د. سامي عبد العال - صوت المقدس

جرت التقاليد اللغوية الشفاهية أنَّه عندما( نُعبر صوتياً ) عن شيءٍ ما سرعان ما تحمل التعبيراتُ موضوعها حيّاً. تنقله من شخصٍ إلى آخر كأنَّها مُعبَّأة بأنفاس ساخنة هي" الحضور الحي" لمعناه. بدليل أننا عندما نسمعُ الكلام إجمالاً، فإنه يرتبط بحالة ( النَفْسِ والأنفاس) بين المتكلم والمتلقي مباشرة. مما يشي بالإعتقاد في وجود( نَفْس واحدةٍ ) هي التي تضمن نقل المعاني والآثار المرتبة عليها بين الأشخاص. لدرجة قول بعض الاتجاهات الدينية إنَّ النصوص والتربية والتعاليم وأصول المعارف حيث لا يتلقاها مُريدٌ عن شيخٍ لا قيمة لها، وإنه شرطٌ لتعلم الدين ضرورة وجود شيخ لكل متعلم، بل شيخ لكل مواطن في الثقافة الشعبية.

وهذا في حد ذاته كان سبباً كافياً لتنصيب الفقهاء وأصحاب الحناجر العالية والخُطباء ومنتجي الصوتيات الدينية أنفسهم رموزاً للتحدث في جميع القضايا. وكانت الأصوات الوعظية بالأمس القريب تملأ الساحات والحدائق والمقاهي والسيارات رافعة كلماتها فوق أسنة الحماس وإلهاب العواطف. وربما هو ذاته السبب وراء كثرة أدعياء التدين طالما يحفظون أحاديث ونصوصاً ومقولات مؤصلّة عن آخرين. وكان أبرز الآثار الجانبية أيضاً تضخُم الخطابة واللحن في الكلام الديني سواء بالخُطب المنبرية والإلقاء أم بقراءات النصوص الأساسية (القرآن والسنة). وأدي إلى ظهور طبقات من القُراء من أصحاب الأصوات والنغمات المختلفة، إذ كان لهم أساليب النطق المميزة وإطلاق الأصوات الخاصة لتلاوة وترتيل الآيات القرآنية.

انتشرت الثنائيات الشفاهية في الثقافة العربية المعاصرة بتباين مجالاتها. مثل الصوت/ الصمت، الكلام / الكتابة، الحقيقية/ الكذب، اليقين/ الزيف، الحضور/ الغياب، الفرع/ الأصل، القارئ/ المستمع. إنَّها تاريخ الاستقطاب العنيف بين( سلطة الصوت المتعال والآذان المتلقية) دون نقاش ولا مراجعة. ليس فقط في مضمار الدين ونصوصه بل كان الاستقاط سمة عامة ويعبر عن مشكلات عقلية وثقافية أعمق، حيث غطى الصوت مساحات شاسعةً من السياسة والصراعات وجوانب المجتمع والأفعال العامة. فليس الصوت كصوت ضائع في البرية لم يستجب له أحدٌ. لكنه صوت مجسّم وضخم stereographic يجثم فوق الوعي ويحمل اكراهاته الخاصة، بفضل كونه قد تشكل في أنظمةٍ ماديةٍ. وبفضل أنه حفر ثغرة في الوعي لاستمرارية الشفاهية كمعيار للحقيقة وتشكيل الأفكار.

وبات مما لا يُستغنّى عنه لصحةِ الاعتقاد: هذا التلقي المباشر من سالفٍ إلى تابع ومن تابع إلى تابع التابع. بصرف النظر عن المراجعة والنقد والاختلاف الجذري بين العصور والأزمنة. وتكاد الخلفية تحمل جوهر معارف الدين وكيف تواصل مسيرتها عبر التاريخ الممتد. وفي حالة غياب أطرافها سرعان ما تخلق العملية أطرافاً بالزخم نفسه، حيث لحقت تلك السمات الشفاهية بمفاهيم العقلانية والبرهان والجدل والحوار والحجاج إجمالاً. ولم يكن ممكناً النظر إليها من زواياً أخرى، لأنَّ الصوت له إمتياز حي في الثقافة الغالبة التي تؤكد كل شيء.

إن هذا هو ما يتركه أثر المقدس عادةً حينما يفرّخ ظلالاً له. والتفريخ يلتحم بإنتاج اللغة لذاتها كوسيطٍ غير مباشر وكوجودٍ شاحن للذهنيات عبر التفكر والتواصل الجمعي على نطاقٍ واسع. إن ما يفعله صوت المقدس هو التالي: يترك أصداءه في تضاعيف المقولات والتعبيرات المتداولة بحكم وحدة الوعي. إذ قد لا يلتفت الإنسان إلى ماهيته في غيره من الأشكال التالية، وبالوقت ذاته سيعبر الصوت عما سيأتي تباعاً نظراً لبقاء الأثر إلى فترات طويلة. واتيان أثر المقدس – بواسطة التصورات- له وجهان. أحدهما: إعادة تكوين المفاهيم على شاكلته بطريقة غير مباشرة كما يحدث في عمليات التفكير العام وفي مجال التواصل بين الناس. أمَّا الوجه الآخر، فيصعب تجنب نماذجه الثقافية البعيدة بسهولة، ولذلك يحتاج إلى وعي ناقد متواصل بما يتركه.

وعملية الحضور السابقة للصوت تجري باعتقاد أنَّ المعاني واحدة. كما أنها تحمل ايقاع التفكير الأصلي حول قضيةٍ ما. وليست الفكرة وراء ذلك ضرباً من المصادفة، لكنها تخترق كافة الخطابات الدينية والبلاغية والأدبية والفكرية وحتى العلمية. هذا السبق المرجعي لنقل الحقيقة كما هي شفاهية وموصولةِ اليقين المباشر، يغدو بمثابة الأولوية لسلطة الحقيقة، بينما هي في مضمونها يجب أن تكون" معكوسة". أي هي أولوية ستمثل حقيقية السلطة الرائجة الآن نظراً لتمكنها من الحاضر والواقع.

ولذلك ستصبح تلك السلطة الشفاهية( الصوتية) نوع من غلق الباب أمام أي نظر وتأمل حولها مهما يكن وأنَّ كل ضربٍ من ضروبها إنما هو الموت الفعلي لعملية البحث عنها. نتيجة اعتبارها كاملة الانجار وتنطوي على ما يجعلها فوق مستوى النقد، فالحقيقة عندئذ مجرد جثة مقدمة سلفاً. وأنها لا تخضع لعمليات الانكشاف والتدقيق، لكنها جاهزة التكوين والتقديم فقط. وليس لمتلقٍ أن يعترض ولا أن يُعْمِل فكره أبعد مما يرى، بل عليه أن يأخذها كما هي إلى نهاية المدى.

إذ يتعلق بذهنية المتلقي (القارئ) أنه طالما يتلو – هذا النحت اللغوي العربي- حروفاً مصوتة، فإنه يتلو معها أنفاساً دلالية من مصدر أعلى دون وسيط. ولا يستطيع ايقافاً للمعنى ولا مراجعة له. ولذلك، فعليه أن يتقبلها على نحو انفعالي- حماسي كما في السياسة والاجتماع والمعرفة. وليصبح القُرَّاء منحوتات خشبية لا حول لهم ولا قوة غير السمع والطاعة. تلك هي الفكرة المؤسسة التي كانت بمثابة الأمر الأول للسلطة الدينية ولغيرها من السلطات المتعاقبة في تلريخ المجتمعات العربية باسم المقدس. " اسمعوا وعوا واطيعوا "... مقولة كانت عصا الإيمان بالغيبيات الدينية ثم تحولت إلى عصا السياسة والاجتماع. حيث ظلت تهوي على رأس المتلقي، فيخضع لقول القائل دون حراك، رغم أنه لا يُحصر في مجال الدين بالضرورة. ومع اعتبار الكلام كلاماً بشرياً فوق المنابر وفي المحافل ومع الوعظ والارشاد، غير أنها آلية خضعت لها الطوائف والمذاهب الدينية في جغرافيا العالم الاسلامي لا العربي فقط.

وهذا ما جعل المناخ الفكري لدينا ملبداً بغلبة التقليد والاحتذاء، من جيل إلى جيلٍّ ومن طائفةٍ إلى طائفةٍ ومن جماعةٍ إلى جماعةٍ ومن تنظيمٍ إلى تنظيمٍ ومن مذهبٍ إلى مذهبٍ ومن فقهاء إلى فقهاءٍ ومن أفراد إلى أفراد على التوالي ومن أنظمة حامنة إلى انظمة أخرى. العبارات نفسها كما يرددها الشيوخ يرددها الأدباء والباحثون والكتاب والساسة على اختلاف ألوانهم. فهم على تباين أفكارهم يعتبرون اللغة هبة ميتافيزيقية metaphysical gift تحتاج طاعة وتدبيج خارج قدرة الإنسان على انتاج الدلالة.

في الثقافة الإسلامية رسَّخ مفهومُ الوحي هكذا نموذجاً لغوياً فكرياً بعينه في غير مجاله، حتى كانت تجربته الأصلية فوق مستوى الحس البشري. و يمكن التأكيد على أن الوحي كذلك من جهة المصدر الإلهي. ولكن فيما هو إنساني على منواله، فلم تتلاش تجربته بسهولة، كما يحدث مع تجارب أدبية ابداعية خطها- على سبيل المثال- الجاحظ وأبو العلاء المعري وابن المقفع. فهؤلاء اهملت نصوصهم الأدبية لصالح ما قالوه هنا أو هناك بشأن قضايا الاعتزال والسياسة والدين والزهد. إن تجربة الوحي نتيجة تأثيرها العظيم في الذهنية الثقافية قد وضعت كل محتويات اللغة العربية( دون تفرقة ولا تمييز) في سلة التعبير المباشر عن الفكر. كأن المعنى مهوما يكن مطلقاً أو غيره هو الأساس وليس اللفظ القابل للتأويل التعددي. فكانت أقرب النتائج الخطيرة: هي مصادرة القراءة المبتكرة لأي موضوع فكري. وتم التحام النصوص بالمقدسات على أنها الخميرة الإلهية المنتشرة في كافة الدقيق بلغة المسيحية. فجاءت الألفاظ المعبرة عن التقديس، التأليه، التبجيل بمثابة الخلفية المؤسسة لمفاهيم اللغة.

والدليل على هذا هو تلك الألفاظ المرسومة في بداية النصوص ومقدمات الرسائل ومفتتح الخطابات العامة. ألفاظ تتعلق بالحمد للخالق أولاً والثناء على الأسلاف والأولياء والحكام والمسئولين ورجال العلم وأقطاب الفكر (الخلط بين التوحيد والوثنية). حتى وإنْ كان الموضوع المتحدث عنه علمياً صرفاً كالطب والهندسة وكتب الأعشاب النباتية والجغرافيا والهندسة. وهذا يفترض الوقوف عند الحدود القصوى لنهايات التفكير للإمساك بكيفية نفاذ المعاني هنا أو هناك.

ولم نذهب بعيداً ففي كتابه" فقه اللغة وسر العربية"، يقول أبو منصور الثعالبي الملقب بإمام اللغة: "من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ومن أحبَّ الرسول العربي أحبَّ العرب، ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحبَّ العربية عُنيَ بها، وثابر عليها، وصرف همَّته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حُسن سريرة فيه، اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقُه في الدين وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب، كالينبوع للماء والزند للنار. ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر في جلائها ودقائقها، إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة، لبتي هي عمدة الإيمان، لكفى بهما فضلا يَحْسُنُ فيهما أثره، ويطيب في الدارين ثمره، فكيف وأيسر ما خصَّها الله عزَّ وجلَّ به من ضروب الممادح يُكِلُّ أقلام الكتبة ويتعب أنامل الحسبة".

أولاً: يتحدث الثعالبي -كما لا يُفترض- بمنطق الفقهاء عن اللغة. ومماثلة كتابه بالفقه لا يختلف عما ينذره رجال الدين من نصوص لخدمة أهدافهم. فاللغة هي اللغة المعجونة بمداد التاريخ ودلالات الثقافة لا تعبأ بالقداسة لكونها قابلة للتطور والتغير. حتى وإن كانت مقدسة الأصل –على حد الاعتبار المشار إليه- فإنها ستقطع الحبل السري بالمعجم الديني طالما في عالم التداول والاستعمال البشري.

ثانياً: لم يبدأ الثعالبي بنظام اللغة كمُنتج لقوتها وأهميتها على خريطة اللغات. لكنه وضعها مباشرة على طريق المقدس بعيداً عن إضافة أصحابها. فالحب- مع أنه مستوى آخر- هو المؤدي إلى المقدس، ومن ثم سيؤدي إلي اللغة في نهاية المطاف. كما أن الحب هو الرابط بين الله واللغة مروراً بالرسول والرسالة والمؤمنين والتابعين. ولكن هل الملحدون لا علاقة لهم باللغة العربية ولا بأسرارها؟! هل لا يتقنونها فكراً وإبداعاً؟ هل لا حق لهم في الاسهام في اللغة؟ الغريب أن الثقافة الاسلامية قد اسهم فيها من لم يؤمن بالإسلام أصلاً كالمسيحيين واليهود وبعض أصحاب الأديان الوضعية. يبدو كلام الثعالبي عنيفاً إلى درجة إقصاء غير المسلمين من التكلم وفهم اللغة العربية.

ثالثاً: اللغة ظاهرة هامشية على جسم المقدسات وتصوصها. هي مجرد زائدة عن الحاجة. وكونها مرتبطة بكلمة فقه فلا تختلف عما يعتري المقدس من أعراض جانبية لنسغ أساسي يمتد داخل السماء. وعلى التوالي: الله – الرسول- القرآن العربي- اللغة العربية- العرب المؤمنون. وكأن اللغة العربية كظاهرة إنسانية توقيفية بالتراتب الديني الثقافي التاريخي. وهذا التسلسل الأنطوثيولوجي onto-theology باصطلاح مارتن هيدجر عن الميتافيزيقا الغربية يصح حيال مفاهيم اللغة العربية والتعامل معها.

رابعاً: اللغة معبرة عن تراتب عرقي- لاهوتي أيضاً. حيث أن معنى الله لدى المسلمين أعلى من جميع الأشكال الأخرى لمن يؤمنون به في الأديان. وهكذا كتاب القرآن أفضل من الكتب السماوية الأخرى. وأمة العرب أفضل الأمم وأعلاهم كعباً وسبقاً. وأنها الأمة المختارة من قبل الله لتكن خير أمة أخرجت للناس. وإذا كان القرآن عربياً فالعربية ( الحرف والمعجم والجينات) خارج المقارنة مع اللغات الأخرى. إنها حروف تساوي بل تختلط بالجينات ذاتها. هندسة اللغة العربية هي الهندسة الجينية للعرب تحديداً، ومن ثمَّ تصبح أمة متمركزة حول عرقها الخالص النقي. وكأنَّ اللغة حكراً عليهم وحدهم وكأنهم مخلوقون في المقابل للغة وأنَّ الاسلام مقصور عليهم مع أن هذين الزعمين ضد مقاصد الشريعة الإسلامية بالأساس.

خامساً: يتحدث الثعالبي عن اللغة بنبرة أخلاقية زاعقة. فاللغة العربية – من وجهة نظره- خير اللغات والحروف والمعاني. واللسان العربي نطقاً أفضل الألسن. وهذه النبرة الأخلاقية ليس لها علاقة باللغة كنظام للدلالة. فهل هي استوعبت التجارب الإنسانية بشكل دال أم لا؟ كيف أحدثت تطوراً في التفكير؟ وهل اللغة قادرة على مواكبة التغيرات الجارية أم غير ذلك؟ تلك أسئلة لا يتطرق إليها الثعالبي إلا شذراً. حاملاً إياها على الامتياز اللغوي للغة لا تأخذ مكانتها إلا بحسب معايير مغايرة تماماً.

سادساً: اعتبر الثعالب أن اللغة العربية خادمة للدين بالضرورة. لأنها أقرب للإيمان وزيادة اليقين بالإسلام من سواها. والمدهش في هذا الكلام هو تحويل اللغة من دلالات قابلة للتعدد والاختلاف إلى أيديولوجيا قُّح. وبالتالي تصبح اللغة العربية سوقاً خاصاً- إن صح التعبير- لأغراض المقدسات بجميع أنماطها. وهذا وراء جعل اللغة العربية لاهوتاً معجمياً ويصعب عليها أن تتطور معع الاتجاهات المعاصرة. لا لشيء وإلاّ لأنها تحتفظ بقداسة(مناعة) ذاتيه ضد تحولات المعرفة وأن أصحابها يعتبرونها توقيفية ولا يجب الاقتراب من تطوير مناهجها وكشف متغيراتها.

لقد أصبح صراع المقدس داخل اللغة مع كل النقائض التي يخشاها. يوضح ابن تيمية جذر المسألة: " ما زال السلف يكرهون تغييرَ شعائرِ العربِ حتى في المعاملات، وهو التكلُّم بغير العربية إلاّ لحاجة، كما نصَّ على ذلك مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك : مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه. مع أنّ سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوّغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام".

إذن ليست اللغة لغةً في نهاية الأمر بل حافظة، ناقلة لما هو خارج التاريخ في متون التاريخ وتحولاته. وأن طريقاً لاعتبار الدين متفرداً مع نفسه هو أن تغدو اللغة قوالب مصوغة سلفاً قبل خلفٍ. وأن هؤلاء المؤيدين لتقاليد وحيوات ورؤى العرب للكون والعالم هم أنفسهم المؤيدون للتصديق على شعائر الدين والعكس. وكأن المطابقة- هوياً- بين الدين واللغة مسألة اعتقاد صارم لا فكاك منه. وينبغي علينا في عملية التعبير تتبع هذه الآثار غير اللغوية حتى نفهم أهميتها. يحدد ابن تيميه أيضاً: وليس أثر اعتياد اللغة الفصحى مقصوراً على اللسان، بل يتعمق حتى يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قوياً بيِّناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق". بالتأكيد لا يقصد ابن تيمية اللغة لذاتها، إنما يخاطب الهوية العميقة من خلال الوحدة الأولى بين اللفظ والمقدس.

أنه التصور اللاهوتي- الوجودي للغة العربية، فلن تكون ظاهرة مستقلة بحال. ترتهن ببداية مطلقة( رغم أنها تعود إلى البيئة)، نقطة لا سابق لها بتاتاً. فهي لغة السماء وأيضاً لغة الامتياز الحضوري للمعاني الإلهة في العالم. ولهذا يراها أبو نصر الفارابي- بتعميد فلسفي- لغة الأخرة: بأنها من كلام أهل الجنّة، وهو الكلام المنزّه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلّى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً".

هكذا يربطها الفارابي بغاية أخروية حتى يكون هناك اتصال متفرد بين الصوت والحرف ونهاية التاريخ. وكأنه يقول إن الامتياز العرقي الذي يميزها سيستمر إلى كل غاية قصوى. وأنها فوق ذلك تمثل ظاهرة مؤقتة، عابرة كحال الدنيا. وكلامه – الذي يفترض أن يكون فلسفياً- إنما هو في الحقيقة دجما دينية. وبفضل أسبقية المعنى المقدس فإن نقط التبادل هنا بين الفلسفي والديني تتم ببلاغة الايمان. ولهذا فإن جميع الجوانب الفلسفية لخطابات المفكرين العرب تغرق في مرحلة أو أخرى داخل الدين. إن غياب التفلسف في الثقافة العربية بمعناه الحقيقي يرجع إلى انعدام الوعي بالمقدس وآثاره. وه انعدام بمفهوم الايمان الديني المطلق الذي يحجب أي شيء سواه حتى انكاره. وأن نقد آثاره في غير موضعها لن تتم بشكل كامل.

هنا اللغة ستكمل مسيرتها رغم التحامها بأصداء المقدس. فهل حضوره الحي سيواصل دفقاته؟

إجمالاً فإن أنظمة اللغة( الدلالية والتكوينية والاستعمالية) تنطوي على تناقضات داخلية كثيرة. وهي التناقضات التي تمثل دافعاً إلى التطور والتغير من مرحلة لأخرى، ويصعب أن تصل أية لغة وليست العربية فقط إلى نظام كامل لدرجة الإطلاق. حتى الصوت الحاضر فيها باسم التقديس هو ما لا يجعلها تقول دائما ما تريد قوله، لأن المقدس لا يملكه البشر ولا الكلام، بل هو قائم على عملية التغييب، أي يحضر بصيغة الغائب ضمن التعبيرات وتداولها.

ومن ثم فإن اللغة ستُغيب ما يظن الناس استحضاره على الأصالة. وهذه هي طبيعة اللغة لأنها كلمات وأصوات لا أصول بعينها، وهي في ذات الآن الذي تسمح بالتقاط أنفاس ميتافيزيقية للمعتقدات ستخضتعها لقوانين الصياغة والفهم البشريين. إنها تؤرخها كحادثة تتعدد، تختلف، تتأول، تتشذر، تتناثر على امتداد مساحة الوعي الجاري. وعلى المدى البعيد تشكل اللغة حجاباً كثيفاً لكل المعاني المنفصلة عنها. كيف سيظل المقدس مقدّساً رغم تقطيع أوصال المعنى المراد تقديسه؟ فليس ما أفهمه هو نفسه ما يفهمه سواي. وليس ما نفهمه سوياً عين ما يفهمه الآخرون في سياق آخر!!

إنَّ الألفاظ أجداث تحتاج إلى تنقيب في حواشيها باستمرار. هي تتطلب بعثاً جديداً كلما تسرطنت بالدجمائيات. وبمقدار تعدد جوانبها بمقدار ما تعتبر لغة. ويستحيل أن يستقر ما يوضع فيها بشكل ثابت. لأنها تنطوي على تبذير لا نهائي لكل احتياطيها من القداسة. هي قريبة الجذر من اللغو. بل تظل مفتوحة ليلاً ونهاراً على الترحال، الضياع، التشتت. وهذه شروط ماهوية تحدد جميع أبنيتها ووحداتها. اللغة مسكونة بالبلبلة، ليس لأن الرب قد بلبل الألسن. لكن لكون الإنسان فيضاً لا يتوقف من الاعتبارات والصور والأحكام والمعارف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى