في مقابلة حديثة مع الشاعر الأمريكي بارون وورمسر لمناسبة ترجمة بعض قصائده قام محرران من مجلة ندوة الإلكترونية-سيد جودة وبرجت بونزل - في عدد ديسمبر 2019 بسؤاله عن قوله (( إن اللغة الإنجليزية ليس فيها فراغ إيقاعي.)) وتطبيق ذلك على قصيدة النثر ، فاستطرد ليقول(( إن قصيدة النثر نادت بنوع من الكتابة يخالف الشعر.وإن تخلينا عن البيت الشعري فإننا نتخلى عن بُعد هائل من الذخر الإيقاعي للشعر...إن قصيدة النثر تتخلى عن البيت الشعري..(لذا) ..هناك فراغ إيقاعي في قصيدة النثر.)).هذا التصريح يثير في الغرب كما عندنا مشكلة الإيقاع الذي تستند إليه قصيدة النثر في موسيقاها البديلة لخروجها عن الوزنية تماماً، واستبدالها مفهوم البيت الشعري الذي ظلت له هيمنة حتى في قصائد(الشعر الحر)أو (التفعيلة)ذات المنحى التجديدي. بمفهوم كلية القصيدة المنبنية على أساس مستويات عدة ليس الإيقاع إلا واحداً منها، يستكمل وجوده البنائي في هيكل القصيدة على أساس انتظامها جميعاً: كاللغة والتركيب والدلالة والهيئة الخطّية للنص والمستوى البلاغي االذي يشمل الصور البديلة للفكرة المتخفية في النص تحت المكتوب والمسكوت عنه، أو ما ينتظم بعلاقات الحضور والغياب في البنية النصية للقصيدة.لقد أبدلت قصيدة النثر البيت الشعري كوحدة لغوية وتركيبية ودلالية وإيقاعية بالسطر ثم بالجملة الشعرية التي تتعدى الحدود النحوية واللغوية للجملة العادية وقد تستغرق عدة أسطر وتتمدد في مساحات النص الممكنة.وقد يسبب ذلك صعوبة للمتلقي في اكتشاف أو تتبع هيئتها الكتابية أو الخطّيّة باعتيار سطح المكتوب فضاء نصياً يستوعب مبنى القصيدة.لقد وُصف الإيقاع الداخلي بأنه أسطورة أو زعم غير متحقق في قصيدة النثر التي لا يراها منتقدوها كقصيدة دلالية ،ومستفيدة في هيئتها النصية بالسرد كوسيلة مساندة لتوصيل الفكرة.قصيدة النثر لا بيت فيها.وهذا المؤكد في كلام وورمسر عن قصيدة النثر.لكن ما لم يرد في كلامه -شأن رافضي مقترح قصيدة النثر عندنا - هو البدائل التي تقدمها قصيدة النثر عن البنية البيتية التقليدية.وكذلك ما يلي هذا بالضرورة، وهو وجود إيقاع فيها وليس فراغا كما جاء في المقابلة.ولكن تعيّنات الإيقاع لايمكن أن تؤدّى بأوصاف محددة تؤطر قصائد النثر كجوقة. وهذه أبرز صعوبات كتابة قصيدة النثر. بل ستصبح لدينا قصيدة نثر لكل شاعر كما يذهبمحررا كتاب (مقدمة لقصيدة النثر -أنماط ونماذج) -الذي ترجمه الشاعر المصري الراحلمحمد عيد إبراهيم ،ويعتقدان بأن هذا النوع الشعري - كما اقتُرِح في النقد الشعري عندنا- لا يُحد أو ينحصر في وصف ؛ لذا يقرران قاعدة مرنة وزئبقية في الواقع بقولهما ((إن هناك أنماطاً لقصيدة النثر بقدر ممارسي كتابتها.وهذا هو مصدر تميزها وصعوبتها في آن واحد تلقيا وكتابة. فهي ليست بنية ،والكلام عن أنماطها هو الحل)) كما يرى المحرران اللذان يتحفظان بالقول إن تلك الأنماط لا تحيط بهاصفة أو تحديد، وهذا يعزز رأيا مبكرا لنا بأن كتابتها مسؤولية ذاتية للشاعر نفسه- وإيقاعها لا يدرك أو يحاط به ولا تؤديه الصفة رغم أنه يدرك بالمعرفة. وكان عنوان كتابي الأول عن قصيدة النثر عام1992 هو ( مالاتؤديه الصفة)مستفيداً من إجابة اسحق الموصلي حين سأله الخليفةعن النغم وطلب أن يصفه له فقال:(( إن من الأشياء أشياءَ تحيط بها المعرفة ولاتؤديها الصفة)).هكذا يظل الحديث متاحاً عن (احتمالاتها) .ذلك سوف يسر خصومها ويقوي منافحتهم عن (الشعر) الذي لا يرونه في قصيدة النثر.لكنه يعمق البحث عن دلالاتها وإيقاعاتها.سيكون لكتابة قصيدة النثر تشكلات نصية ممكنة باعتبار المحورين البنائيين المهمين فيها، أعني الدلالة والسرد، وما يقطعهما أفقياً من إيقاع يتحصل بالتوازي او التكراروالمفارقة والسخرية والصورة المنتزعة من متعدد يتم إعادة ترميمه وتجميع أجزائه .كان قدر قصيدة النثر واللحظة الشعرية التي ولدت فيها أن تتشكل كظاهرة نصية صادمة مستفزة منذ لحظة التعارف مع القارئ الذي ترسخت في وعيه الأنواع والأجناس كما تراكمت نصوصها في ذاكرته المتشكلة كمخزون قراءة أو أفق تلق بما قدمته له البنية التقليدية والمدرسة والذوق العام .وكلها تقدم الموزون بكونه حِكماً أو أمثولات ونماذج عليا أيضاً.فلا يبقى من مساحة لتلقي أي نسق جديد تقدمه القصيدة مادام الشعر هو هذا البريق اللامع لغةً والصادح إيقاعاً والقابل للتمثل والتداول جزءاً جزءاً ،كأبيات متوسعة عن فكرةٍ ما تتمدد في أطراف النص وتعود لمركزها لتنتهي ببيت قصيدٍ أو خلاصة ..كان القارئ يفهرس تلك النصوص بما يفرضه التفريق الحدّي بين الشعر والنثر، ولا يراهما قابلين للتصالح والجمع في إطار نصي واحد ، وهو إشكال والتباس واجه قصيدة النثر في حاضنتها الأساسية، وأعني اعتراضات الفرنسيين أنفسهم على التسمية وتصريح منظري قصيدة النثر الأوائل بحرج التسمية ومغالطتها وعدم تعبيرها على المستوى الاصطلاحي عما يراد منها على مستوى المفهوم ،ولا تنتهي - أي التناقضات- بمعضلة تلقيها في أفق لم يتغير كثيرا ولم يبتعد عن مرمى القصيدة الأسبق..وارتضت هي بدورها الوصف بالمروق والتمرد تناغما مع شعاراتها الثورية العارمة ،لاسيما في مرحلة التبشير الأولى والحِجاج مع الخصوم الذين أنتجوا خطابهم في هيجان الصدمة ورد الفعل . فيصفها أنسي الحاج في مشاكسة واضحة بأنها (عمل شاعر ملعون ونتاج ملاعين وبنت عائلة من المرضى!).هكذا مضت قصيدة النثر في خطها التحديثي مغرية الكثير من الدعاة والأدعياء- شأن الحداثات والمقترحات الجديدة عبر التاريخ - يتهافت عليها بوهم سهولتها وإغراء مخالفتها للسائد بعض مِن ضعاف القدرات ممن تلبي لهم دعوتها لإلغاء معايير الوزنية الموسيقية ما يريدون من كتابة لا طعم لها ولا لون .تمضي كتابة قصيدة النثر العربية متجددة عبر أجيال من الشعراء تتنوع مرجعياتهم والمؤثرات الفاعلة في تجاربهم ، فحين كان الجيل الأول من كتّابها يحاول تنفيذ برنامجها الإيقاعي والرؤيوي واللغوي كما تقترحه المرجعيات الفرانكفونية والإنكلوسكسونية، يذهب الجيل الأخير من الشبان مثلا إلى تجارب عربية تركت بصماتها في أشعارهم وتجسدت في قصائدهم النثرية..وأخرى من منابت شعرية مختلفة ومتباعدة.وبكونها قصيدة (رؤيا) تنفتح قصيدة النثر على الخيال والأسطورة وتدعم ملفوظاتها بتلك الأدوات المجتلبة منهما أو بهما . وهو جانب بحاجة لعناية كتاب قصيدة النثر الشبان خاصة ممن تتمحور تجاربهم لغويا أو صوريا دون الاعتناء بالدلالة التي تشي أيضا بما أسميه ثقافة النص الشعري ،كونه مناسَبَة للاحتكاك الثقافي بالموضوعات. والإفادة من الجانب الأسطوري والرمزي والإحالات- التي يكفلها التناص- على المقروء والمعاد إنتاجه نصيا.انحصرت بعض تيارات كتابة قصيدة النثر في بداياتها بالتركيز على المفارقة اللغوية ،وبناء نصوص ذات وجود لغوي غريب العلاقة بين تراكيبه ( أنسي الحاج).كما اعتنى بعضها بالجانب التصويري وتوليد بلاغة قائمة على العسير والصادم من الصور والاستعارات( أدونيس) ،لكن هذين التيارين ليسا إلا جزءاً من تيارات ومناخات كتابة شعرية متعددة ، يولي بعضها الاهتمام المطلوب للجانب الإيقاعي في قصيدة النثر، ويقترح إيقاعات بديلة للموسيقى الشعرية التقليدية الغائبة فيها .كما يعكف بعض آخر على تعميق الخط أو الملمح الدلالي للنص، لاسيما في التجارب الوسطى التالية للرواد وكتاباتهم الأولى.أما السرد المستعاض به عن غنائية محلّقة أو مهوّمة ، والمجتلَب للنص لإكسابه ملموسية وتعينا ، فقد كان ممكنا في قصيدة النثر بشكل كبير نظراً للإفادة من طاقة النثر المنصهر فيها. ولا يعني ذلك جلب آليات القص حَرفيا- كما هو حاصل في البناء القصصي مثلا- ولكنْ منْح قصيدة النثر أبعاداً تسهم في تشكيل نسيجها البنيوي، وتدعم جانبها الدلالي ،وتخفف من كثافة اللغة والصور فيها، ما يبعدها عن الغنائية الساذجة والتهويم الصوري المجاني الذي أصيبت به نصوصها الأولى في فهم خاطئ للمجانية كأحد الشروط الملخصة بابتسار عن دراسة سوزان برنار الأكاديمية عن قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا ، حتى صارت المجانية تعني اللاترابط والهذيان المنتَج لا عن وعي كافٍ بالتشكل المتعارض مع المعاني السائدة والصور المستقرة في الذاكرة الشعرية ،وهو من أهداف ومشغّلات كتابة قصيدة النثر.النماذج الجديدة لقصيدة النثر لا يتسع لها هذا الإستطراد المتوسع عن التعريف بروادها ومشكلات مقترحها ومصطلحها وإيقاعاتها ولغتها.لكنها تشير في الراسخ منها تجربةً ووعياً أنها متعددة المناخات والرؤى والتشكلات البنائية .وفي هذا سر ديمومتها كمقترح ،ٍومستقبلها كمشروع حداثي جذري يمس الوعي بالكتابة والعالم ،كتابة مغايرة مختلفة ، وعالم لاتحده قيود أو محددات..ملاحظة: أفدت في أجزاء من المقالة مما كتبت في مناسبات سابقة عن موضوعاتها.ولم أقدم التصور النظري للإيقاع وأنواعه وتشكلاته كي لا يكون الخطاب علمياً صرفاً ،لا يناسب وسيلة التواصل و النشر هذه..
د. حاتم الصكر / العراق
د. حاتم الصكر / العراق