محمد الرياني - رائحةُ البركة

يصيحُ بألمٍ ، صداع...صداع، يضعُ كفَّ يدِه اليمنى بشدةٍ على مقدمةِ رأسِه ثم ينقلُها على مؤخرةِ رأسِه ، يستمرُّ الألمُ وهو يتوجعُ ويتمتمُ بصوتٍ منخفضٍ صداع... صداع، تقفُ أختُه الكبرى الحكيمةُ بأوجاعِ الرأسِ وهي تنظرُ إلى ضوءِ الشمسِ يلمعُ في جانبِ العتبةِ على سطحٍ زجاجي، تسألُه كأنكَ تعرضتَ للشقيقةِ من لمَعانِ الشمسِ في الباب، يمسكُ بيدِها ويضغطُ على الألم ، يقولُ لها : لم ألتفتْ للباب، بصري كان يتجهُ إلى البابِ الآخر، تضعُ له ذراتٍ من الحبةِ السوداءِ في جزءٍ من القماشِ الأسودِ الذي تُغطِّي به رأسَها ، تطلبُ منه أن يَشمَّ حبةَ البركةِ بنفَسٍ عميق، يشعرُ ببعضِ الارتياح، تستمرُّ في تدليكِ مقدمةِ رأسِه ورقبتِه، يطبعُ قبلةً على كفِّها المتجعدةِ ويدعو لها بالعافيةِ وطولِ العمر ، يبدأ الصداعُ بالانحسارِ مع بعضِ الذبذباتِ التي تركَها، جلستْ تسأله، هل شربتَ؟ وماذا أكلتَ؟ وهل نمتَ ؟ أمسكتْ بيده ودعتْه ليسترخي على السرير ، أغمضَ عينيْه ورائحةُ كفِّها على أنفه، بقيتْ تسألُ نفسَها وهي قلقة، صداعُ أخي غريبٌ ، لم أسمعْه يشتكي قبلَ الآن، وهو دائمًا مبتسمٌ ولايعاني الضيق ، عصرتْ له ليمونةً من الليمونِ البلدي الأخضرِ الذي يَزرعُ حولَ غرفتها، أحضرتْ كوبين ، شربتْ قبلَه لتشجعَه، نهضَ وشربَ الثاني ورائحةُ كفِّها على الكوب، قال لها لقد ذهبَ الصداعُ عني ، عليكِ أن ترتاحي الآن، هزَّتْ رأسَها وعيناه تستعدان للنوم، قال لها : هل تذكرينَ أنشودةَ النومِ القديمة؟ أنشدتْها بصوتِها الرخيم : "محمد سرى يساقي، ساقى مئة معادي" نامَ ونامتْ على السريرِ الآخر، في الصباحِ انقشعتْ عتمةُ الصداعِ عن رأسه، ذهبتْ إلى شجرةِ الليمونِ تقطفُ بعضَ ثمارِها ، بقيَ في فراشِه يستروحُ رائحةَ حبةِ البركة، مرَّرَ يدَه على جبهتِه وعلى رقبتِه فلم يشعر بألمٍ ثمَّ وضعَ كفَّه على أنفِه وعليها رائحةُ يدِ أخته، عادتْ إليه لتطمئنَّ عليه ومعها حباتٌ من الليمونِ البلدي، أخذَ منها واحدةً يشمُّها، قالت له : انتبه من لَمَعانِ الشمسِ على الباب، أكَّدَ لها أنَّ الشمسَ لم تفعلْ به شيئًا، همسَ لها بأنه سيزرعُ شجرةَ ليمونٍ بالقربِ منه كي يقطفَ منها إذا انتابه الصداع ، لم يقل إنه سيذهبُ إلى مدينةٍ أخرى لاتلمعُ عندَ بابِها الشمسُ ولن يجدَ فيها ريحَ كفِّها وليمونِها.