أيام طبرق1941 وضعت (عويشة) آلامها جانباً وأقفلت أبواب قلبها مؤقتاً، وتناست أو ادّعت تناسي (حَمَدّ) وجمعت صبايا العائلات المعروفة -أصحاب الحقاف*- لتجهيز بعضها لاستقبال العائلات القادمة من طبرق تقول عويشة: نحن في الخوف وفي المشقة واحد نقتسم ما نملك معهم حتى تنجلي هذه الغمة. هذا صباح مختلف على (درنة) التي استيقظت على الأخبار المزعجة فالحصار الذي ضربته قوات المحور على طبرق المجاورة شرقاً قد تم دحره وتحررت المدينة، وكانت تحت حماية الفرقة السودانية المُحاصَرة مع الأهالي، غير أن ما قرره المنتصر الأرعن يثير الرعب في نفوس السكان -سكان المدينة المنكوبة بالمجانين من الطرفين- وأيضاً سكان كل المدن الليبية فما يجري بطبرق ربما سيمهّد لأفعال مماثلة من يدري؟. لقد تناقلت الأخبار أن القائد الإنجليزي هناك أمر باستباحة طبرق لثلاثة أيام كاملة وهذا الأمر يعني كل شيء حتى الأعراض!! ورفضت القوات السودانية التابعة للحلفاء التي كانت مرابطة في المدينة هذا الأمر بل وتؤكد الروايات قرارهم أنه لن يحدث هذا إلا على أجسادهم وحافظت بالفعل على البيوت وعلى النساء -غنائم كل حربٍ لعينة-. لم يطمئن الناس وساد الوجوم والخوف من الأيام القادمة فحزمت عائلات كثيرة أمتعتها وبؤسها وغادرت بحماية بعض الشباب والوجهة (درنة). أيها النازح لا تتراجع فلا شيء سيمنحك عوناً ولا أحد سيحمي أرواح من يجتمعون الآن ويأخذون الطريق الطويل الخالي إلا من جثث الدبابات والمدافع الألمانية المنسحبة غرباً وجثث لبشرٍ مرمية بلا رحمة ولا حرمة لأرواحٍ أهدرت في هذه الحرب المجنونة. تقدم إلى (درنة) ففيها قلوب مشفقة عليكم ومُهَجٌ تلهج بالدعاء أن تصلوا سالمين، وفيها (حقاف) ستفتح لكم لتجاوروا أهلها، فيجري عليكم ما يجري عليهم، فأنتم جميعكم تأكلكم هذه الحرب وتلعب بمصائركم. كانت المسافة طويلة سقط فيها الكثيرون جوعاً ومرضاً فالوحشة وقلة الزاد والمرض شاركت مظالم الحرب وجرائمها. وصلت طلائع الأجساد الخائرة بأسمالها البالية، وأرواحها الحزينة، واستقبلتهم أجساد أخرى لا تقل عنهم خوفاً ولا هزالاً ولا تعبا، غير أن هذا اليوم هو يوم عائلات طبرق. اندفع الشباب للمساعدة ولتوجيه القادمين للمقرات -الحقاف- التي ستأوي منذ تلك اللحظة سكان مدينتين كتبت عليهما الأقدار أن يعايشوا -بلا اختيار- هذه الحقبة المظلمة من التاريخ الإنساني. امتلأت الحقاف يا مريم! تقول عويشة: والزاد يقلُّ والطائرات لم تخفف من زياراتها اللعينة للمدينة بل صار الليل كما النهار بلا راحة ولا عودة تبدو في الأفق لبيوتنا، ماالعمل ياابنة الأقوام؟ تردُّ مريم: ننزل* لبيوتنا لا مجال للتراجع لابد أن نحضر الزاد والملابس والبطاطين بيوتنا التي تعاني الوحشة هي الأخرى فلا حبيب يدفيء أركانها ولا روائح طعام تقيم أود من كانوا (عَمَارها)* يا بديع السموات والأرض ماالذي حلَّ بنا. كل من حضر الآن في حاجة لذلك. لكن شباب المدينة -المكلومة- تكفّلوا بالدعم وتقدموا -وسط الموت الساقط من السماء- لينجزوا المهمة فالبنات لن يتمكنّ من إنجازها بسهولة على الرغم من العزم والنية الصادقة. امتلأت الحقاف بالمحبة والخوف والتوق للحياة -التي تحاول الطائرات اختطافها- فانقلبتْ لياليها ضحكات وحكايات لا تنتهي ويحضر الميراث الطيب لأجداد المجتمعين المحتمين من الموت فتتبادل النساء الخراريف* تبدأ الواحدة منهن حكايتها فتكمل الأخرى. الخراريف تجمع نساء المدينتين والمنبع واحد ولا يختلف. في الحرب كما في الحب قلب يخفق إما خوفاً أو محبة أو كليهما معاً. وفي الحقاف روح تأسر الرائي فلا يعرف هل هؤلاء البشر يجتمعون على البؤس فيتوزع بينهم بالعدل فتخفُّ وطأته، أو يطلبون اجتماعاً للفرح والطائرات تحوم فوقهم وقد تفتك بأرواحهم، هي اختارتهم أعداءً لها -ظلماً- وهم يجهلون السبب بل ربما لا يعرف أغلبهم هوية هذه الطائرات. تقول عويشة غنينا طويلاً ياامرومة كانت الدربوكة في يد السيدة الطبرقية (تْحن وترن)* والغناء ياامرومة يثير المواجع تقول المرأة: "يا طيراً ماشي لجبلنا... قول لهلنا*... رانا صفنا واذَّيبلنا*" تخيّلي لو كان حَمَدّ بينهم، تخيلي حنين الزمارة وهي تتابع المغنية فتعلو النغمات معها وتهبط لتعلو ثانيةً، لتعيدنا لأيامنا ياامرومة فتنبت لواعجنا بين ثنايا الحقاف وروداً وفرحاً وربما بعض دمع تذرفه مقل تضحك وتبكي في الوقت نفسه. تتوسد عويشة مخدتها وتأخذ البطانية لتلقيها عليها وعلى امرومة فيسقط منه شيء أفزع البنتين تلمَّست عويشة ذلك الشيء وانهمرت باكية: حَمَدّ كان هنا ياامرومة تقول العاشقة التي أتعبها الغياب وأذبل ورودها. حَمَدّ كان ضمن الشباب الذين نزلوا (للبلاد)* حَمَدّ أحضر لي الغطاء ودسَّ زمارته* فيه. لم تنته الحكاية بعد. محبوبة خليفة * الحقاف: جمع حقفة وهو الكهف أو المغارة واستُعمِلَتْ ملاجيء لسكان (درنة) في أثناء الحرب العالمية الثانية. * عمارها: تعبير محلي بمعنى الحياة والوَنَس. * الخراريف: ومفردها خرّافة وتعني الحكاية أو القصة القصيرة ترويها الجدات ليلاً للمؤانسة وتخفيف وطأة ما يجري. * النص الأصلي (يا طيراً ماشي لجبلنا قول لهلنا رانا في المقرون احصلنا) والمقصود معتقل المقرون الفاشيستي الذي زجت إيطاليا فيه بآلاف المعتقلين رجالاً ونساءً وأطفالاً وعائلات بكاملها. وتقع المقرون جنوب (بنغازي). ومعنى النص طلب من الطائر أن يطير للأهل ويبلغهم بتعب وذبول هؤلاء. * البلاد: أي المدينة والمقصود درنة. نُشرت على موقعي ليبيا المستقبل والسقيفة الليبية |