عبد القادر محمد علي - التغريبة الإرترية

أن أسمع خبراً مفرحاً عن ارتقاء أحد الأقارب درجة في السلم الاجتماعي بالسفر للعلم أو العمل يثير عندي مع الفرح قدراً من الأسى المكتوم؛ لأنه يذكرني بفرع جديد من الشجرة سيُضعف البعد روابطه بها كحال كثيرين سبقوه.
خبرات عمر من الغربة علمتنا أنك بعد أن تغلق الباب خلفك وتتجه للمطار لا يبقى بين يديك إلا الاحتمالات وبوفرة لا تحسد عليها؛ فمن المحتمل أن تعود ومن المحتمل أن لا تعود، ومن المحتمل أن تكون العودة قريباً ولربما تستغرق عقوداً، قد ترى بعض الوجوه التي تركتها خلفك وقد يكون هذا الوداع الأخير، ولكل احتمال أمثلة لا تحصى من محيطك القريب، تخرج بجعبة مليئة بالاحتمالات وبالذكريات، وبينما تتساقط الأخيرة في المشوار الطويل، تبقى الاحتمالات دوماً قدرك. لكن أتعلمين لم كل هذا يا صفية؟
أتعلمون ماذا يعني أن تودع أم ابنها وحيدةً دون صدر الأم وكتف الأخت وحضن العائلة، نحن الإرتريين نعرف هذا.
ولدتُ في الخرطوم، نشأتُ في مدينة كسلا قرب الحدود السودانية الإرترية، قضيت شطراً من طفولتي في القاهرة، وبقية العمر في دمشق، وها أنا أكتب كلماتي في إسطنبول، ولا أدري بعد أي مدينة تنتظرني، من كل هذا هل أستطيع أن أقول من أنا وإلى أين أنتمي؟ ولماذا يتغرب أصدقائي ويعملون ليشتروا بيوتاً في أوطانهم ونتغرب نحن الإرتريين لنشتري بيوتاً في أوطان الآخرين؟ وإن كان كل الناس يعلمون أن الوطن (بالطبع!) سيكون مضجعهم الأخير، فهل أستطيع أنا الإرتري بعد هذه الرحلة الطويلة أن أكون جازماً مثلهم بمرقدي الأخير؟ … أتراك تعرفين الجواب يا صفية؟
أحادثها في الهاتف وتقول إنها بخير، وإن ما يعتريها من آلام وأمراض إنما هي نتيجة طبيعية للتقدم في السن، لكنني أعرف خيراً من أطبائها أن مرضاً واحداً يصيب أمي بكل هذا.. إنه الشوق، إن كانت هي في دمشق وأنا في إسطنبول وأخي الثاني في كندا والثالث في أمريكا وأخوَان في السودان، فكيف لا يتفتت الكبد شوقاً؟ كيف لا إن كان أخواها في السودان وأخت في جيبوتي وآخر في لندن ورابع في الإمارات، وخامس تحت ثرى الخرطوم لم تستطع وداعه لأنها تعيش في سوريا، ولم يبق لها إلا زيارة قبره وماذا تجدي الزيارة و"الغالي راح"؟ أتعلمين لم كل هذا يا صفية؟
وإن كان من تقاليد في عيد دمشق زيارة قبور الأسلاف ومعايدتهم، فأي قبر يستطيع الإريتري زيارته في العيد من قبور "الغوالي" وقد تشتت الجميع أحياؤهم وأمواتهم كلٌّ في واد؟ أي قبر أزور وجدي لأمي مدفون في مدينة، وجدتي لأمي في مدينة أخرى، وخالي في مدينة ثالثة، وعمي وعمتي في مدينة رابعة، وجدي لأبي في مدينة خامسة، أما جدتي لأبي فلا أعرف أين قبرها.. أتصدقون هذا؟ لأي جذور ننتمي نحن والحال هذه؟ ولكن أتعلمين لم كل هذا يا صفية؟
ما عاد يجمعنا إلا المناسبات التي يخطط لها بدقة في المكان والزمان وكأنها رحلة فضائية!
أتعلمون ماذا يعني أن تودع أم ابنها وحيدةً دون صدر الأم وكتف الأخت وحضن العائلة، نحن الإرتريين نعرف هذا، هذه خالتي تسكن في جيبوتي سافرت ابنتها إلى الصين لتدرس وبقيت تعالج الحسرة والشوق، والآن حان موعد سفر الأخرى للدراسة في السنغال، وهي وحيدة بكل ما تعنيه الكلمة لا أحد من أهلها مطلقاً ليواسيها أو يخفف عنها، ولها أمثال ممن يضطررن إلى إرسال فلذات الأكباد إلى الخارج للدراسة أو العمل أو حتى للخروج من "وطن" يصيح بك أن أخرج فهذه أعظم خدمة تسديها لي ولك، فلا جامعة هنا لتدرس بعد أن أغلقها النظام ولا مستقبل لتعمل، وما تستطيع السلطة الحاكمة أن توفره لك إنما هو نفق طويل بلا آخر تسميه وبالسخرية "الخدمة الوطنية".. أرأيت إلى كل هذا يا صفية؟
في زوارق الموت المتناثرة في المتوسط إرتريون كثر لن يعودوا إلى أمهاتهم ولن يحققوا أحلامهم، وأوروبا تتخذ إجراءاتها تخاف منهم وتراهم خطراً عليها وربما خطراً على الإنسانية، ولا أدري من الخطر الذي يجب أن يُخاف منه وأن يَخاف من تدميره للآخرين، يسكتون على سلطة تحكمنا تصنفها الأمم المتحدة كواحدة من أعتى الدكتاتوريات في عالم اليوم، ويتخذون الإجراءات ضدنا! .. أي عدالة هذه يا صفية؟!
ضعنا يا صفية فلا وطن "نلجأ" إليه والغرب لا يريدنا والشرق كذلك، إخواننا في العالم العربي بارعون في تذكيرك أنك لست من هنا، أنت غريب وإن أفنى أبوك عمره هنا وولدت أنت هنا ولا تعرف مكاناً غير هنا، لكن في الأوراق أنت من هناك فتدبر أمرك، فإن كنت تخاف على أطفالك الاندماج في الغرب، فهنا حتى هذا الترف غير ممكن، أنت تعيش هنا على الهامش وعلى "ذوق" الكفيل ولربما يرى أنك لا تستحق هذا الهامش، وفي عالم لا يعترف إلا بالأوراق أخبريني كيف أتدبر أمري يا صفية؟
وبعد أن تبعثرنا هكذا فما عاد يجمعنا إلا المناسبات التي يخطط لها بدقة في المكان والزمان وكأنها رحلة فضائية، لكنها حقاً قريبة من هذا فالعرس مثلاً لا يقام حيث يرقد الأجداد ولكن غالباً في القاهرة أو الخرطوم، حيث تستطيع العائلات التي تقدم من أربع أو خمس قارات أن تجتمع على مائدة واحدة كما كان يجتمع الجالسون عليها وهم صغار، حينما كان لهم وطن أو ما يشبه ذلك! لا نستطيع إقامة الزفاف في إرتريا بل القاهرة أنسب؛ لا لأنها أكثر حداثة، ولكن لأنك لا تأمن على نفسك في "حضن" الوطن، والأغرب لأن الأقارب في بعض الأحيان أصبحوا أكثر في بعض مدن الشرق الأوسط منهم في الوطن، ولأن بعض الأقارب لا يستطيعون الحصول على شينغن فأفضل الحلول الالتقاء في نقطة وسط الخرطوم أو القاهرة أو جدة، فلماذا الكل يهرب من وطني.. أتعلمين يا صفية؟
نحن أبناء إرتريا شردت حرب الاستقلال وأهوالها أجدادنا وحطمت طفولة آبائنا باللجوء والفقر والقتال، لكنهم كانوا يعيشون انتماءهم إلى وطن لا يعرفون سواه، وطن نشأنا نحن على سماع اسمه وقلوبنا توزعتها العواصم والبلدان، ثم أرغمتنا الديكتاتورية في إرتريا المستقلة على أن نكرر تجربة التشرد واللجوء والبحث عن وطن بديل، وما أدري ما سيكون حال أطفالنا والأجيال القادمة!
أعرفت يا صفية السبب في كل هذا؟ أعرفت ما فعلت بنا الديكتاتورية؛ سرقت أرض أجدادنا وتضحيات آبائنا وأحلام جيلنا وهوية أبنائنا وسرقت مع السلطة الوطن، فلا وطن نعود إليه في العطلة ككل الناس، ولا وطن يجتمع فيه من نحب ويجمعنا بهم، ولا وطن نموت فيه بسلام، أتُراك عرفت الآن يا صفية؟

عبدالقادر محمد علي
(صحفي إرتري. وباحث في شئون القرن الأفريقي)



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى