محمد السلاموني - (1) المسرح الوقائعى والضرورة التاريخية :

(1)

[فطالما ثمة موت فهناك أمل جمالى] .
ريجيس دوبرى


"المسرح الوقائعى" يتأسس دراميا على العلاقة التفاعلية "الحيَّة" ، إذ يختص بأنه المسرح الذى "يحدث" هنا والآن، وينبثق من صميم المشاركة الإيجابية بين الممثلين والجمهور؛ هذا فى مقابل المسرح الذى "يُقَدَّم" للجمهور معلَّبا وجاهزا، ويكتفى فيه الجمهور بالتلقى السلبى .
ويتميز هذا المسرح بخصيصتين متلازمتين :
الأولى "فنية": فالمسرح الوقائعى- التفاعلى- ذو طبيعة "إرتجالية"، لذا فهو يطيح بالتوزيع الوظيفى القديم- المعتاد فى العملية المسرحية التقليدية . ذلك أن التمثيل فى هذا النوع من المسرح ليس سوى أحد الوظائف التى يضطلع بها رجل المسرح، هذا قياسا إلى الوظائف الموكلة إليه، إذ تتسع وتتعدَّد لتشمل التأليف والإخراج الفوريين ... إلى جانب ضرورة إلمامه بالفنون الأدائية الأخرى كالرقص والغناء وفن العرائس ... إلخ، أى بالفنون التى يمكن أن ينفتح عليها العرض الإرتجالى، ضمانا لمواصلة عملية الإنجذاب للعرض من قِبَل الجمهور .
الثانية "سياسية": فالمسرح الوقائعى "سياسى" فى جوهره؛ بتجذُّره فى القلب من الواقع اليومى الجماهيرى، فى الفضاءات العمومية المفتوحة "الشوارع والميادين وأماكن التجمعات الجماهيرية قاطبة"؛ إذ يسعى لتحويل الواقع- الذى تحياه الجماهير- إلى "سؤال"؛ أى أنه يسعى لدفع الجماهير للتساؤل بشأن ما تحياه بالفعل- لتتأمل و تفكر، مما يجعل من الواقع وجودا منكشفا فى حالة فعل . هذا فضلا عن دفعه للتواصل الحوارى بين الجميع إلى أقصاه، وما يمكن أن يعنيه هذا من رفع الوصايا عن الجماهير .
وبذا فهو يبدو كانعراج فى مسيرة الحياة اليومية، أو كتحويل قسرى للواقع المتناثر على هيئة أحداث متنافرة ومتناقضة إلى وعى جزئى أو كلى- بغرض إتخاذ موقف "جماعى" مما يحدث .
مثل هذا النوع من المسرح، فيما مضى، كان يتطلب عادة من القائمين عليه ضرورة الإنطلاق فيما بينهم من تصور مرجعى أيديولوجى ما متعلق بالواقع الكلى، يأوِّلون به "الوقائع المتناثرة" .
وتاريخيا كانت بعض الجماعات اليسارية، فى أماكن عديدة من العالم، تعد ذلك المسرح أداة ناجزة للعمل الجماهيرى، للدرجة التى صار معها أداة سياسية حاشدة . أما الآن فلم يعد الأمر كذلك، إذ تحتَّم على المجتمعات المعاصرة- فى ظل ظهور وتنامى ما يسمى بـ "ثقافة الكتل الجماهيرية"، وتحوُّل "ثقافة النُّخَب أو الثقافة العالمة" إلى التقوقع على الذات داخل كهوف العزلة الإنفرادية أو الجماعية؛ باعتبارها شيئا من الماضى، أو باعتبارها وصايا أيديولوجية نخبوية متعالية مفتقرة للمعايير الواقعية الجديدة . أقول: تحتم على المجتمعات المعاصرة، التى تتميز بتحولها إلى "جماعات معنى: أى جماعات يلتف كل منها حول معنى ما يُعدّ بمثابة الهوية المغلقة لتلك الجماعة"، وفى إطار المجتمع المدنى المتنامى، أن تطرح جانبا الأنواع الإبداعية العتيقة، والجماليات المتعلقة بها، فى تجاوز للنظام المسرحى القديم، والآليات العديدة التى فرضها علينا وظللنا نعمل بداخلها لعشرات السنيين، دون أن ندرى أننا بهذا نمارس الإمتثال القسرى لسلطة نظامية تتغلغل فى سماكة المجتمع. وإذا كان بإمكان أحدى جماعات المعنى أن تلجأ إلى المسرح الوقائعى وتستثمره فى الدعوة للمعنى الأيديولوجى الذى تعتنقه، إلا أن (مسرح الدولة- بمؤسساته العديدة: البيت الفنى للمسرح، الثقافة الجماهيرية... إلخ) يجب أن يبدأ من النقطة التى تتقاطع عندها مسارات المعانى العديدة والمختلفة التى تتبناها جماعات المعنى، سعيا منه لتدشين إطار دلالى "وطنى" عام، حاضن للجميع- للحفاظ على الدولة المصرية نفسها من التفكك والتناثر. من هنا، يجب أن يحل "الناشط الثقافى- الجماهيرى" محل "الفنان" كمقولة ثقافية تقليدية .
هذا وتحويل "فنان المسرح" إلى "ناشط ثقافى"، بقدر ما يعنى تجاوز التراتبية الرومانسية القديمة بين البشر، إلا أنه لا ينفى عن رجل المسرح كونه فنانا، كل مافى الأمر هو أن كلمة "فنان" ملوَّثة بالتميُّز والتعالى، فالفنان يملك- لايزال- ما لا يملكه المتلقى؛ بما لديه من قدرة على الإبداع ؛ باعتباره "كادحا تخييليا". وإذا كان هذا هو الوضع المعتاد فى المسرح التقليدى أو الذى اعتدنا عليه، فالمسرح الوقائعى لا يُعد تفاعليا بحق إلا إذا استطاع تفجير الطاقات الإبداعية الكامنة بداخل المتلقى- على الأقل فى لحظة العرض؛ بأن يحوِّله من "متلقى" إلى "مبدع"- مما يعنى أن المسرح الوقائعى يكشف عن "الفنان" الذى بداخل المتلقى . وعندما يصير المتفرج فنانا هو الآخر، حينذاك، لا يجوز إستئثار رجل المسرح بلقب "فنان" . باختصار: الناشط الثقافى هو المحرِّض على الفكر والإبداع - دون أن يستأثر بهما.
ما ذكرته للتو، يعد جزءا من "فلسفة المسرح الوقائعى"...
ما من مسرح بلا فلسفة خاصة به، هذا وفلسفة مسرح ما تنبع من ثقافة المجتمع، بقدر ما تتقاطع مع هذه الثقافة- فإذا كانت مهمة الفلسفة المعاصرة هى الإجابة عن سؤال: ما الحاضر؟، فتلك الإجابة تصبّ- فى نهاية الأمر- فى اقتراح مسار أو مسارات جديدة، يضمرها المجتمع ذاته؛ إذ يراكمها المجتمع فى لاوعيه الثقافى، بحيث يمكن لتلك الثقافة أن تتجَدَّد بما يتلاءم مع التطلعات الحضارية والتحديات التاريخية الخاصة بذلك المجتمع .
تكمن مشكلتنا المسرحية، تحديدا، فى غياب أو ربما تشوش تلك الفلسفة، وهو ما يمكن التعبير عنه بـ "غياب النقد المسرحى، بما هو وعى المسرح بنفسه"، لأن تلك هى وظيفته التى تقاعس عن أدائها- يشاركه فى ذلك المسرحيون جميعا بالطبع .
نحن نعرف أن المسرح لا يوجد "فى ذاته)" مرة واحدة وإلى الأبد، ويظل مساويا لنفسه على طول الخط . مما يعنى أن المسرح ليس هو المسرح دائما، فما يتكرَّر فيه ليس التشابه وإنما الإختلاف- وتاريخ المسرح يحدثنا عن تعدد التصورات الجمالية المناقضة للتصور الأرسطى القديم بوضوح يند عن الوصف . فعلى سبيل المثال: تعريف الدراما بأنها تتأسس جوهريا على "الصراع الدرامى"، جاء به برونتيير فى نهاية القرن التاسع عشر، كبديل عن التعريف الأرسطى الذى ينص على أن "الفعل" هو جوهر الدراما . ذلك التحوُّل فى مفهوم الدراما، هو الذى منح المسرح الإمكانية الدائمة لتجاوز نمطيته القديمة المنبنية على المبدأ الأرسطى القائل بـ "عدم التناقض"؛ وكما نلاحظ، فبدون "هيجل والأخوين شليغل وغيرهم" وإقرارهم بأن "التناقض هو جوهر العالم"، ما استطاع برونتيير إعادة تعريف الدراما .
الواقع والواقعة :
هذا وفلسفات المسرح الخاصة بالعصور أو بالحقب التاريخية المختلفة، ترتبط بما انتهت إليه النظم المعرفية فى كل عصر، فالشخصية الدرامية، ليست إنسانا من لحم ودم بقدر ماهى تصور أو تعريف للإنسان، يتوافق مع التعريف الذى اهتدى إليه كل عصر، بل كل مجتمع عن الإنسان، وكذلك "الواقع أو السياق التاريخى" الذى توجد به تلك الشخصية، فهو لا يزيد عن مواضعة ثقافية- أى أن (الواقع هو: ما تواضع عليه المجتمع ثقافيا)، لذا فهناك فرق كبير بين (الواقع) و(الوقائع- أو الأحداث)؛ الوقائع هى ما نحياه بالفعل ونكون جزءا منه، إنها ما تعَرِّفه المعاجم اللغوية باعتباره (الحاصل، الحادث، يقال: أمر واقع ...) .
وهو ما يعنى أن هناك فرق بين المعنى اللغوى والمعنى الإصطلاحى "للواقع".
"المعنى اللغوى" هو المعنى القديم، وفيه كان يتم وضع "الوقائع اليومية والتاريخية" كمقابل للطبيعة والوجود، أما "المعنى الإصطلاحى" فحديث، ويقال إن "لسينج" هو أول من أشار إليه
، ليتطور بعد ذلك ويتحول إلى [كل ما هو تجريبى عينى وقابل للإدراك الحسى المباشر؛ وهو ما يعنى أن "الواقع" فلسفيا يفيد كل معطى موضوعى يوجد خارج الذات، ويتميز باستقلاله عنها.]، لكنه انتهى مع نيتشه وهيدجر إلى كونه هو "ما نمسِك به بوضوح من خلال اللغة"، وهو ما تم اعتماده الآن باعتباره "ما نتواضع عليه ثقافيا" .
وبذا يصير "الواقع" هو التصور الكلى، الجامع، المختبئ وراء الوقائع العديدة "المتشظية والمتناقضة والمتنافرة ... إلخ" .
نحن لا نتواضع على وقوع حادثة وقعت بالفعل، إذ تفرض وجودها علينا، أما الواقع- بما هو تصورنا عن المعنى الكلى الكامن وراء الوقائع- فيخضع للمواضعة، من هنا كان اختلافنا فى تحديد الواقع .
سأكتفى مؤقتا بتلك التحديدات، و على ضوئها سأتناول مسرحنا فى علاقته بالواقع والإنسان، للكشف عن بعض أوجه "أزمتنا المسرحية" .

وللحديث بقية.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى