحقر المشاعر.. إنك لا تعرف ما هو الحب..
قال بنبرة باردة:
- لم تكن لدي علاقة سابقة..حتى زوجتي تزوجتها بطريقة تقليدية..إنها سيدة طيبة..
قالت:
- حتى الذين لم تكن لديهم علاقات حب سابقة، يشعرون بأنهم فقدوا حباً ما، وإن كان غير محددٍ كما لدى الباقين. وربما يكون ذلك أكثر إيلاماً، لأنهم بشر.. فهل مررت بهذا الإحساس من قبل..
ظل صامتاً فأضافت:
- لقد أحببتك ومع ذلك اتهمتني..
قال بسرعة:
- لم أتهمك..
- بل اتهمتني..
- مجرد شك..
- وهل تظن بأنني كنت لأخشاك لو أردت فعل ذلك؟ هل كان بيننا رابط يدعوني إلى الخوف منك لأظل في علاقة مزيفة معك؟
قال ساخراً:
- المحقق كونان..
- ليس هذا وقت السخرية..
قال:
- وقت ماذا إذاً؟
- وقت الحديث بصراحة..هل تحبني؟
بقى صامتاً.. فنهضت وقالت:
- وداعاً إذاً..
قال بتردد:
- والطفل؟
قالت:
- ليس ابنك..
كان الغروب يزحف كالجيوش البربرية على السماء، وبعض قطرات المطر هبطت ونقرت جبهته، غير أنه لم يحاول مسحها. ظل جالساً على الأريكة الاسمنتية..وذاكرته غائبة في الماضي..أول حب وأوَّل ألم خيانة شعر به... كانت شاعرة مزيفة.. تكتب القصائد الرومانسية لكنها أبداً لم تكن كذلك..وحين تعزف على البيانو كانت الدموع تقطر من عينيها، فتضحك وتلقي نكتة ساخرة، ثم تقول:
- إنني ممثلة مسرحية بارعة..كنت وأنا طفلة أتعمد تمثيل البكاء..ولما كبرت مثلت في المسرح..إنني فنانة شاملة..
كان يقول لها وقلبه يرتجف:
- لكنك لا تعرفين الحب أبداً..
فتضحك وتقول:
- إنني امرأة تملك عقلاً يغلب على سذاجة القلب..
- وأنا؟
- أنت شاب طيب..لكنك ستعاني في حياتك من سخرية الآخرين إن لم تضغط على قلبك الصغير...
قفذت إلى مخيلته صورة الشرطي فعاد ليتأمل البحر بصمت، كان هناك سؤال وحيد لم يجد الإجابة عليه:
- لماذا قتلتُ المحللة السياسية؟..
لقد حاول أن يخفي الإجابة عن عقله.. لكنها كانت تلح على التجلي أمام بصره..لقد كانت تشبهها..تشبهها تماماً...
(تمت)