محمد السلاموني - المنظور الجديد للتاريخ

كلنا نعرف أن التاريخ يتكون من تعاقب أحداث كبرى وفق نوع معين من الإنتظامات...
لكن هناك نظرية أخرى تذهب إلى العكس من هذا التَّصَوُّر الشهير .
وتتلخص الفكرة فى أن التصور القديم الذى يقول بخضوع حركة التاريخ لإنتظامات من نوع ما
، يتأسس على الفرضية القائلة بـ [خضوع العلامة لمجموعة من القواعد التى تقتسم الذوات الإجتماعية دلالتها] .
وهو ما يعنى أن حركة التاريخ تنبثق من "الإتفاقات الدلالية المجتمعية"؛ فـ [فالذوات الإجتماعية تمتثل لقواعد مشتركة، ويطبقونها دون أن تكون لهم بالضرورة القدرة على تمثلها]؛ [فالإحترام المتبادل للقواعد يعنى وجود هوية دلالية- كما يذهب فيتجنيشتين] .
وهو ما يعنى أيضا أن كل ما نفعله لا يخرج بحال من الأحوال عما أمكن لنا أن تُجمِع عليه من اتفاقات وضوابط وقواعد؛"فالسلوك الذى له معنى يؤول إلى المرجعيات المعترف بها إجتماعيا" .
من هنا فالثورة- على سبيل المثال- كـ "علامة تاريخية" ذات دلالة محددة، وعلى الرغم من أنها تعد انقلابا على النظام القائم، إلاّ إن دلالتها تلك لا تخرج عن أفق التوقعات الإجتماعية؛ إنها سلوك أو فعل يرتبط بالتمثلات المجتمعية عن حركة التاريخ .
وتعد النظرية الهيجلية عن التاريخ الساعى لاكتماله إحدى تجليات تلك النظرية .
النظرية الجديدة، المعاكسة، تذهب إلى أن التاريخ يحدث بواسطة نوع من الهروب من تلك الإنتظامات؛ فالحريات الفردية تلعب دورا كبيرا فى مجال استخدام العلامة؛ ذلك الدور يرتكز على "خرق المرجعيات الإجتماعية المشتركة الحاكمة لاستخدامات العلامة"...
فالمرجع المشترك لا يحيل إلى نفسه تلقائيا، وليس هنالك ما يحتِّم تلك الإحالة، بل ويذهبون إلى أن خرق القواعد المرجعية، والإنقلاب عليها هو الشرط اللازم لوجود تلك القواعد .
والفكرة هنا ترتكز على "قابلية القاعدة للنقد والنقض"، مما يجعل من القاعدة المشتركة قاعدة إفتراضية بالضرورة .
ويقولون: [إن مجال استخدام العلامة هو مجال "اللعب" الذى يتمثَّل فيه المرء إدراكاته ورغباته وتوفعاته... هذه القدرات المعرفية تفتح لنا فضاء لعب مقصود وإنعكاسى.] .
[العلامة "المندمجة فى الجسد" مثلا، إلى جانب إظهارها لحالات داخلية خفية على الآخر "وفى هذا يشترك الإنسان والحيوان فى إنتاجها" إلا إنها لدى البشر تقترن بقدرات ما وراء تمثيلية؛ أى بالقدرة على تمثل التمثُّلات، وتزداد هذه القدرة تعقيدا مع تقدم السن "فهى تمر بعدة مراحل مع تقدم السن" وعند بلوغ سن التاسعة، تصبح العلاقة القائمة بين الدال والمدلول محور أول فضاء للعب الحر والإستراتيجى بالعلاقات الموجودة بين الداخل والخارج...].
ما يذهب إليه هؤلاء، يعود إلى أن [التواصل يعنى القول وعدم القول فى آن واحد. فالدلالة نفسها تنبثق فى النقطة التى يتقاطع فيها ما قيل وما لم يُقَل].
هذا الخاصية نعثر عليها فى اللغة نفسها، فهى تقول بقدر ما تخفى؛ فالمنطوق "السماء زرقاء"
يقتضى كل ألوان قوس قزح دون ذكرها، وتقييم مصداقيته يستحضر بشكل مفترض كل درجات قابليته الممكنة للخطأ.
وهو ما يعنى أن علاقة العلامة بالمرجع تتميز بالإعتباطية...
وهذا ما يطلقون عليه "الثورة الرمزية".
تلك الثورة- أى القطيعة المعممة الإفتراضية، هى التى تجعلنا نتَقَبَّل وجود البناء المتخَيَّل للواقع- إذ تسمح بانفصال الواقع الذى يُتَّخذ على أنه واقع حقيقى "إمكانية الكذب" .
فإنطلاقا من حرية الإختيار المفترضة ما بين استعمال العلامة واستعمال المرجع تصبح السرود الخيالية ممكنة "بل ويمكن القول إنها أكاذيب تطمح إلى أن تكون حقائق" .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى