لم يتعبه الباص ابداً عندما وقف في ساحة الطيران ليعلن عن نهاية الرحلة التي استغرقت ست ساعات من نهار تموزي قابلٍ لتصبب العرق من الجبينِ إلى الأبط الأملس ، نزلَ إلى الشارع الموازي لباب الشرقي كأنّه للتو خرج من غابةِ القصبِ يطلب حرية ذاته المراهقة في اكتشاف حضارة المدنية من دون دراسة الثانوية وحليب دراسة الابتدائية .بعدما تناول العصير الذي يدور داخل وعاء زجاجي بطعمِ الرمان مغمساً ريقه بقطعة كيك مستمعا إلى موسيقى وأغاني تناسب هذه المدينة التي تختلف عن مدينته بالبنايات الشاهقة .
أول فاحشة فعلتها عيناه هي عناق رأس جسر الجمهورية في وضح النهار دون أن تسمع أحذية المارة أو العجلات السود التي في دائرة واسعة وسط عاصمة قد درسَ عنها في الجغرافية والتاريخ ووطنية الدراسة كأنما عرف كل النقاطِ الدالة التي تدله إلى أحياء بغداد من دون سؤال أو دليل . لم يرد التحية على موج دجلة المنساب من تحت مسيره اتجاه كرادة مريم ، ماسكا بأساور الجسر الأخضر توقف لينظر الى السلّم الكونكريت قبل أن يسحق عقب سيكارته تحت كعب حذائه لينزل إلى البستانِ أو الحقل المتروك لإن باله منشغلاً في البيوتات والقصور التي اصطفت على جانب الآخر من الشاطئ ولا يعلم هل هجره السكان أم أن القيلولة تركته وحيدا يتلقى خدشات من زعانف البني او خياشيم الكطان . يبدو عليه أنه من سكان هذا الحي طرقَ الباب مباشرة وما أن فتحت الباب امرأةٌ عمرها يقارب عمر أمه وبنفسِ ( عصابة الرأس من الجرغد والشيلة ) قالت: تفضل ،
-اجابته عبارة عن سؤال أهذا بيت محمد ..
-أي محمد ..
-خالي …خالي محمد .. أنا قاسم ، ابن أم قاسم ..
-هلا بيك تفضل ادخل .. خالك بعدَ بالدوام ، متغدي …
-نعم تغديت بالطريق ..
انتهى الحديث والفاصل بينه هو دوار المروحة السوداء التي تدور إلى اليمين واليسار بحثا عن وجهٍ يتصبب حياءً يستظل تحت سقفٍ معتمدا على أعمدة ( الجندل ) والحيطان المصقولة بالجص الأبيض وهناك صور مؤطرة وغير مؤطرة متفرقة كأنها لمسة عجوز تناثرتْ على غبارِ الماضي الشاحب قد تنتظر مجيء المرتقب المعني ، عادة ستكون العودة من العمل بعد أو قبل العصر بقليل لذا فإن القيلولة لا معنى لها في الوقت . قصد الحمام فمرّ بعجوز عمياء تركن إلى إحدى زوايا الباحة المفروشة ( بالفرشي ) صاحت بأعلى صوتها من هذا ، أجابتها أم محمد عن اسمه واستمرت هذه العجوز بالحديث عن أمه وأمها وأبيها ، كادَ أن يبلل بنطاله لولا تدخل الخالة بالسماح له بالذهاب إن الحمام .
الصوت الذي يسمعه كان هو صوت خاله الذي عاد من عمله في ترسيم وتخطيط شوارع بغداد في مديرية المرور ووضع العلامات الدالة ، بعد تبادل القبلات والسؤال والحديث القصير المتقطع عن الأهل ..
-هيا نذهب وأشوفك بغداد …
قبل المغيبِ وأثناء الليل الوهاج بفضل القناديل المنتشرة على واجهات المحلات والبنايات ، تذكر شمعة ( النيون ) في بيته التي لا تضيء إلا بعد الساعة العاشرة ليلا لعدم كفاية الطاقة الكهربائية . عرفَ شارع السعدون والفرع الذي يؤدي إلى دائرة الشهادة الجنسية في البتاوين .
دخل في أحدى بارات شارع السعدون يتناول العشاء بنهم بينما خاله يسكب ما في القنينة في كأسه من شراب ذهبي تغطيه رغوة بيضاء كأنها زبد طاهر من أنهار الفراديس التي يحلم بها المتخيلون . علقت في ذهن ضيف العاصمة أغنية ( سلمان المنكوب ) التي دندن بها خاله ربما باتت معهُ على الوسادة تحلمُ بيوم جديد وعالم جديد .
لم يكن صعبا مكان دائرة شهادة الجنسية في البتاوين ، يعرفه أغلب العراقيين حيث تكتظ الشوارع بالغرباء الذين يبحثون عن بصمة ثبوت الهوية العراقية في بدء موسم التهجير لمن لا يثبت عراقيته وهنا وقف لحظةً ليطلق على الشارع تسمية " مشيمة جنسية العراقي ".
الوقت الفاصل بين استلام معاملته والواحدة بعد الظهر يحتاجُ إلى قدمين يسعيان الى البحث في معالم ( السعدون ) وأول قراءة لعالم الاساطير هو المدخل الرئيسي في سينما أطلس التي تقع بين منطقة التجارة ومنطقة اللهو ، والمغري فيها اسم الفلم ( أبي فوق الشجرة ) لعبدالحليم بمثابةِ القفزة النوعية من عالم الريف إلى محيط العربي والاستمتاع بالحداثة وتجديد دم الشبابية . في بادرةٍ حديثة للحرية كانت امتلاك علبة سكائر وعلبة كبريت ذات ثلاثة نجوم والتدخين أمام الملأ دون حرجٍ والشراء بما يشتهي من الصحف والمجلات ، لم يكترث للمعاملة سواء انجزت أم لم تنجز بل يريد زيادة عدد ايام المكوثِ في العاصمة ليحمل قصصاً معهُ عن ما رأى وما سمع من أغاني سعدي الحلي ..
أستقل الباص الاصفر الواقف بنفس مكان نزوله " شركة العكيلي للسياحة والسفر " تاركاً حقيبته عند بيت خاله بعدما سمع صوتا ينادي باسمه الكامل من أحد أفراد الشرطة الواقف على مكان مرتفع ليلقي المعاملات المعادة بسبب نقص كلمةٍ أو جملة مفيدة أو توقيع …
عاد إلى أهله لاجل أثبات مسقط رأس والده العسكري المتطوع في الجيش منذ حرب ١٩٤٨ في فلسطين ولم يدرك قلق أم محمد عند عودتها من عملها ( طباخة ) في بيت حامد أخ رئيس الجمهورية عبدالكريم ، أشتد قلقها لغاية عصرِ ذلك اليوم لولا تخمينُ ابنها محمد بأن هناك نقصاً في المعاملة وعاد ليكمله .
بالفعل عاد في جمعة الآتية لكن هذه المرة العودة تختلف عن سابقتها فالخطوات متقنة والنظرات حاذقة وحركات الذراعين ثابتة الموازين ، قبل أن يترك أثراً في جسرِ الجمهورية الأخضر ويخط حرف اسمه الأول وتاريخ اليومَ ولو يدرك أنه لا يراه أبدا ..
تكررت مرافقة خاله لمعرفة معالم بغداد ، بغداد التي لم تنم ليلةً ولا تأخذ قسطا من الراحة لا في القيلولة ولا عند الغروب ، هي تغني أطول من أغنيات أم كلثوم وترقص على أنغام الف سنة وسنة ، قررَ أن يقاسم بغداد دجلةَ وابو نواس ويقايضهم الحي الذي يقطن فيه ، يدوّن في دفتره الصغير الأبيات الشعرية الاولى خارج نطاق الدراسة وامتحان اللغة العربية ، وكأن تكليفه الشرعي قد وجب عليه أن يسمع كل ما هو جديد ويمزجه مع الأصوات القديمة لمغنين قدامى .
تردّد كثيرا في الحديث لأصدقائه عن شهادة الجنسية المغلفة بغلاف جلدي والتي لابد أن تنفعه يوما لإثبات هويته . ولا يمكن أن يقدم تجربة رحلته بطبق من ذهب من دون مقابل كقدحِ شاي في كازينو الليل أو في مقهى عبود . استفاد من رحلته بعد سنوات قليلة حين رافقه أصدقاؤه عند قبولهم في جامعة بغداد ليكون دليلا لهم ويفتح لهم ستائر شارع الرشيد والسعدون ومطاعمها .
بقلم : عبدالزهرة خالد-البصرة
———————————
أول فاحشة فعلتها عيناه هي عناق رأس جسر الجمهورية في وضح النهار دون أن تسمع أحذية المارة أو العجلات السود التي في دائرة واسعة وسط عاصمة قد درسَ عنها في الجغرافية والتاريخ ووطنية الدراسة كأنما عرف كل النقاطِ الدالة التي تدله إلى أحياء بغداد من دون سؤال أو دليل . لم يرد التحية على موج دجلة المنساب من تحت مسيره اتجاه كرادة مريم ، ماسكا بأساور الجسر الأخضر توقف لينظر الى السلّم الكونكريت قبل أن يسحق عقب سيكارته تحت كعب حذائه لينزل إلى البستانِ أو الحقل المتروك لإن باله منشغلاً في البيوتات والقصور التي اصطفت على جانب الآخر من الشاطئ ولا يعلم هل هجره السكان أم أن القيلولة تركته وحيدا يتلقى خدشات من زعانف البني او خياشيم الكطان . يبدو عليه أنه من سكان هذا الحي طرقَ الباب مباشرة وما أن فتحت الباب امرأةٌ عمرها يقارب عمر أمه وبنفسِ ( عصابة الرأس من الجرغد والشيلة ) قالت: تفضل ،
-اجابته عبارة عن سؤال أهذا بيت محمد ..
-أي محمد ..
-خالي …خالي محمد .. أنا قاسم ، ابن أم قاسم ..
-هلا بيك تفضل ادخل .. خالك بعدَ بالدوام ، متغدي …
-نعم تغديت بالطريق ..
انتهى الحديث والفاصل بينه هو دوار المروحة السوداء التي تدور إلى اليمين واليسار بحثا عن وجهٍ يتصبب حياءً يستظل تحت سقفٍ معتمدا على أعمدة ( الجندل ) والحيطان المصقولة بالجص الأبيض وهناك صور مؤطرة وغير مؤطرة متفرقة كأنها لمسة عجوز تناثرتْ على غبارِ الماضي الشاحب قد تنتظر مجيء المرتقب المعني ، عادة ستكون العودة من العمل بعد أو قبل العصر بقليل لذا فإن القيلولة لا معنى لها في الوقت . قصد الحمام فمرّ بعجوز عمياء تركن إلى إحدى زوايا الباحة المفروشة ( بالفرشي ) صاحت بأعلى صوتها من هذا ، أجابتها أم محمد عن اسمه واستمرت هذه العجوز بالحديث عن أمه وأمها وأبيها ، كادَ أن يبلل بنطاله لولا تدخل الخالة بالسماح له بالذهاب إن الحمام .
الصوت الذي يسمعه كان هو صوت خاله الذي عاد من عمله في ترسيم وتخطيط شوارع بغداد في مديرية المرور ووضع العلامات الدالة ، بعد تبادل القبلات والسؤال والحديث القصير المتقطع عن الأهل ..
-هيا نذهب وأشوفك بغداد …
قبل المغيبِ وأثناء الليل الوهاج بفضل القناديل المنتشرة على واجهات المحلات والبنايات ، تذكر شمعة ( النيون ) في بيته التي لا تضيء إلا بعد الساعة العاشرة ليلا لعدم كفاية الطاقة الكهربائية . عرفَ شارع السعدون والفرع الذي يؤدي إلى دائرة الشهادة الجنسية في البتاوين .
دخل في أحدى بارات شارع السعدون يتناول العشاء بنهم بينما خاله يسكب ما في القنينة في كأسه من شراب ذهبي تغطيه رغوة بيضاء كأنها زبد طاهر من أنهار الفراديس التي يحلم بها المتخيلون . علقت في ذهن ضيف العاصمة أغنية ( سلمان المنكوب ) التي دندن بها خاله ربما باتت معهُ على الوسادة تحلمُ بيوم جديد وعالم جديد .
لم يكن صعبا مكان دائرة شهادة الجنسية في البتاوين ، يعرفه أغلب العراقيين حيث تكتظ الشوارع بالغرباء الذين يبحثون عن بصمة ثبوت الهوية العراقية في بدء موسم التهجير لمن لا يثبت عراقيته وهنا وقف لحظةً ليطلق على الشارع تسمية " مشيمة جنسية العراقي ".
الوقت الفاصل بين استلام معاملته والواحدة بعد الظهر يحتاجُ إلى قدمين يسعيان الى البحث في معالم ( السعدون ) وأول قراءة لعالم الاساطير هو المدخل الرئيسي في سينما أطلس التي تقع بين منطقة التجارة ومنطقة اللهو ، والمغري فيها اسم الفلم ( أبي فوق الشجرة ) لعبدالحليم بمثابةِ القفزة النوعية من عالم الريف إلى محيط العربي والاستمتاع بالحداثة وتجديد دم الشبابية . في بادرةٍ حديثة للحرية كانت امتلاك علبة سكائر وعلبة كبريت ذات ثلاثة نجوم والتدخين أمام الملأ دون حرجٍ والشراء بما يشتهي من الصحف والمجلات ، لم يكترث للمعاملة سواء انجزت أم لم تنجز بل يريد زيادة عدد ايام المكوثِ في العاصمة ليحمل قصصاً معهُ عن ما رأى وما سمع من أغاني سعدي الحلي ..
أستقل الباص الاصفر الواقف بنفس مكان نزوله " شركة العكيلي للسياحة والسفر " تاركاً حقيبته عند بيت خاله بعدما سمع صوتا ينادي باسمه الكامل من أحد أفراد الشرطة الواقف على مكان مرتفع ليلقي المعاملات المعادة بسبب نقص كلمةٍ أو جملة مفيدة أو توقيع …
عاد إلى أهله لاجل أثبات مسقط رأس والده العسكري المتطوع في الجيش منذ حرب ١٩٤٨ في فلسطين ولم يدرك قلق أم محمد عند عودتها من عملها ( طباخة ) في بيت حامد أخ رئيس الجمهورية عبدالكريم ، أشتد قلقها لغاية عصرِ ذلك اليوم لولا تخمينُ ابنها محمد بأن هناك نقصاً في المعاملة وعاد ليكمله .
بالفعل عاد في جمعة الآتية لكن هذه المرة العودة تختلف عن سابقتها فالخطوات متقنة والنظرات حاذقة وحركات الذراعين ثابتة الموازين ، قبل أن يترك أثراً في جسرِ الجمهورية الأخضر ويخط حرف اسمه الأول وتاريخ اليومَ ولو يدرك أنه لا يراه أبدا ..
تكررت مرافقة خاله لمعرفة معالم بغداد ، بغداد التي لم تنم ليلةً ولا تأخذ قسطا من الراحة لا في القيلولة ولا عند الغروب ، هي تغني أطول من أغنيات أم كلثوم وترقص على أنغام الف سنة وسنة ، قررَ أن يقاسم بغداد دجلةَ وابو نواس ويقايضهم الحي الذي يقطن فيه ، يدوّن في دفتره الصغير الأبيات الشعرية الاولى خارج نطاق الدراسة وامتحان اللغة العربية ، وكأن تكليفه الشرعي قد وجب عليه أن يسمع كل ما هو جديد ويمزجه مع الأصوات القديمة لمغنين قدامى .
تردّد كثيرا في الحديث لأصدقائه عن شهادة الجنسية المغلفة بغلاف جلدي والتي لابد أن تنفعه يوما لإثبات هويته . ولا يمكن أن يقدم تجربة رحلته بطبق من ذهب من دون مقابل كقدحِ شاي في كازينو الليل أو في مقهى عبود . استفاد من رحلته بعد سنوات قليلة حين رافقه أصدقاؤه عند قبولهم في جامعة بغداد ليكون دليلا لهم ويفتح لهم ستائر شارع الرشيد والسعدون ومطاعمها .
بقلم : عبدالزهرة خالد-البصرة
———————————