محمد السلاموني - الرواية والإسكاتالوجيا

بيد أن تحولا مفصليا طرأ على الممارسة الروائية المعاصرة مناقضا تماما لما كانت تبديه من قبل...

يتعلق الأمر هنا بالمكان والزمان، ليس باعتبارهما العنصرين المميِّزين للسياق الحاضن للحدث الروائى، كما اعتدنا أن نقول، وإنما بوصفهما استعادة للماورائى الذى تكتنز به تجربة وجودنا فى العالم...
فى السرد الروائى القديم، ترتسم صورا متعددة الأشكال للطبوغرافيا الطبيعية "تمثيل دقيق للتضاريس الخاصة بسطح الأرض بعناصره الطبيعية والبشرية"؛ جبال، غابات، بحيرات، حيوانات... إلخ، ويقال بأن تلك الأماكن تحمل دلالات عميقة تتعلق بما هو مختزن فى لاوعينا الجمعى عن الجنة التى انحدرنا منها فى الزمن القديم .
هذا المكان القديم عادة ما كان يصطحب معه، وعلى نحو خفى، الزمن القديم، فى تعارضه مع التحولات الزمنية الحديثة "التى يتمحور حولها الحدث الروائى" .
الفكرة هنا، تتعلق بـ "اليوتوبيا- المدينة الفاضلة" بوجهيها "القديم- الأسطورى ، الدينى"، و"الحديث- الوعود الحداثية المستقبلية المتعلقة بـ "الحلم" بالفردوس الأرضى" .
أما الآن، فما نلاحظه هو أن "الديستوبيا- المدينة الفاسدة"، حلت محل اليوتوبيا، مستحضرة معها الرموز الأسطورية والدينية القديمة المتعلقة بالإسكاتالوجيا "التصورات الأخروية المتمحورة حول نهاية العالم" .
الجانب الأخروى من اللاوعى الجمعى هو الذى يستعر فينا الآن كـ "الكابوس"؛ نظرا لتفاقمم المخاطر المحيطة بكوكب الأرض، ونلمسها جميعا...
من هنا تمثل "المؤامرة الكونية بأشكالها العديدة" الثيمة الرئيسية فى الروايات السائدة الآن عالميا...
الشخصية والمصير:
التحول المعاصر من الحلم إلى الكابوس، الناتج عن التحولات الغاضبة للطبيعة، جَرَّاء الخيبة التى حاقت بالوعود الحداثية، لا سيما أن أكثر ما خانته تلك الوعود هو الإنسان نفسه؛ إذ اختزلته إلى مجرد "أداة للأنتاج"، و"مستهلِك للسلع"، هذا فضلا عن أنها "شيَّأته"، ثم تركته وحيدا مع مصيره الفردى- فيما زعمت هى أنها "حققت الفردوس الأرضى"... تلك الفجوة؛ بين الإنسان والحضارة المعاصرة، بقدر ما فصلت بينه وبين الطبيعة، الذى هو جزء منها، إلا أنها لم تجب عن سؤال "الموت"... ذلك السؤال القديم قِدَم الإنسان نفسه، والذى ما صاغ عالمه وصنع حضارته سوى محاولة منه لتقديم إجابة عنه، هى "تدجين ومصالحة بقدر ما هى مراوغة" .
ذلك الإنسان "المعاصر"، الإنسان "السايبورغ- الذى يمتزج فيه العضوى بالصناعى""- فى جسده وروحه وعقله، هو ما تحاول الرواية الإمساك به الآن فى تراجيديا الوجود المعاصر .
مشاعر الشخصية:
[المشاعر هى تحويل للوجدان والإنفعالات إلى صيغة قابلة للترميز. فالشعور هو الذى يمنح "الوجدان والإنفعال" تكوينهم باعتبارهم شكلا من أشكال الفعل البشرى].، وهو ما يعنى أن
"المشاعر تحركنا"، أى أنها تغيِّر شيئا بداخلنا .
فالمشاعر حدث يُحدِث تغييرا وتبديلا فى شئ ما ينعكس فى الوعى .
نعم، المشاعر أمر كاشف لحال الحياة داخل البشر.
ويقال بأن [الشعور هو الإنفعال مضافا إليه الكلمات [فالكلمات غالبا ما تسبِّب المشاعر وتعبر عنها]. [الشعور هو الإحساس بأن شيئا ما لمسنا].
هذا و [المشاعر المتناقضة "كالحب والكراهية"، عندما تترابط يكون هذا دليلا على الصحة النفسية، أما عندما تنفصل عن بعضها فلا يوجد سوى "العالم الهذائى من النفس المنقسمة، حيث يتم لفظ كل شئ مؤلم للعالم الخارجى"].
من هنا يتأتى "العنف" الذى تتميز به الشخصيات الديستوبِيَّة...
الشخصية والقارئ:
الإيقاع الروائى المعاصر هو الإيقاع العام الصاخب "النشاذ- الذى تحول فيه القُبح إلى جمالية مستساغة"...
وهو أيقاع متسارع، لاهث بما لا يوصف، لا يمنح الكاتب والقارئ الوقت للتأمل فى مجريات الحياة، لذا ليس لنا سوى المرور القشرى العابر على ما يقع لنا ومن حولنا...
والآن - ما نوع العلاقة التى بإمكان الروائى إقامتها مع تلك المجريات؟.
بطبيعة الحال ليس هنالك سوى "الواقعة ذاتها" محمولة على محفة "اللغة الخَبَرِّية" المُرتَهِنة للتمثيل "البصرى". وعوضا عن محاولة تدَبُّرنا لدلالتها على مهل، سنلجأ إلى الدلالات القديمة الجاهزة التى تمتلئ بها رؤوسنا؛ وهو ما يعنى أننا لم نعد نعبأ بمعنى الواقعة "الذى قد يكون جديدا ومختلفا" بقدر ما ننهَم بـ "الواقعة" ذاتها فى علاقتنا بها من حيث المصير المحتمل الذى يمكن أن يقع لنا نحن أنفسنا، على مرجعية ما يقع للشخصيات.
فى الروايات التى تملأ الأسواق الآن، ونطلق عليها اصطلاح "الروايات الإستهلاكية"، لا شئ هناك سوى ذلك الركام الهائل من الأحداث "الوقائع" المشوِّقة بما يكفى لسرقتنا من انتباهتنا إلى ما عداها، ملاحقة للمصير الذى يمكن أن تلقاه الشخصيات.
روايات الرعب "الزومبى" والديستوبيا "المدينة الفاسدة" والروايات البوليسية، وما شابه، تشتغل على محاوفنا من كل ما يتهدَّدنا، فى استثمار صارخ للإسكاتالوجيا...
ما سبق يقول بأن "الإنسان الآن منهَم بمصيره المُهَدَّد..."؛ وهو ما يعنى أن القوى الكونية الشريرة "السالبة للحياة"- تلك التى تثير مخاوفنا- هى التى تشغل "الجماهير" الآن .
نعم، الرَّوَاج الروائى الحادث الآن، فى مجمله، يتمحور حول "نهاية العالم" .





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى