محمد السلاموني - اللغة والدين والواقع.. مرتكزات الخطاب الدينى

[رفض الأزهر الشريف تكفير تنظيم (داعش) ، مشيرا إلى أنه لا يمكن تكفير مسلم مهما بلغت ذنوبه .] ..
من أعظم وأجل ما حققته الثورات العربية الأخيرة ، هو فتح ملفات (المسكوت عنه) ؛ ذلك الذى صمتنا عنه طويلا طويلا ... إذ منحته صوتا ، وهاهو ينفجر كبركان فى وجودنا ، ويقوض مسلماتنا (المقدسة) ، بوضعها أمام العقل والعلم ، مما يشى بتحول هائل (مرتقب) فى الوعى ومن ثم فى الواقع العربيين ..
الملاحظة الجديرة بالذكر هنا - هى أن (الخطاب الدينى السائد - والخطاب هو ما يصنعه البشر) قد تعرى تماما وبانت سوءته ، ذلك بالكشف العلنى عن (الآليات أو التقنيات التى يعتمدها فى صناعتة للمطلق ومن ثم للمقدس) ..
سأتحدث عن تلك التقنيات ، فى حدود المتاح :
أولا - قد نتفق أونختلف مع خطاب سيد القمنى بهذه الدرجة أو تلك ، لكننا لو تعاملنا معه باعتباره مناقضا لخطاب رجال الدين ، سنتبين كم هو كاشف عن حقيقة ذلك الخطاب (المؤسسى ، بعمقه الشعبى) ..
فبمقارنة الخطابين ببعضهما ، نجد أن مرجعية رجال الدين ، لغوية فى الأساس ؛ تستند إلى (ظاهر) النص الدينى ، وتتكلس عند حدوده المباشرة : فالروح هى الروح لا أكثر ولا أقل ، وستظل هكذا إلى الأبد ، وكذلك الجنة والنار ، وكل ما تحدث عنه القرآن الكريم ...
أما "العلم" فيتحرر من المرجعية اللغوية المباشرة ، ويعيد تأويل النص الدينى بمفاهيم إصطلاحية علمية ؛ لتصير الروح هى الطاقة ... إلخ ..
ويبدو واضحا أن (القداسة المطلقة) للنص الدينى – من منظور رجال الدين – ترتكز على (القشرة النصية) ، التى هى المعنى (التقريرى) أو (المعنى الأول) ؛ الأولى ، البدهى ، الذى نستشفه من ظاهر النص ..
هذا على الرغم من أنهم – هم أنفسهم – قد يلجأون إلى (المعنى الباطنى ؛ الإيحائى أو المعنى الثانى أو الرمزى أو ما يسمى بالمغزى) عند الحاجة ؛ ويبدو واضحا أيضا أن تلك الحاجة ، لديهم ، تتمحور حول (البحث عن تماسك الخطاب الدينى ، بأى ثمن) – أى أنهم لا يتناولون النص الدينى نفسه ولا يكشفون عن كنهه هو ، بقدر ما يعربون عن (رغبتهم هم فى وجود هذا التماسك) ؛ هكذا ، فشرط وجودهم أو مبرر وجودهم ، الذى ترتبت عليه مكانتهم وحظوتهم وسلطتهم التاريخية ، هى الإضطلاع بوظيفة محددة ، تتلخص فى (إثبات تماسك ووحدة ومطلقية وقداسة النص الدينى) ، وهم يعلمون جيدا أن قيمتهم تتحدد بمدى قدرتهم على أداء تلك الوظيفة / وإذا أضفنا إلى هذا أن التفسير القشرى ، الظاهرى ، يتسق تماما مع الخطاب الشعبى (البدائى) ؛ الذى تتطابق فيه الأسماء مع المسميات ، سيتبين لنا أكثر وأكثر (أنهم يعزفون بقوة على أوتار الضمير الشعبى ، وإن إثارة الوجدان الشعبى بالإنشاد الدينى هو شغلهم الشاغل - حتى أن تقنيات التفكير التى يعملون بها هى نفسها المنطق الشعبى " التجسيدى " أو ما يعرف بالمنهج الأسطورى ..)
ــ إذاً ، هناك وظيفة ذات توجه شعبى ، يقوم بها رجال الدين ، بما هم رعاة المنهج الأسطورى (البدائى) الضامن لوجودهم باعتبارهم (رجال دين) ..
ودفاعا من رجال الدين عن مكتسباتهم الإجتماعية تلك ، فإنما يحصنون أنفسهم داخل مواقع عديدة (ليس المنهج الأسطوى - الشعبى) سوى أحدها فقط ، ذلك أن هناك مواقع أخرى ، منها :
ـــ الإقرار بـ (حرية الإعتقاد) ؛ (لكم دينكم ولى دين) ، شريطة ألا تجاهر بعقيدتك وأن تخبئها فى كهوفك الذاتية ، وإن لم تفعل فسوف تتهم بالدعوة إلى (الضلال) و(الإنحراف عن سبيل الله " الحق ") ، مما يستوجب العقاب ، الذى هو (الإستتابة) أو (القتل - بتحريض السلطات أو الجماهير ، فيما يعرف بإثارة الفتن الطائفية) ..
هكذا يشرِّعون لأنفسهم ما يمنعونه عن غيرهم ؛ إذ يمنحون أنفسهم الحق فى المجاهرة بما يعتقدون أنه (الحق) ، ويحكمون على غيرهم بالصمت أو الموت (باعتبارهم دعاة ضلال) (؟!!) ...
غير أن الأهم من ذلك كله ، هو (نظرية المعرفة العتيقة التى يعملون فى إطارها) والوسائل والتقنيات التى تعتمدها تلك النظرية ، وأهمها (صناعة الإستعارات ، التمثيلية) ، فعلى الرغم من أن (الإسلام) يرفض (التجسيد) ، إلا أنه لجأ إلى (التمثيل الإستعارى ، اللغوى) ، أى أنه لعب على (التجسيد الخيالى) لا على (التجسيد المرئى) ...
هذا والفرق بين هذين النوعين من التجسيد ، يتلخص فى الآتى :
فى (التجسيد المرئى) - كما تقول النظرية الإسلامية - ينزلق الإنسان من المعنى الذى يقع خارج (التمثال - كرمز) ، إلى (التمثال) ذاته ، إذ يتحول إلى أيقونة ، تسترعى النظر فى ذاتها ، حتى أنها تحيا فى مسارات دلالية تختلف باختلاف العصور ... أى أن الإرتكاز على (الدال المرئى) يحول (المدلول) إلى إلتماع خارجى ، قشرى ، يسهل محوه ..
أما (التجسيد الخيالى) ، فهو ما ينتجه المتلقى (خياليا) من النص الإستعارى اللغوى ، ويرتكز على (المدلول) ، فمخيلة المتلقى تتخذ من ذلك المدلول مرتكز لها فى صناعة الصور التجسيدية المتخيلة ، (أما عن طبيعة خيال المتلقى (الفرد) ، والعمليات المعقدة التى ينتج بها الصور الخاصة به ، فيتحدث عنها علماء البلاغة العرب ، وكلنا نعرف كيف أنهم شجبوا بشدة الخيال الجامح ، بل إن " الخيال " نفسه ، كان يشير لديهم إلى الخبال والشطط) ..
مما يعنى أن (العرب) - علماء اللغة والدين - وضعوا شروطا للخيال ولكيفية عمل المخيلة ، وعلى الرغم من أن شروطهم تلك كانت تخص صناعة الشعر ، إلا أن غايتهم الكبرى تمحورت حول (الإحتراز عن الخطأ فى كلام العرب) ، وبذا عدوا (دراسة الشعر) مدخلا (لدراسة القرآن الكريم) ..




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى