د. علي خليفة - بناء القصيدة الجاهلية

للقصيدة الجاهلية بناء معروف، خاصة فى المطولات منها، وقد ذكرنا أن هذا البناء الفنى قد تم فى مراحل متتالية ومجهولة؛ وأن الشعر الجاهلى الذى نثق بصحته والذى لا يتجاوز مائة وخمسين عامًا قبل البعثة النبوية – وصلنا فيه شكل القصيدة وأسلوب بنائها كاملين، أما الخطوات السابقة التى كان يتم فيها محاولات الوصول لهذا الشكل فلم تصل إلينا، ولا علم لنا بها.
ويقول الدكتور شوقي ضيف: "تتراءى لنا مطولات الشعر الجاهلى فى نظام معين من المعانى والموضوعات إذ نرى أصحابها يفتتحونها غالبًا بوصف الأطلال وبكاء آثار الديار، ثم يصفون رحلاتهم فى الصحراء وما يركبونه من إبل وخيل، وكثيرًا ما يشبهون الناقة فى سرعتها ببعض الحيوانات الوحشية، ويمضون فى تصويرها، ثم يخرجون إلى الغرض من قصيدهم مديحًا أو هجاء
أو فخرًا أو عتابًا او اعتذارًا أو رثاء. وللقصيدة مهما طالت تقليد ثابت فى أوزانها وقوافيها، فهى تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات وتتحد جميع الأبيات فى وزنها وقافيتها وما تنتهى به من روىّ ".
وظل هذا البناء متبعًا فى الشعر العربى حتى النصف الأول من القرن العشرين، وكان النقاد يطالبون الشعراء بالتزام هذا النموذج الموروث فى بناء القصيدة العربية، ويحذرونهم من الخروج عليه.ويؤكد ابن قتيبة على ضرورة التزام الشعراء فى كل عصر هذا الشكل الموروث للقصيدة العربية بقوله: "وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدّمين فى هذه الأقسام فيقف على منزل عامر أو يبكى عند مشيّد البنيان، لأن المتقدّمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافى
أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأن المتقدّمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجوارى لأنّ المتقدّمين وردوا على الأواجن الطواهى أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحَنْوة والعرارة".
ويوضح ابن قتيبة العلاقات التى يمكن أن تكون بين أجزاء هذا الشكل فى البناء فى القصيدة الجاهلية، بقوله:
"وسمعتُ بعض أهل الأدب يذكر أن مقصّد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد فى الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المَدَر لانتقالهم عن ماء إلى ماء وانتجاعهم الكلأ وتتبُّعهم مساقط الغيث حيث كان ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليُميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه وليستدعى به أصغاء الأسماع إليه لأن التشبيه قريب من النفوس لائط بالقلوب لما قد جعل الله فى تركيب العباد من محبَّة الغزل وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب وضاربًا فيه بسهم حلال أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقّب بإيجاب الحقوق فرحل فى شعره وشكا النصب والسهر وسُرى الليل وحر الهجير وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حقّ الرجاء وذمامة التأميل وقرَّر عنده ما ناله من المكاره فى المسير بدأ فى المديح فبعثه على المكافأة وهزّه للسماح وفضّله على الأشباه وصغّر فى قدره الجزيل فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدّل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر ولم يُطل فيُملَّ السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد".
وبلا شك أن مطاردة النقاد للمبدعين فى العصور التى تلت العصر الجاهلى لتكبيلهم بهذا الشكل فى بناء القصيدة دون الخروج عليه قد جعل حركات التجديد فى شكل القصيدة ضعيفة إلى حد كبير إلى أن ظهر تيار الشعر الحديث فى النصف الثانى من القرن العشرين وقبله بقليل مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور، وغيرهم من رواد القصيدة الحديثة فى العصر الحديث.
وبناء على تعدد الموضوعات فى القصيدة الجاهلية –إلا القليل منها– فقد كانت مفككة لا يشملها وحدة عضوية – إلا فى القليل منها -.
وكان واضحًا فى القصيدة الجاهلية الطويلة بروز ظاهرة الاستطراد، وهى الخروج من موضوع لآخر ثم العودة للموضوع الأول الذى كان الشاعر بدأ الكلام فيه
ويمكن أن نفسّر تعدّد الموضوعات فى مطولات القصائد الجاهلية بأن الشاعر الجاهلى كان يقول هذه الموضوعات المتعدّدة فى القصيدة الواحدة فى أوقات مختلفة، ثم يجمعها فى قصيدة واحدة خاصة شعراء الصنعة والتجويد كزهير بن أبى سلمى.
وفى ظنى أن اتباع الشعراء الجاهليين هذا الشكل فى بناء القصائد الطويلة يعود لتقليدهم شاعرًا قديمًا مجهولاً ابتدأ هذه الطريقة فأعجبت الشعراء من بعده، فقلدوه فيها، ثم أصبح الخروج على هذه الطريقة عيبًا؛ لأنها صارت عادة موروثة كعاداتهم الدينية والاجتماعية التى كانوا يتخذونها ويحرصون عليها فى العصر الجاهلى، ويؤكد كلامى هذا قول امرىء القيس، وهو من أقدم شعراء الجاهلية الذين وصلنا شعرهم:
عوجا على الطلل المحيل لعلنا
نبكى الديار كما بكى ابن خذام


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى