محمد السلاموني - حكايات عن "القهر والمرأة والأدب- وجماليات الكذب"

كثيرا ما يمثل "فكر وإبداع القهر"- الذى يأتيه المقهور- إستمرارية للقهر ذاته؛ إذ يمتد إلى المتلقى، عبر تقنيات بلاغية "تتكئ على التعاطف الإنسانى أو الأيديولوجى..."، وهو ما يجعل من الفكر والإبداع أداة لإشاعة ونشر وتوزيع الهيمنة السلطوية "القهرية" على الجميع، وإن كان مُنتِجها هذه المرة هو المقهور- للمقهور الآخر.
تلك الظاهرة لا ينتبه إليها أحد، بل ولم يترصّدها ويتقصِّى أبعادها أحد/ إذ عادة ما نتلقَّى أدب السجون- على سبيل المثال- باعتباره فضحا للمارسات السلطوية، دون أن ننتبه إلى أن مثل هذا الأدب "الذى يصوِّر لنا الفظاعات والبشاعات التى يتعرَّض لها المعتقلون" يخفى فى طياته بُعدا دعائيا، مجانيا، عن "جبروت السلطة"، وعن مدى قوتها وقدرتها على تجريدنا من إنسانيتنا...
فى مرحلة سابقة من حياتى، انشغلت بقراءة أدب السجون والمعتقلات لدينا فى مصر: "أدب ومذكرات اليسار" ومذكرات "الإخوان المسلمين" عن الأهوال التى لاقوها فى المرحلة الناصرية. ولأننى عادة ما أحتفظ بأوراقى القديمة فى كراتين وأجولة، وأحملها معى أينما حللت- فقد عثرت مصادفة على تعليقات وهوامش كنت قد سجلتها أثناء مطالعاتى، عن ذلك النوع من الكتابة/ وأذكر أن من ضمن ما قمت بتسجيله أيامها، ملاحظة غريبة، تقول: [المقهور يحتفظ بما أتيح له من أدب وسِيَر ومذكرات كُتِبَت بأيدى المقهورين الآخرين، السابقين، ليستدفئ مستلِذا بحرق عِظامه سِرَّا فى مخيِّلة مشوَّهة]- وكان هذا بمناسبة إقامتى فى القاهرة عند صديق "مناضل يسارى"؛ شاء القدر أيامها أن تسنح له فرصة للهجرة خارج البلاد؛ هكذا تاركا لى الشقة ومكتبتة الهائلة.
منذ أيام استوقفتنى تلك الملاحظة التى أوردتها للتو، بينما أفتش فى أوراقى القديمة عن شئ ما- وعلى الرغم من أننى تناسيتها تماما، متمسِّكا ، دون وعى مِنِّى، بالمعنى السائد عن ذلك النوع من الكتابة، إلا أننى بعد أن قرأتها، شعرت بأننى استعدت شيئا ما، لعله "الآخر- المقابل للأنا الخاصة بى" الذى عملت كثيرا على إخفائه عن اليساريين والمثقفين الذين كنت أحيا بينهم، ويطلقون عليهم إسم "جيل الستينات".
أيامها كان قد انقضى على تخرجى من المعهد للعالى للفنون المسرحية، قسم الدراما والنقد، بضعة سنوات، وكنت أكتب "نقدا صحفيا" فى الجرائد والمجلات المصرية والعربية عن الروايات والقصص القصيرة والعروض المسرحية، هذا فضلا عن عروض الكتب... كنت أكتب عما ينتجه اليساريون المناوئون للسلطة فقط . وأذكر أيامها- فى الثمانينيات وبداية التسعينيات- أننى كنت راكورا ثابتا فى المنتديات الثقافية، وكثيرا ما كانت آرائى تشعل الندوات وتستفز البعض...
أيامها كان السؤال عن "وظيفة الأدب والفن" هو ما يشغلنى: إذا كان الأدب والفن مجرد وسيلة لنشر الوعى "التنوير"، والتبشير بعالم جديد أكثر حرية وعدلا، فما موقع الوظيفة الجمالية منه؟، وهل الحديث عن الجمال فى ذاته يُعدّ ترفا برجوازيا لا يليق بأن يضيِّع فيه الفقراء والمقهورون من أمثالنا وقتهم الثمين؛ هم المنذورون للثورة التى ستغيِّر العالم؟.
أيامها كنت أقرأ كثيرا وأنام قليلا- وأكتب شعرا وأسكر "على حساب اصحابى" وأرسم على جدران الليالى الصُّلبة أحلاما سبق أن رسمها كثيرون من قبل، حتى بلغت حدا من السماكة، أعتقد الآن أنها هى ذاتها كانت الجدران التى طوقتنا بها تلك الليالى.
يا إلهى... كنا نروى لبعضنا البعض عن خساراتنا وعلاقاتنا العاطفية المجهضة، وكان "الكذب" هو البوابة الكبرى التى نمرِّر بها أحلامنا بالنساء خاصة- وهو الأمر الذى يستحق أن نوليه عنايتنا؛ بدراسة أبعاده السيكولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية، على الأقل كما تم رصده فى أدب وأفلام ومسرحيات تلك الحقبة الزمنية. نعم، "المرأة" كانت هى محط أكاذيبنا التاريخية، ربما فرارا من القهر اليومى، أو ممارسة واستعذابا له- باعتباره التاريخ الذى كنا نستدفئ به فى "الوحدة" التى هى أحد أسماء القهر.
بعد أن قرأت "فوكو"- لاسيما تعريفه للسلطة- أدركت، أو لعلنى أدركت، أن للقهر تاريخا؛ هو تاريخ علاقتنا بالسلطة بمعناها الواسع... هذا التاريخ، هو ما ليس باستطاعة المقهور التخلى عنه. فعلى الرغم من أن هذا فى حد ذاته يُعدّ نوعا من القهر، إلا أنه هو التجربة الوحيدة- تجربة الوجود الوحيدة- التى عاشها المقهور...
// نعم، حين أشم رائحة عظامى وهى تحترق، هنا فقط أستطيع النوم، وأحلم، أكذب، كى أولد من جديد على مشارف الليل القديم، العائد دوما...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى