جئت؟ أم أنني لا أزال حمامة مهاجرة؟ تلك التي تناسلت في غيابها عشرات الحكايات، ولا أحد كلف نفسه وسأل: متى تعود فاطمة؟
لو أنهم سألوا فقط، لو أنهم ترقبوا عودتي ولو على سبيل الفضول، لكان هذا أفرحني قليلا. فأن لا ينتظرك أحد، أقسى بكثير من أن لا يتذكرك.
مشهد القرية لا يزال وفيا لبكارته، وكل شيء ما زال على حاله. البيوت الشاحبة المترامية في غير انتظام، الأفرنة التقليدية خارجها، الحشائش، الشجر المقاوم لقسوة المناخ، والبئر المنزوية التي حفظت الكثير من شغب طفولتي. حتى بيتنا المتهالك لا يزال صامدا، وبابه الحديدي لا يزال يحمل في صدره ثقَب الرصاص القديمة بافتخار كنياشين على صدره. ما زلت أذكر كيف كان جدي يحكي لي بزهو قصة تلك الرصاصات قبل الاستقلال حين كان منخرطا في صفوف المقاومة، مع أنه كان قد أصيب بمرض الزهايمر الذي لم نعرف له اسما وقتها وسلمنا أنه الخرف جاءه قبل الأوان. جدي لم يكن يتذكر شيئا غير ومضات من طفولته، بطولاته زمن المقاومة حين كان صبيا يافعا، وأنا. أنا كنت الوحيدة المتمسكة بذاكرته مع أنني لا أنتمي لماضيه، ربما لأنني انتميت للمستقبل.
يوم مات جدي، لم أبك مثل الكبار. وكنت ألعب بمسبحته وأتساءل لماذا يبكي أبي وكل من بالبيت لنوم جدي. كان عمري سبع سنوات، وكان معنى الموت غير حاضر بعد بداخلي. بعدها بشهور بكيت وأنا أودع أمي المنكسرة العينين وبيتنا وكلبتي لايكا وأتبع أبي الذي حمل بيد رزمتي الصغيرة، وبيد أخرى سنواتي القادمة. قبل أن أخطو معه أول خطوة مرتجفة خارج البيت، سألته: أين جدي؟ لم ينظر لي، كان منشغلا بنهر لايكا التي كانت تنبح بشكل غريب، وقال ببرود أنه مات. يومها فقط أدركت معنى الموت، وبكيت بحرقة على غياب جدي. مرت خمسون سنة على ذلك اليوم، لم أر خلالها القرية مرة واحدة، ولم أر أبي سوى لماما. كنت أعرف أنه يتجاهل رؤيتي عندما يحضر على رأس كل شهر ليأخذ غلتي من مُشغلتي في المدينة، كي لا تسأله عيناي الذابلتان: أين جدي؟
ماتت أمي بسنوات قليلة بعد رحيلي فلم يعد من شيء يغريني بالعودة إلى القرية، وتزوج والدي من امرأة أخرى تملك قطعة أرض بقرية مجاورة. هل تعمد ترك مفتاح البيت مخبئا في موضع نوم لايكا لأنه ترقب عودتي يوما؟ كل من بالبيت كان يعلم أنني كنت أخفي النقود التي كان يغدق علي بها جدي في نفس المكان، وكانت لايكا تحرس أموالي إلى أن يحين يوم السوق الأسبوعي فأشتري بها الحلوى لي ولها. كانت لايكا الكلبة الوحيدة في القرية التي تأكل حلوى الأطفال، وتنتظر بشغف عودتي من السوق وتستقبلني وهي ترفع ذيلها وتحركه نحو اليمين والشمال من الفرح، وكان هذا يملأني فخرا بها بين قريناتي. ألهذا كانت تنبح بشكل غريب يوم رحيلي؟ لعل أمي استمرت في شراء الحلوى لها لأنها أدركت أن هذا سيسعدني عندما أعود، وهأنذا أعود اليوم متأخرة بعد أن لفظتني المدينة. المدن لا تقبل سوى العقول المفكرة أو السواعد الطرية. وأنا .. قَضَم الشقاء طراوتي وزحفتُ مبكرا نحو شيخوختي، ولم يبق للمدينة ما تمصه مني.
أمشي في القرية على غير هدى. الأطفال والصبيان لا يعرفونني، والكبار يصرون على أن أرى شيخوختي في أعينهم لا أكثر. منذ متى كانت القرية باردة؟ أم أن رجوعي المُعْدم من أسقط عليها كل تلك الثلوج في فصل حارق؟ لا أحد من الكبار لديه الوقت ليجيب كيف ماتت صديقتي لايكا، لا أحد يتذكر إن كانت أمي قد دفنت في مقبرة القرية، أم أنها ماتت بعد أن استنزف كل أولئك الأموات مساحة المقبرة ولم تعد صالحة لغير الترحم. ما الذي تغير؟ أم أن القرية اكتسبت ملامح المدينة ورفضتني أيضا؟
أحاول أن أتخفف من ثقل كل هذه التفاصيل وأنا أطلق قدماي المتورمتان بعيدا عن بيوت القرية. يا الله! تغمرني الرحابة بدفئها بعد أن لفظتني البيوت الصغيرة الباردة، أشجار الأرڭان الباسقة تفتح لي أغصانها لتضمني كما كانت تفعل وأنا طفلة أتمسح في ظلها، تعاود معي درس الأمومة دون أن تقف كثيرا عند شعري الرمادي وتشعبات تجاعيدي. تبتسم لي في حنو، فأشْهِرُ من تحت سترتي الحبل الذي خبأته خفية في رزمتي يوم حملني والدي بعيدا عن طفولتي، وأربطه بذراعيها العطوفتين كما كنت أفعل قديما بمساعدة جدي. مثلما وقفتْ كل هذه السنوات صبورة أمام قسوة الطبيعة، لم تتأفف أشجار الأرڭان من وزني الذي راكمته السنين، ولا من بطء حركتي. وهـأنذا تحت ظلالها ضفيرتين صغيرتين تعبقان برائحة الورد والقرنفل، وهأنذا بضع سنوات مُعَلّقة في الهواء. وهاهو ذا جدي خلفي يدفعني برفق فأطلب منه أن يدفع بقوة أكبر ثم أكبر كي أعانق الشمس.
عند الغروب، أهمس في أذنه قبل أن ألوح له بيدي وأنا أبتعد عائدة أدراجي: وحدها أشجار الأرڭان في القرية يا جدي، فهمت أنني بعد كل هذا العمر .. جئت أبحث عن أحلامي!
لو أنهم سألوا فقط، لو أنهم ترقبوا عودتي ولو على سبيل الفضول، لكان هذا أفرحني قليلا. فأن لا ينتظرك أحد، أقسى بكثير من أن لا يتذكرك.
مشهد القرية لا يزال وفيا لبكارته، وكل شيء ما زال على حاله. البيوت الشاحبة المترامية في غير انتظام، الأفرنة التقليدية خارجها، الحشائش، الشجر المقاوم لقسوة المناخ، والبئر المنزوية التي حفظت الكثير من شغب طفولتي. حتى بيتنا المتهالك لا يزال صامدا، وبابه الحديدي لا يزال يحمل في صدره ثقَب الرصاص القديمة بافتخار كنياشين على صدره. ما زلت أذكر كيف كان جدي يحكي لي بزهو قصة تلك الرصاصات قبل الاستقلال حين كان منخرطا في صفوف المقاومة، مع أنه كان قد أصيب بمرض الزهايمر الذي لم نعرف له اسما وقتها وسلمنا أنه الخرف جاءه قبل الأوان. جدي لم يكن يتذكر شيئا غير ومضات من طفولته، بطولاته زمن المقاومة حين كان صبيا يافعا، وأنا. أنا كنت الوحيدة المتمسكة بذاكرته مع أنني لا أنتمي لماضيه، ربما لأنني انتميت للمستقبل.
يوم مات جدي، لم أبك مثل الكبار. وكنت ألعب بمسبحته وأتساءل لماذا يبكي أبي وكل من بالبيت لنوم جدي. كان عمري سبع سنوات، وكان معنى الموت غير حاضر بعد بداخلي. بعدها بشهور بكيت وأنا أودع أمي المنكسرة العينين وبيتنا وكلبتي لايكا وأتبع أبي الذي حمل بيد رزمتي الصغيرة، وبيد أخرى سنواتي القادمة. قبل أن أخطو معه أول خطوة مرتجفة خارج البيت، سألته: أين جدي؟ لم ينظر لي، كان منشغلا بنهر لايكا التي كانت تنبح بشكل غريب، وقال ببرود أنه مات. يومها فقط أدركت معنى الموت، وبكيت بحرقة على غياب جدي. مرت خمسون سنة على ذلك اليوم، لم أر خلالها القرية مرة واحدة، ولم أر أبي سوى لماما. كنت أعرف أنه يتجاهل رؤيتي عندما يحضر على رأس كل شهر ليأخذ غلتي من مُشغلتي في المدينة، كي لا تسأله عيناي الذابلتان: أين جدي؟
ماتت أمي بسنوات قليلة بعد رحيلي فلم يعد من شيء يغريني بالعودة إلى القرية، وتزوج والدي من امرأة أخرى تملك قطعة أرض بقرية مجاورة. هل تعمد ترك مفتاح البيت مخبئا في موضع نوم لايكا لأنه ترقب عودتي يوما؟ كل من بالبيت كان يعلم أنني كنت أخفي النقود التي كان يغدق علي بها جدي في نفس المكان، وكانت لايكا تحرس أموالي إلى أن يحين يوم السوق الأسبوعي فأشتري بها الحلوى لي ولها. كانت لايكا الكلبة الوحيدة في القرية التي تأكل حلوى الأطفال، وتنتظر بشغف عودتي من السوق وتستقبلني وهي ترفع ذيلها وتحركه نحو اليمين والشمال من الفرح، وكان هذا يملأني فخرا بها بين قريناتي. ألهذا كانت تنبح بشكل غريب يوم رحيلي؟ لعل أمي استمرت في شراء الحلوى لها لأنها أدركت أن هذا سيسعدني عندما أعود، وهأنذا أعود اليوم متأخرة بعد أن لفظتني المدينة. المدن لا تقبل سوى العقول المفكرة أو السواعد الطرية. وأنا .. قَضَم الشقاء طراوتي وزحفتُ مبكرا نحو شيخوختي، ولم يبق للمدينة ما تمصه مني.
أمشي في القرية على غير هدى. الأطفال والصبيان لا يعرفونني، والكبار يصرون على أن أرى شيخوختي في أعينهم لا أكثر. منذ متى كانت القرية باردة؟ أم أن رجوعي المُعْدم من أسقط عليها كل تلك الثلوج في فصل حارق؟ لا أحد من الكبار لديه الوقت ليجيب كيف ماتت صديقتي لايكا، لا أحد يتذكر إن كانت أمي قد دفنت في مقبرة القرية، أم أنها ماتت بعد أن استنزف كل أولئك الأموات مساحة المقبرة ولم تعد صالحة لغير الترحم. ما الذي تغير؟ أم أن القرية اكتسبت ملامح المدينة ورفضتني أيضا؟
أحاول أن أتخفف من ثقل كل هذه التفاصيل وأنا أطلق قدماي المتورمتان بعيدا عن بيوت القرية. يا الله! تغمرني الرحابة بدفئها بعد أن لفظتني البيوت الصغيرة الباردة، أشجار الأرڭان الباسقة تفتح لي أغصانها لتضمني كما كانت تفعل وأنا طفلة أتمسح في ظلها، تعاود معي درس الأمومة دون أن تقف كثيرا عند شعري الرمادي وتشعبات تجاعيدي. تبتسم لي في حنو، فأشْهِرُ من تحت سترتي الحبل الذي خبأته خفية في رزمتي يوم حملني والدي بعيدا عن طفولتي، وأربطه بذراعيها العطوفتين كما كنت أفعل قديما بمساعدة جدي. مثلما وقفتْ كل هذه السنوات صبورة أمام قسوة الطبيعة، لم تتأفف أشجار الأرڭان من وزني الذي راكمته السنين، ولا من بطء حركتي. وهـأنذا تحت ظلالها ضفيرتين صغيرتين تعبقان برائحة الورد والقرنفل، وهأنذا بضع سنوات مُعَلّقة في الهواء. وهاهو ذا جدي خلفي يدفعني برفق فأطلب منه أن يدفع بقوة أكبر ثم أكبر كي أعانق الشمس.
عند الغروب، أهمس في أذنه قبل أن ألوح له بيدي وأنا أبتعد عائدة أدراجي: وحدها أشجار الأرڭان في القرية يا جدي، فهمت أنني بعد كل هذا العمر .. جئت أبحث عن أحلامي!