محمد عمار شعابنية - عالم سميرة السحيمي القصصي للأطفال

يختلف عالم الكتابة للأطفال من كاتب إلى آخر أو من كاتبة إلى أخرى ، غير أنّ الذي يمّيّز هذه الكتابة عن غيرها من شخص إلى آخر هو مدى القدرة على الإضافة والتجديد والابتكار ومواكبة التحوّلات التي لها تأثير على انشغالات الصغار بالمطالعة لإبراز إيجابياتها والتحذير من التأثّر والانخداع بسلبياتها . ولا يكون ذلك ممكنا بغير ترْقيّة أسلوب القصّ لأن الطفل اليوم لم يعد مرتبطا بالمناخ الذي كانت فيه الجدّات أو الأمهات يسردْن حكايات لِأحفادهنّ أو أبنائهن بحَكيٍ شفويّ أخّاذ ومُشَوّق .. أو لنَقُلْ أنّ الصغار افتقدوا هذه الممارسات لظروف حياتية جديدة لم تعد تسمح بانتشار السائد سابقا حتى ولو كان مُجْدِيا ومُنمّيا لخيال الصغار.
فالطفل اليوم وجد نفسه محاطا ومحاصرا بوسائل تواصل مرئية وبصرية واجتماعية عمّقت في حياته خيارات العزلة والابتعاد عن مشاركة الأسرة أجوائها الجادة والمرِحة فأصبح ميّالا إلى البحث عمّا يُسّلي فكره في ما تعرضه الأجهزة التلفزيونية أو الفايسبوك أو اليوتوب و غيرهما من أشرطة مغْرِيّة بجوْدة عرضها ولا يدرك أنّ مضامينها لا تتماشى غالبا وسلوكيات مجتمعنا وعاداته وتقاليده وتوْقِه وأحلامه .وقد سّهّل رواج تلك المعروضات عدم قدرة أغلبيّة الكُتّاب المنشغلين بأدب النشْء على منافستها إذا لم تكن النصوص المطروحة لقراءتِها من طرف أبنائنا قادرة على التأثير بحروفها وصُوَرها وحبْكتها الإنشائية ومضامينها الساحرة على الفكر والبصر. فالسحر في الكتابة للأطفال ضرورة إبداعية مطلوبة من طرف المتلقين الصغار الذين ينطلي عليهم فعله ليرغبهم في المطالعة التي أصبحت مهجورة من طرف أكثر من خمسة وتسعين في المائة من نسل البلاد العربية في أعمارهم المختلفة.

والأستاذة سميرة السحيمي كاتبة مرموقة في هذا المجال لأنها مؤمنة بما ذكرتُ أعلاه وباحثة عمّا يُرْوَى للصغار من نصوص نشرتْ منها إلى حدّ الآن أكثر من أربعين كتابا في مواضيع مختلفة وناهلة من محيط الهُنا والآن ولا علاقة لها بأساطير وحكايات الأوّلين ولا بالأهوال والغيلان ولا بما يدّعي أنّ الأسد ملك الغابة وهو لا يستحقّ هذا اللقب لأنّ الملك الصالح يعْدل بين رعيته بينما يمارس هوّ العنف ضدّ الحيوانات ويفترس أضعفها ويهاجم أقواها كالفيل والزرافة بقطيع كامل من بني جنسه .. فلسميرة الحيوانات التي تختارها لتُحرّك أحداث قصصها ولكنها حيوانات مسالمة وأليفة ولا تؤذي غيرها ، وفي ذلك حكمة منها تهدف إلى التقارب والتعاون والتآزر بين الأطفال الذين يقرؤون مواضيعها الموجهة إليهم .

ومن بين كُتبها التي تكاثرت أعدادها ومحتوياتها أشير إلى أنها نشرت خلال شهر أفريل 2018 ثمانية عناوين في دار اليمامة بتونس العاصمة ضمن سلسلة " مكتبتي المؤنسة "وتحصلتْ بواسطتها على جائزة معرض تونس للكتاب عام 2019 ، وهذه العناوين هي :

1) الجمل أصيل (لينعم المخلوق بالحرية ).
2) النملة المختلفة (العيش معا والمواطنة ). 3) السندباد يستيقظ ( المحبة والتعاون بين الأفراد) . 4) قوّة الإرادة ( الاجتهاد في الدراسة ) . 5) مهرجان النسيان ( الحياة داخل الأسرة ). 6) حفل الخضروات ( حفظ الصحة :التغذية والنمو). 7) ديك عنيد ( السلوك المدني واحترام الغير). 8) رحيل النوارس ( تلوّث الأوساط البيئية). يتراءى للمطلع على عناوين هذه الكتب أنّ مواضيعها مختلفة وأنّ بعض المتحرّكين في أحداثها ومحرّكيها فيهم مَن هو من جنس الحيوانات كالجمل والنملة ـ وهما أكبر وأصغر مخْلوقين يعيشان بالقرب من الإنسان وكلاهما يحمل الأثقال بصبر ومكابدة ـ إلى جانب النوارس والديك من ذوي الأجنحة وتتغذّى الأولى مما تصطاده من الأسماك معتمدة على أنفسها ويضمن الثاني قوت يومه مما يرميه إليه الإنسان من حبوب وغيرها ، أما البعض الآخر فإنه ينتمي إلى المخلوقات البشرية. المُطّـلع على ذكرْتُه فسوف يعتقد أنّ الكاتبة تسعى من خلال نصوصها تلك إلى التّوْريّة والترميز ولكن فعل القراءة يؤكد له عكس ذلك لأنّ تلك الحيوانات وإن تطابقت تحركاتها وأفعالها أحيانا مع تحرّكات البشر فإنها ستظلّ مرتبطة بمدى رؤية الإنسان إليها ـ كما رأتها سميرة السحيمي أو بما يخالف ذلك ـ وهي من أفضل الحيوانات وأذكاها ، بينما يوجد من بين البشر من هوّ من ذوي الأفعال الدنيئة والبخسة ومَن يتخبّط في الجهل والغباء .

فلنقرأ مثلا قصة " النملة المختلفة " حيث تشرع سميرة السحيمي ( من المتلوي التونسية ) في سردها لتضعها في إطار الواقع مبتدئة بهذه الفقرة: " وُلدتْ نمّولة في قرية نمل كبيرة على جزيرة الصخرة الزرقاء . إنها جزيرة رائعة الجمال وبعيدة عن أيادي البشر . استقرت جماعات من النمل في هذه الجزيرة الجميلة حيث وجدت كلّ ما يلزمها من غذاء كالحبوب والبذور. قرّرت جماعات النمل أن لا تغادر الجزيرة ".

توجد في هذه الفقرة القصيرة ،التي يمكن اعتبارها قصة ومضة للصغار، كلمات وإشارات مُضيئة تحرّض القاري الفطِن على الوقوف أمامها ليستنتج منها ما يلي : 1) إذا كانت جماعات النمل قد وَجدت كلّ ما يلزمها من غذاء كالحبوب والبذور فهل يعني هذا أنها ستستريح من العمل لِما يتوفّر لها من أكل أم ستفعل عكس ذلك ؟ سوف يُجبره السؤال المطروح على مواصلة القراءة ليظفر بالجواب . وفي ذلك ذكاء من المؤلفة التي تكتب قصصها للمطالعة من أول سطر إلى آخر سطر فيها . 2) لم تشِر سميرة في بداية القصة إلى جزيرة الصخرة مجرّدة من أية صفة أو نعْتٍ بل قالت " جزيرة الصخرة الزرقاء" للتأكيد على قوّة هذه الحجارة لأنّ الصخرة ذات اللون الأزرق تعتبر اشّدّ صلابة من كلّ الصخور ..والنمل بدوره من أصلب الكائنات العاملة وبإمكانه أن يحفر فيها بيوته رغم قسْوتها . 3) وإذا كانت جماعات النمل قد قررت أن لا تغادر الجزيرة فلا يظنّن القاري أنها تخشى من أن تغرق في مياه البحر المحيطة بها ، إنما لأنها وجدت فيها ما يساعدها على العيش والعمل بعيدا عن أنظار من يرغب في أن يحصل على الرزق دون بذل أيّ مجهود لأجل ذلك كالصراصير مثلا ، وعمّن يسعى إلى الهدم ونشر التّلوّث بينما يسعى النمل إلى دوام النقاء والحفاظ على نظافة المحيط . والنمل مخلوقات لا تشذّ عن قاعدة الحياة في حراكها وسكونها إذ يعتبر العمل أوْلى أولويات عيشها ،وهي لا تعرف التّعب ولا تكلّ من الشغل ، غير أن سميرة السحيمي قد اختارت الخروج بنا من ذلك النظام المحْكم معلنة عن شذوذ نمّولة عن طبائع جماعات النمل بالكسل ونبذ العمل والتهكّم من أبناء وبنات جنسها الكادحين لجمع المئونة وخزنها لأوقات الشدّة عندما يأتي فصل الشتاء، فرفعوا أمرها إلى ملكتهم التي حذّرتها من مغبّة سلوكها الأنانيّ الغريب والمارق عن طبيعة تصرفات الجماعة التي تنتمي إليها، فدعتها إلى مراجعة نفسها . شعرت نموّلة بأنها منبوذة من قِبَل الجميع فراجعت نفسها وتأكدت من أنّ لكل كائن دوره في الحياة وأنّ الأمن والحماية لا تتوفّران إلا وسط المجموعة بالقيام بما لها داخلها من واجبات وانخرطت تبعا لذلك في مشاركة بني جنسها في العمل .

طمأنت سميرة السحيمي قرّاء قصّتها منذ بداية الحَكِيّ بأنها سوف لن تقْسو على نمّولة لذلك أطلقت عليها ذلك الاسم للتّدلّل لأنها كانت على يقين من أنها ستعود إلى الجادة وستنخرط في مَسار زميلاتها إذ لا يعقل أن تتميّز نملة بالكسل . أما الهدف من وراء سرد القصة فهو تحذير الصغار من مغبة المروق عن النواميس والخيارات المتّبعة من الناس المثاليين الذين يؤمنون بأهمية العلم والعمل في حياتهم .

وتأتي قصة " رحيل النوارس" لإثارة موضوع حسّاس تعاني منه البشرية وجميع الكائنات والمجتمعات في الوقت الحاضر ويتمثّل في خطورة التلوّث الذي يتسبّب فيه بنو الإنسان بما يرمونه من فضلات وبما تنفثه مداخن المعامل والمصانع من نفايات وغازات سامّة وبما يتسرّب من أضرار ناجمة عن انتشار بقع البترول في البحر . وينخرط هذا الموضوع في أهمية المساهمة في التحسيس بواجب حماية المحيط والحفاظ على نظافة البيئة لضمان عيش جميع الكائنات في أوساط خالية من التعفّن والتشوّه وكل ما يؤدّي إلى الإضرار بالصحة والنقاء والبهاء. فالنوارس التي كانت تحلّق في السماء الممتدّة فوق البحر لاصطياد الأسماك التي تتغذّى منها من ناحية وليتيقّن البحّارة من إنهم قد اقتربوا من اليابسة عندما يرَوْنها، هلك العديد منها ومات بعد أكل الأسماك التي أضرّ بها انتشار بقع البترول السوداء والتي فارق الكثير منها الحياة ، فتناثرت جثث الضحايا من المخلوقيْن فوق رمال الشاطيء . أما الصيّادون فقد غادروا البحر الذي أضرّ بما يصطادون منه فلم يعد صالحا لتغذية الناس. وتوَفقت الكاتبة إلى فتح باب الأمل للتخلص من تلك الكارثة البيئية وللتأكيد على أن الإنسان الذي ينشر ما لا يليق بالأرض والمخلوقات قادر على إزالة ما تسبّب فيه من أضرار ، ولتبشّر النشء الجديد بأنّ إمكانية العيش في أمن وصحة وسلام مُتاحٌ توَفّرها عندما يُسهم بدوره ـ أي النشء ـ في وضع حدّ لِمَا قد يُعَكّر صفْو وجوده . ويبرز هذا التبشير من خلال مرور أب وابنه للتجوال على شاطئ ذلك البحر ليلاحظا انتشار جثث النوارس والأسماك فوقه إلى جانب بُقع البترول السوداء الطافحة فوق الماء فيلتقط الأب صوَرًا لما شاهده ـ وهو عضو في جمعية حماية البيئة ـ وعندما سأله الابن عمّن قتلها أجابه قائلا بأنه سيخبره بكل شيء عندما يعودان .
إلى أين سيعودان ؟
1) أما أن تكون القاصة تقصد بتلك العودة إلى البيت ليُسهِب الوالد في سرد ما يجب أن يرُدّ به على سؤال ابنه، وذلك للإخبار والنظر والتحقيق والتعليل في آن واحد. 2) وأما إذا كان القصد هو العودة إلى شاطئ البحر مرّة أخرى فذلك يعنى أنّ الأب سيسعى إلى التحريض على ضرورة الإسراع بإزالة تلك الملوّثات لتعود حياة الأسماك والنوارس والبحارين إلى سالف طبيعتها ، فيُطْلِع عندها صغيره على ما تمّ القيام بها لتطهير المكان من الملوّثات فيقتدي بسلوكه في ذلك مستقبلا. فهذه القصة التي تصدم فقراتها قرّاءَها الصغار بأحداثها القاتمة في البداية تعِدهم في ختامها بالاطمئنان على ما يحيط بهم وتمنحهم نفَسًا من الارتياح والأمل في محيط أفضل وأسْلم . وخارج القصص التي استلهمت مواضيعها من عالم الطيور والحيوانات والحشرات تأتي قصص" مهرجان النسيان " و" السندباد يستيقظ" و" قوّة الإرادة " وقد نهلت مضامينها من سلوكيات وتصرفات البشر في مظاهرها المختلفة ولكنها تركّز القصّ على ما يحدث في زماننا ومكاننا ولا تهتم بما هو غَيْبيّ أو بعيد عن واقعنا . فنَصّ " قوّة الإرادة " يعْرِض قصة طفل مُقْعَد ينتقل من بيته إلى المدرسة أو يعود منها إلى منزله على متن كرسيّ متحرّك. وفي إحدى الحصص التدريسية يطلب المعلم من تلاميذه إجراء بحوث ميدانية عن الحياة النباتية وتصنيف أنواعها . وإشفاقا منه على الطفل المقعد فرَاس يدعوه إلى الاكتفاء بإعداد بحث كتابي، فيشكر الطفل معلمه إلاّ أنه يصمّم في قرارة نفسه على إنجاز العمل كما هو مطلوب من زملائه . وعندما يعود إلى البيت يطلب من أبيه وأمّه أن يخطّطا لنزهة في ربوع "عين دراهم" الجميلة في الشمال الشرقي للبلاد التونسية فيلبّيان طلبه وينطلقون في الوقت المتفق عليه إلى المكان المذكور . هناك يدعو الطفل والديْه إلى إنزاله من فوق الكرسي المتحرك ليتلمس النباتات بيديْه ويقطف ما يرغب في الحصول عليه من مكوّناتها ، فيتحقق له ما أراد لينكبّ على البحث بين الأعشاب والزهور متحدّيا إعاقته بعزم صَلْب وإرادة قوِيّة . عند العودة إلى المدرسة والشروع داخل القسم في عرض البحوث المطلوبة يتميّز فراس على رفاقه بتقديم بحثه الذي ختمه بتقريرِ عَرْضه ،عبر حاسوب محمول ، عن أهميّة الغطاء النباتي في حماية البيئة ، فيصفّق له الجميع إعجابا بما أنجزه . وقد وردت هذه القصة مرَكِّزة على تواجد فراس في أمكنة ثلاث هي المدرسة والبيت والطبيعة فقط وهي الفضاءات التي لا يُشار فيها إلى المُعَوّق بأصابع الشفقة أو الاستهزاء أحيانا .
أما المحيطون بفراس فهم المعلّم والتلاميذ والوالديْن ، وهؤلاء هم الأقرب من غيرهم إلى احترام المُعَوّق . وقد استنتجتُ أنّ القاصّة من خلال ما كتبته في هذا الإطار تسعى إلى أن يؤمن الناس بجميع فئاتهم بأن للمعوّقين الطموحَ والقدرة على أن يسهموا في تحريك عجلات الحياة داخل مجتمعاتهم ، وهي مُحِقّة في ذلك.

وتأتي قصة " السندباذ يستيقظ " معلنة عن إيمان الكاتبة بأن القديم يمكن أن يجد مكانه في الجديد إذا أنصهر فيه وجارى واقعه وتأقلم معه ، لأنّ الثابتَ لا يقدر على مقاومة الفناء بينما يستطيع المتحوّل أن ينخرط في استمرارية الحياة . فلو وُجِد عمر ابن أبي ربيعة مثلا في زماننا لأدمن على لباس التّبّان وركوب درّاجة الفيسبا وحلاقة شعره على طريقة المارينز ليتمكّن من تمرير مغازلاته وأجوائه العاطفية بين جميلات عصرها . ولو كان أبو العلاء المعري بيننا لكتب قصائده بطريقة براير ولقرأ لطه حسين وأنيتا بيكر ولانخرط قي جمعيات المكفوفين . ولو كان زرياب من أبناء هذا الجيل لأسّس تخْتا موسيقيا ولشارك في مهرجانات قرطاج وجرش وأصيلة والقاهرة وللَحّن بعض الأغاني لسميرة بن سعيد ولطيفة العرفاوي وماجدة الرومي وغيرهنّ .. فهل استبطنت سميرة السحيمي قصصا موازية لهذا التمشّي ؟ نعم فقد كتبت " السندباد يستيقظ " ليتخلّى عن رحلاته عبر المكان ويقوم برحلة في الزمان تنتهي به إلى عصرنا ، فما هي قصّته وما هوّ مآله في زمن غير زمنه ؟
تقول الحكاية هناك مدينة عصرية عظيمة توجد فيها مكتبة كبرى تؤمها أعداد كبيرة من المطالعين الذين ازدحموا فيها ذات يوم فتساقطت كتبها وتناثرت على أرضيَتها ومن بينها كتاب مجلّد استقرّ بزاوية من زواياها فإذا بصفحاته تهتزّ وتنتفض ليتصاعد منها دخان أخضر تعلوه رائحة أزمنة غابرة .اتّخذ الدخان شكل شخص عليه أسمال أهالي مدينة بغداد القديمة. إنه السندباد الذي انتصب قائما وأعاد الكتاب إلى مكانه سائلا نفسه كيف استطاع المكوث بين ثنايا هذا الكتاب طيلة قرون .
يتأكّد مما ذكرتُ أنّ الكاتبة قد جعلت بطل قصّتها يستغرب من إقامته في زمن مضى بين طيات الكتاب ولم يغادره إلا في تلك اللحظة .. فهو إذَنْ مغامر مؤمن بأن التنقل في المكان لا يكون مجْدِيا ما لم يتنقل القائم به في الزمان أيضا ليكتشف عوالم جديدة ومختلفة عن العالم الذي كان يعيش فيه. قفز السندباد من نافذة المكتبة فواجهته مدينة جديدة ذات أضواء تجعل الليل نهارًا وتختلف عن مدن القرن الثالث أو الرابع للهجرة .بدتْ له كل الأشياء مختلفة تمام الاختلاف عما عهده في عصره لأنها وليدة عالم متطوّر بما أحدثته فيه وسائل التقدم العلمي والتكنولوجي . كان السندباد يتجوّل في شوارع المدينة بأثوابه القديمة الملفتة لأنظار المارة والمثيرة للضحك فالتفّ حوله الأطفال وهم يقولون إنه السندباء ويسألونه أين " ياسمينة " و"حسن الشاطر " و" علي بابا ". يتقدم منه الطفل عُدَيٌّ سائلا : من أين جئت فيجيبه بأنه جاء من صفحات كتاب ليعرف أين هو وفي أيّ زمن ؟ .. يقول له الطفل أنت في تونس الخضراء فيطلب منه السندباذ مساعدته على فهم زمنه وعالمه فيستضيفه عُدَي في منزله .في الطريق لم يعرف السندباد معنى الكهرباء واعتبر السّيارة دابّة رغم أنها لا تُشبه الحصان أو الجمل وكان يضع أصبعيّه في أذنيْه عندما يسمع موسيقى صاخبة ..
تبرز سميرة في القصة مزايا المبتكرات والمكتشفات التي ساعدت على تطوير عيش البشر وعكس ذلك تفضح المحدثات السلبية التي تعكّر صفو الحياة بصخبها وضجيجها وملوّثاتِها.
عند دخول المنزل تَملّــك الذّهول أسرة عُدَيٍّ الذي خاطب أفرادها بأنّ الضيف مولع بفنّ المسرح وأنه أراد مفاجأته بهيئة السندباد . كان السندباد متْعبا فقدّم له مُضَيِّفه ثيابا للنوم ودعاه إلى الرّقاد على سريره .. استلقى السندباد على الفراش وبدأ يغطّ غطيطا عاليا تاركا العنان لأحلام جديدة .
لم تواصل الكاتبة القَصّ لتطلعنا على نوعية هذه الأحلام لأنها قد رغبت في أن يشاركها القراء وبالخصوص منهم الأطفال في تصوّر نهاية مناسبة لما روَته لهم.. فهل سيفصح الحلم عن مغامرة سندبادية في وقتنا الحاضر يكتشف فيها نماذج جديدة لحسن الشاطر وياسمينة وعلى بابا قد تكون أخطر وأشطر من السابقين لهم .. أم سوف ينسى البيضة العملاقة ليقول كلاما في آليات الحرب والقنابل النووية أم سيركب الطائرة والقطار السريع لزيارة معالم جديدة متطوّرة ؟ مهما كانت نهاية القصة من كاتبتها أو من قرّائها فسوف لن يكون السندباد إلا رحّالة مغايرًا في وقت مغاير للذي ترعرع فيه . لقد اجتهدت القاصة سميرة السحيمي في أن تبتكر عالم قصّها للأطفال فتميّزت نصوصها عن الكتابات النمطية . ورغم اكتمال تجربتها في هذا الإطار فإنها ما زالت تبحث عن الإضافة لسدّ الفراغ الحاصل في المكتبات الخاصة والعمومية التي تعرض أدبا مُوَجّها للأطفال لا يبتعد كثيره عن ترجمة ما كتبه الأوروبيون بالخصوص في قرون غابرة ولا يجتهد لتجاوز الاستلهام من أحداث قصص قديمة تمّ تداولها سابقا . وأنا أرى في الأسطر الأخيرة من هذا الموضوع أن ما قامت به الفنانة فاتن الشرفي من تصميمات ورسوم للكتب الثمانية ـ التي وُضِعتْ كما أشرت في البداية في إطار سلسلة اسمها " مكتبتي المؤنسة " ـ تعتبر بدوْرها إبداعا على إبداع للبرهنة على أنّ الرسم والكتابة الأدبية قادران على التجانس والتكامل لخلق تعبيرة واحدة بأداتين مختلفتيْن هما القلم والريشة ما دام الاثنان يُمْسَكان عند الشروع في إنجاز مشروعيْهما بالسبابة والإبهام ويتّكِئان على التخيّل والفكرة .

وأرى إلى جانب ذلك أنّ قصص سميرة السحيمي للأطفال جديرة بأن تحظى بدراسات وبحوث تخرّج يحَرّض الجامعيون طلبتهم على إنجازها ، إذ لا يعقل أنّ يظل أدب الطفل في أقطارنا العربية مُغيّبا في الجامعات في الوقت الذي اهتمت به مؤسسات وجمعيات ثقافية وأدبية خصصت لمنشوراته مسابقات معتبرة وتعددتْ الملتقيات والندوات المنشغلة بدراسته وتكاثرت المجلات المعنية به وتوزّعت المكتبات المكتظة رفوفها بمنشوراته على المدن والقرى .

==========

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى