محمد السلاموني - الواقع والواقعى والمتخَيَّل: مقاربة أوَّلية

"الواقع" بعيد جدا، بل أبعد مما يتصَوَّر أحد- لذا فهو مجهول وغامض ويستحيل إدراكه...
هكذا ينتهى الفكر الفلسفى المعاصر .
وعند لاكان، هناك فرق بين "الواقع" وبين ما نعدُّه واقعا، أى "الواقعى"...
فـ "الواقع" لا يُدرَك إلاَّ بوسائط ؛ أى أننا ندركه من خلال وسيط ما- أى بإحالته إلى شئ آخر، كالأدب والفن والفكر والعِلم وما شابه... إدراك "الواقع" هنا يعنى أن ما نتحَصَّل عليه منه هو "الواقعى" .
ـــ الميتافيزيقيون فقط هم الذين يدَّعون إمكانية الإمساك على نحو مباشر بالواقع الذى يقع خارجنا.
يذهب "هيجل" إلى أن [كل ما هو عقلانى هو واقعى وكل ماهو واقعى هو عقلانى]- غير أننا نستدل على قصده الذى هو "تطابق العقلانى والواقعى" بالعودة إلى زعمه المرجعى بأن "الواقع شفاف؛ يبين عَمَّا وراؤه"... فوفقا لتوجُّهه الفلسفى "المثالى"، لم يكن بإمكانه فهم "الواقعى- العقلانى، والعقلانى- الواقعى" كما نفهمه الآن .
ومع ذلك، فما نفهمه الآن من "الواقع"- بما هو ما يستحيل إدراكه- كامن فيما ذهب إليه هيجل
، ذلك أن الأمر كان بحاجة إلى انزياح ما عن "الشفافية" التى قال بها - وهو ما أحدثه الفكر اللاحق عليه...
لذا، هناك من الفلاسفة المعاصرون من يذهب إلى إمكانية تأويل الفلسفة الهيجلية على نحو "مادى" مناقض تماما للمثالية القديمة التى تم وصمه بها .
العلامة اللغوية و إمكانية الكذب:
وما أريد قوله يتعلق بالسرود التخييليَّة؛ لا سيما الرواية- بما هى عالم لغوى يتمَيَّز بالتمحور حول "الكذب"، أى بالإنحراف عما نعتقد بأنه "الحقيقة"، عن طريق اللعب باالعلامات اللغوية؛ فما يمنح السرود الخيالية إمكانية الوجود "كما يذهب أندريه بوتيتا" هو اعتباطية العلامة اللغوية- أى عدم مطابقتها للمرجع الواقعى، إلى جانب إمكانية انفكاك الدال فيها عن المدلول...
عدم التطابق هذا- أى المنطقة الفاصلة بين "الدال والمدلول والمرجع" هى المنطقة غير المُهَيمَن عليها، الخارجة عن السيطرة، التى ينمو فيها "كل ما هو مختلف": الكذب، السرود التخييلية... إلخ .
فى العلامة اللغوية المتعلقة بشئ ما، نعثر على الحضور الظِّلى للواقع فى شموله، ذلك الحضور الظِّلى هو الذى يؤطِّر ومن ثم يًبَئِّر على ما نريد قوله.
فقولنا "السماء زرقاء" يخفى فى طياته جميع الحالات الأخرى التى يمكن أن تتَّصِف بها السماء
، وهو ما يعنى أنها حاضرة على الرغم من عدم ذِكرها- هكذا، فما يقال، يقال، عبر ما لا يقال .
الفكرة هنا تتمحور حول أن ما من حضور إلاَّ وينطوى بداخله على غياب ما، والعكس صحيح أيضا.
وهو ما يعنى أن "الواقع- غير المُدرَك"، أى الغائب، الذى يستحيل الإمساك به، يحضر "ظِلِّيَّا" أو كضباب هائم فى الذاكرة؛ ليلعب دور البانوراما الخلفية لما نقصده...
"الواقعى" هنا - أى "ما نعدُّه واقعا"- هو ما نبَئِّر عليه، الذى هو مقصدنا مما نقول...
ما نقوله يحضر على مرجعية ما يغيب، "فهو المُنتَزَع منه"، لذا فما يغيب هو الذى يمنح ما يحضر إمكانية الوجود .
// الخلاصة:
"الواقع" هو ما يؤطر "الواقعى"؛ فبوصفه غائبا فهو ما يمنح الحضور لما نعدُّه واقعيا، هذا "الواقعى" هو ما ينفلت "مضيئا" من الواقع المُضَبَّب، الغائم أو المعتم...
فى الضوء المتسَرِّب من الواقعى، يبدأ الواقع فى الإتضاح بدرجة ما، وهو ما يعنى أنه يدخل فى المقاربة الواقعية من الباب الخلفى...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى