محمد السلاموني - تداعيات حول "الأنا ــ جسدى"

[لست كثيرا ولكن أنا كل ما لدى...] .
فيليب ديك ..

كم هى مُلهِمَة وكاشفة تلك العبارة التى قالها "ديك"...
[لست كثيرا ولكن أنا كل ما لدى] .
ذلك أنه حين أكون (أنا) كل ما أملك، فما الذى يمكن أن يعنيه السؤال عن (الكثرة) ؟.
فـ (أنا) تصير هى الوجود (كل الوجود) الذى يتحدَّد بالنسبة إليه كل موجود آخر- وبذا يستحيل علينا أن نصفها بالضآلة؛ ببساطة، لأنها لا تقاس على شئ سوى على (عدمها) فقط ...
نعم، (الأنا)- بهذا التعريف- هى الشئ الوحيد الذى يتطابق مع نفسه، ويتحدد وجوده بالنسبة إلى عدمه
/ أى أنها وإن كانت تخضع لثنائية "الوجود والعدم"، ولثنائية "الأنا والآخر"، وغيرها من الثنائيات، إلاَّ أنها، هى نفسها، تظل مكتنزة بما يتجاوز تلك الثنائيات- بل لعل تاريخ الفلسفة كله يشهد أنه، فى أحد أبعاده، لم يكن سوى محاولة لمقاربة الوضعية الخاصة والإستثنائية للـ "أنا".
هنا (ديك) يؤسس لأنا أخرى ، غير (الأنا الفلسفية - أو الأنا أفكر أو الأنا العارفة) ، إذ تتأسس على (الجسد) لا على (الوعى) ؛ الجسد الذى نتعين به كموجودات أصلية يصدر عنها (الوعى) كظل ؛ إذ ليس الوعى سوى ظلها العابر...
ما يتحدث عنه (ديك) هنا ، هو (الأنا) الجذرية بما لايوصف ؛ التى لا وجود لنا بدونها ، والتى هى ما يتأسس عليه وجودنا.
أما (الأنا أفكر - أو الأنا العارفة) ؛ التى تم إعتمادها لقرون طويلة باعتبارها (المعنى الأصلى) ، فليست سوى (إستعارة فلسفية) حلت محل (الأنا - الموجود الأصلى) ، وتم اعتمادها كحقيقة ، هذا على الرغم من أنها لاتزيد عن (ظل أو شبح) تمَدَّد بغرض الإستحواذ على الوجود برمته بـ "المعرفة- الوعى"، أى أنها تتأسس على الإدعاء بأنها المعنى الذى تنحدر منه المعانى الأخرى "التى سترتبط بعد ذلك بالتنوير ثم الحداثة الغربيين"- ومن هنا صارت الأشياء تتحدَّد بمعانيها وليس بوجودها ذاته كأشياء ، ولأن الإنسان هو الذى يمنح المعنى ، إذاً هو الذى يمنح الأشياء وجودها (حضورها) ؛ والأشياء التى لا معنى لها لاوجود لها ... هكذا ، حلت اللغة (كإستعارة) محل الأشياء ذاتها وصارت هى الوجود ؛ كل الوجود ...
يقول نيتشه بأن الميتافيزيقا ليست سوى لغة وأخلاق ...
وهو ما يعنى فى نهاية الأمر أن "الحداثة" لم تكن سوى التحقق الواقعى للميتافيزيقا؛ وهو ما تتكفَّل "مابعد الحداثة" بنقده ونقضه الآن .
تكمن المشكلة فى أن الأشياء بحاجة لمن يدرك وجودها ، هذا وإدراك وجود الأشياء يستحيل أن يتم بدون الوعى الإنسانى ، والوعى بدوره يتعذر عليه الوجود خارج اللغة .
إحلال اللغة محل الأشياء لا يعنى أن اللغة هى البديل عن الأشياء ، إذ ليس (لكل شئ كلمة جعلت له)- كما ذهب أرسطو؛ أى أن الكلمات لا تتطابق مع الأشياء ، لا (تمثل) الأشياء ، لذا فهى لا تظل ملتصقة بها (معلنة عن هويتها المطلقة) ، الكلمات (تدل) على الأشياء فقط ، ودلالة الشئ تتحدَّد بتجربتنا معه ، ولأن تجاربنا متعددة ومتغيرة فالدلالات تتعدد وتتغير أيضا ..
يقول نيتشه بأن (الكلمات أقنعة)، وينتهى إلى أن "الدال لا يخفى تحته مدلولا محدَّدا...".
يتحدث (هيدجر) عن (العالم كتمثل) ، ويقول بأن (الله ، والمطلق والجوهر... إلخ) هم الأقنعة التى ارتدتها (الأنا) طوال تاريخ الفكر الميتافيزيقى ، ولم تتكشف إلا مع (الكوجيتو الديكارتى : أنا أفكر إذاً أنا موجود) . هذا ولم تكن (النزعة الإنسانية) التى تنامت بعد ديكارت (تحت مسمَّى العقلانية) سوى ممارسة من الميتافيزيقا لنفسها ، بما تجلت معه (الأنا) بوضوح (فيما يشبه ذوبان المساحيق فى الماء وتعرية الوجه) .
لكنها (الأنا) تعود لتتقنَّع من جديد ، مع (هيجل) ، حين قال بأنها ليست سوى نقطة عابرة على مسار الفكر ...
ومع البنيوية والتفكيكية تصير (النزعة الإنسانية) هى الجدار السميك الذى شيَّدته الميتافيزيقا حول ما ادعت دائما أنه (الحقيقة) ، فيعملان معاولهما فى ذلك الجدار ، أملا فى الكشف عن (الخواء) الذى يخفيه ...
هكذا ، يتبخر (الوعى) ومعه المعنى (والآنا العارفة) / بعد اكتشاف البنيات التى تخضع لها تلك (الأنا) المغترة بنفسها (بنية التاريخ - ماركس / بنية اللغة - دى سوسير / بنية اللاوعى - فرويد / بنية الخطاب - فوكو / بنية الإستعارة - لايكوف وجونسون ... إلخ) ...
ما الذى تبقى لنا إذن؟ ...
إنها (الأنا - أنا جسدى) ...
حقا أنا
(لست كثيرا) ولكن (أنا كل ما لدى...) .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى