سعد عبد الرحمن - الموسيقى والغناء في حياة العقاد وفكره

-1-
دلف المفكر العلامة عباس محمود العقاد من بوابة قراءة الأدب إلى كثير من مجالات المعرفة والثقافة فلم يقتصر اهتمامه على الأدب واللغة والفلسفة والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والتصوف وتراجم العباقرة والنابغين فقط بل تجاوزها إلى المشاركة في الحياة السياسية وتحرير الصحف والاهتمام بمطالعة الفنون التشكلية (التصوير والنحت على وجه الخصوص) وتذوق الموسيقى والغناء ولكنّ كل من كتبوا عن العقاد اجتذبتهم حين تصدوا للكتابة عنه جوانب هي الأبرز في عالمه الأدبي والفكري وفي حياته فكتبوا عنه شاعرا وناقدا ومؤرخا وفيلسوفا أو متفلسفا وزعيما سياسيا وكتبوا عن معاركه الفكرية والأدبية والسياسية مع أعلام عصره وعن بعض جوانب من حياته الخاصة لا سيما العاطفية منها ولكن يظل العقاد أشبه بجبل الجليد لا يبدو منه فوق سطح البحر ألا جزء صغير بينما يظل الجزء الأكبر من جبل الجليد غاطسا في الأعماق لا يرى ويحتاج إلى من يغوص إليه ليكشف عما يتيسر له الكشف عنه، فحتى الآن لم يكتب أحد مثلا عن العقاد لغويا أوالعقاد برلمانيا أوالعقاد مجمعيا وله في تلك الجوانب إسهامات شتى لا تنكر، وإذا كان اهتمامه بالفنون التشكيلية لم يحظ إلا بانتباه قليل فإن اهتمامه بالموسيقى والغناء من الجوانب التي لم يلتفت إليها أحد من الكتاب أو الدارسين حتى الآن، وهو ما سنحاول أن نسلط قليلا من الضوء عليه، وهذا قصارى ما نطمح إليه.
ومما لاشك فيه أن لقاء العقاد الأول بالموسيقا والغناء كان إبان طفولته شأن كثير من أبناء الأقاليم، فقد ولد العقاد بمدينة أسوان جنوبي مصر عام 1889 وهي كسائر المدن والقرى المصرية أتى عليها حين من الدهر لم تكن تعرف فيه من الموسيقا والغناء إلا الألوان الشعبية، يستحضرها أهلها في كثير من الاحتفالات الاجتماعية مثل حفلات الزواج والميلاد والختان والمآتم والمناسبات الدينية المختلفة كالمولد النبوي وموالد الأولياء وحلقات الذكر في المساجد وما أكثر المناسبات، كما كانت مقاهي أسوان في أيام الحملة الإنجليزية المصرية على السودان لقتال الدراويش(1) كما يروي العقاد في ذكرياته تزخر بشعراء الربابة وكان هو ولداته من الأطفال تحت تأثير الحرب الدائرة يلعبون ألعابا من وحي مناخ الحرب مثل "لعبة الجيوش" التي ينقسمون فيها إلى فريقين أو جيشين كما يحدث في المعارك ويستعينون في تلك اللعبة بأناشيد شعراء الربابة في الملاحم العنترية والهلالية واليزنية لزيادة الحماسة والحمية(2).
وفي المدرسة الابتدائية حين كان العقاد تلميذا بها - بالرغم من أنه لم يكن منتسبا إلى فرقتها الموسيقية والرياضية - كان يشترك في الحفلات العامة كما يشترك سائر تلاميذها ويتذكر أنهم ألقوا في يوم واحد أربعة أناشيد من صباح ذلك اليوم إلى مغربه، أولها كان نشيدا مترجما عن الإنجليزية، أما الأناشيد الثلاثة الأخرى فقد كان منها السلام الوطني وهو نغمة واحدة ترددها الفرق الرياضية بألفاظ مختلفة، ثم كان منها نشيد الاستقبال، ويذكر العقاد مطلع كل نشيد من الأناشيد الأربعة معقبا على ذلك بقوله: وقد حفظت على غير هذه الأوزان ثلاثة أو أربعة أناشيد تفتتح بها الحفلات العامة على حسب مناسباتها، وكانت الدفعة التي سبقتنا تحتفل بإعلان نتائج الاحتفال على ملأ من المدعوين وفي جملتهم آباء التلاميذ ومن برنامج الاحتفال تحية التلميذ الناجح بعزف السلام من الفرقة الموسيقية وترديد النشيد من منتخب الفرق الرياضية بتلك التحية(3).
وليس بالمستبعد أن تكون أُذن العقاد قد التقطت في طفولته وصباه بعض ألوان من الموسيقا الغربية التي كان يصطحبها معهم السياح من زوار أسوان في الشتاء عبر إسطوانات الحاكي (الفونوغراف) وخصوصا أنه كان تلميذا طُلعة وصل في إجادته للغة الإنجليزية إلى حد أنه كان يقرأ بها كتبا كاملة أو بعضها: منها ما كان يشتريه بقروش قليلة من المكتبات التي تنشط بين أوساط السياح الأجانب خلال فصل الشتاء أو ما كان يُهدى إليه أحيانا كترجمة القرآن الكريم وكتاب أليكس كارليل عن الثورة الفرنسية اللذين أهداهما إليه سائح إنجليزي مسلم(4).
ولا شك أيضا أن علاقة العقاد بالموسيقى سماعا وتذوقا قد ازدادت وثاقة حين قدم إلى القاهرة ففي القاهرة المسارح وصالات الرقص والغناء وجوقات الموسيقى ومشاهير المطربين والمطربات وفرق التمثيل المختلفة التي كانت في أغلبها تقدم مسرحيات غنائية أو بمعنى أدق مسرحيات يتخللها الغناء سواء كان الغناء جزءا من العرض المسرحي أو كان مجرد فواصل بين فصول العرض، وفي القاهرة أيضا كانت هناك دار الأوبرا الخديوية والاحتفالات السنوية بموالد آل البيت الأطهار كالحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والسيدة عائشة وغيرهم من كبار أولياء الله الصالحين وأقطاب الصوفية والتصوف وفي تلك الموالد يكثر المبتهلون والمنشدون والمغنون والشعراء الجوالون وموسيقى الربابة والمزمار والأرغول وغيرها من ألات الموسيقى الشعبية، وقد أشار العقاد إلى تردده الباكر على المسارح الغنائية حين كتب يقول: كنت في الخامسة عشرة من عمري عندما شهدت تمثيل الشيخ سلامة حجازي لأول مرة وكان ذلك حوالي سنة 1904.
ولأنه في ذلك الوقت لم يكن قد استقر به المقام في القاهرة فقد كان يقدم في نهاية كل أسبوع من الزقازيق حيث كان يعمل آنذاك ليغذي روحه بالفن ووجدانه بالطرب، يقول: كنت لهذا أستقل قطار السكة الحديد من الزقازيق إلى القاهرة مساء كل خميس وكانت أجرة القطار بالدرجة الثالثة تسعة قروش في الذهاب ومثلها طبعا في الإياب ويضاف إليها ثمن تذكرة المسرح ومصاريف المبيت بالقاهرة وهذه كلها في جملتها كلفة ينوء بها مرتبي الصغير ولكنني كنت أعود من القاهرة ككل مرة وفي نفسي شعور بأنني قد أخذت حقي وزيادة مع الرغبة المتجددة في إعادة الكرة كل خميس.
وعندما استقر العقاد في مسكنه رقم 13 بشارع السلطان سليم الاول بمصر الجديدة ذلك البيت الذي قضى فيه معظم سني حياته حتى أتاه اليقين في 12 مارس 1964 تابع هوايته في التردد على مسارح الغناء وعلى وجه الخصوص مسرح الشيخ سلامة حجازي الذي حظي بإعجابه واهتمامه إلى درجة متابعته في أكثر من مكان، يقول: حضرت الشيخ سلامة في مسرح شارع عبد العزيز ثم في مسرح شارع المهدي ثم في مسارح شتى بالقاهرة والأقاليم فسنحت لي فرص كثيرة لمشاهدة الروايات التي كان يوالي تمثيلها ومنها هملت والبرج الهائل واليتيمين وغيرها من المؤلفات والمترجمات(5)
ولم يقتصر اهتمام العقاد في سماع الموسيقى والغناء العربي وتذوقهما على الشيخ سلامة حجازي فقط فقد امتد اهتمامه سماعا وتذوقا إلى أغلب رواد الموسيقى والطرب في أوائل القرن العشرين، يقول في إحدى مقالاته: وقد سمعت هؤلاء الرواد جميعا ما عدا عبده الحامولي وألمظ(6).
ثم اقتنى العقاد حاكيا (فونوغرافا) وظل هذا الحاكي لديه سنوات طويلة يسمع من خلاله شتى ألوان الموسيقى والغناء حتى بعد ظهور الإذاعات الأهلية ثم الإذاعة الرسمية الحكومية عام 1934 وكان يطلق على الصندوق الذي يحتوي على الفونوغراف اسم "التابوت" ويطلق على أسطوانات الموسيقى والأغاني المصاحبة للحاكي اسم المزامير، يقول في كتابه الصغير "في بيتي": واستقبلنا في ركن من أركان ردهة المائدة الصغيرة صندوقا مربعا يوحي إلى الناظر إليه باسمه المتفق عليه وهو التابوت، سماه باسم التابوت المقدس كل من رآه لأنه يشبه في منظره وموقعه توابيت القديسين في أركان المزارات، ولم أنكر التسمية لأن التابوت فيه تقديس وتخليد وماذا على الموسيقى التي اشتمل عليها التابوت أن تتصف بالتقديس والتخليد؟، وكان هذا التابوت مشتملا على حاك قديم.
وقد كان العقاد ذواقة للموسيقى شرقيها وغربيها فكما كان يسمع الموسيقى والغناء الشرقي كان يسمع الموسيقى والغناء الغربي، وقد كان في التابوت مع الفونوغراف كما كتب يقول: بضع مئات من مسموعات الشرق والغرب، ومنها توقيعات على بعض الآلات السماعية العجيبة التي تختلف بسلمها الموسيقي عن السلم الشائع في معظم البلدان كتوقيعات أهل الصين(7).
ولا يستنكف العقاد أن يحن في سنوات حياته الأخيرة إلى سماع أصوات رواد الموسيقى والطرب المصريين القدامى فيقول: ويشرفني أن أعود إلى سماعهم بغير استثتاء لأنهم كلهم توافرت لهم حلاوة الصوت وبراعة الأداء والأستاذية أو (المعلمة) معلمة الريس على تخت الغناء ومنهم من أستعيد حياته لو فتحت لي ليلة القدر التي يستجاب فيها للدعاء لأنه أهل أن يسمع في هذا الزمن وبعد هذا الزمن كما سمع في زمانه الذي نشأ فيه، ولا أعتقد أن صوت سلامة حجازي أو ترنيم أمين البوزري(8)على الناي ينقضيان بانقضاء زمن من الأزمان على خلود الإنسان في كل آونة وفي كل مكان.
وليس معنى حنين العقاد إلى استعادة أصوات رواد الموسيقى والطرب القدامى أنه كان ضد التطور الذي هو سنة كل شيء في الحياة بما في ذلك الموسيقى والغناء فهو يرى أن الاستعادة لا تعني استمرارها وبقاءها في عصر غير عصرها ولا تعني رفض ما أعقبها من تجديد فيكتب قائلا: على فرط إعجابنا بمن هم أهل للإعجاب من بلابل الزمان الساحر لا نود للغناء الحديث أن يعود جملة واحدة إلى مثل نشأته الأولى قبل مائة سنة أو قل خمسين سنة على عهد المنيلاوي والسبع وعبد الحي حلمي وداود حسني وإخوانهم المعروفين فإنها خطوة من خطوات الزمن تذكر وتستعاد ولكنها لا تعود للبقاء ولا لإلغاء ما بعدها من الخطوات(9).
وقد كان للعقاد في سماع الموسيقى على الفونوغراف بالبيت طقوس معينة فهو حين يستمع إلى لون من ألوان الموسيقى الرفيعة لا يمكنه الانشغال عنها بشيء آخر فلا يأكل مثلا أو يتحدث، إنه يحتشد بكامل وعيه وشعوره للسماع، فـفي رأيه ليس من كرامة الموسيقى الرفيعة أن تنشغل بشيء آخر وأنت تستمع إليها، ويعلل ذلك بـأنها: شاغل كاف لمن يستوعبها ويتقصاها ويتأمل في معانيها وإشاراتها، أما الموسيقى التي يمكنه أن يستمع إليها بينما هو مشغول بأمر آخر كأن يأكل أو يتحدث فإنها بالقياس إلى الموسيقى الرفيعة بحسب تعبيره: بمنزلة الجارية المستعبدة من السيدة المطاعة لأنها تُسليك وتُلهيك ولا تخاطب روحك وخيالك ووجدانك فتستدعيك إلى الإصغاء والمبالاة.
وهو يختار لسماع الموسيقى ساعات كساعات التهجد في جنح الظلام فإن كان الوقت شتاء فأكثر سماعه للموسيقى في ساعات اليقظة الباكرة بعد هدأة النوم الأولى ففي الشتاء كما يقول: يطول الليل وتثقل المطالعة في الهزيع الثاني أو الثالث من ليل الشتاء المديد فيعرض عن القراءة ويحتشد للسماع لا ضجرا بالمطالعة ولا دفعا للسأم والأرق بل يحتشد لسماع الموسيقى نلبية لنجوى العبقريات في وقت لا يسمع فيه غيرها ولا يوحي فيه السكون السابغ على الكون بغير وصية الإصغاء، والعقاد يود سماع الموسيقى في كل وقت سواء في الصيف أو الشتاء كلما انتبه في مثل ذلك الموعد من الليل ولكن الشتاء مقفل مستور والصيف مفتح مكشوف، ويفسر ذلك بأن سماع الموسيقى في ذلك الوقت من الليل لا شك أنه يجعل جيرانه يظنون بعقله الظنون بعد ليلة أو ليلتين على الأكثر(10).
وحين كانت تتاح للعقاد فرصة سماع الموسيقى والاستمتاع بها خارج البيت لم يكن يفلتها، ففي مقالة له بعنوان "رقص ورقص" مثلا يحكي انه في شتاء هذا العام (1939) ذهب إلى دار الصور المتحركة (السينما) وهناك شاهد أو سمع شريطا شاملا أي فيلما عن الموسيقار الألماني الكبير يوهان اشنراوس .. ذلك الذي يقال إنه أرقص الكرة الأرضية في مدارها بموسيقاه ولم يعد في المغرب ولا في المشرق إنسان يرقص على الأنغام الفنية المهذبة إلا وقد رقص على أنغامه.
ويصف الليلة التي قضاها بدار السينما مستمتعا بموسيقى اشتراوس بقوله: كانت الليلة التي قضيناها في سماع اشتراوس من ليالي الفن النادرة وكانت دار الصور المتحركة مكتظة بالسامعين وكان تسعة أعشارهم من الأوربيين والباقي من المصريين الذين لا يسيغون ما يساغ من ذلك الغناء الشائع في بلادنا إن صحت تسميته بالغناء(11).
وكان حريصا من غير تعمد على متابعة ناشئة المطربين والمطربات ممن يشكلون الطبقة أو المستوى الثاني بعد أم كلثوم وعبد الوهاب في الغناء ليرصد حركة التطور في مسيرة الغناء لدينا فكتب مثلا قبل وفاته بعدة شهور يقول: وقد اتفق لي أنني سمعت أصوات الناشئين جميعا بعد طبقة أم كلثوم وعبد الوهاب فأعجبني منها ما يعجب جماهير الناشئين.
ولكن العقاد ينتظر من تلك الاصوات أن تواصل النمو حتى تنضج نضجا تاما فيقول: "ولكنني لم أزل أشعر بفراغ بعد ذلك الإعجاب السريع" مشبها إعجابه بتلك الأصوات بأنه "كالإعجاب بالثمرة المعلقة على غصنها في انتظار الاستواء"، أو كأن كلا منهم تلميذ مجتهد "يبدو على محياه في حماسته المتطلعة أن اجتهاده كله معلق على انتظار درجة او درجتين من جانب الممتحنين وهو على ثقة من عاطفة التسامح عند مستمعيه المشجعين"(12).

=======

الحزء الثاني
-2-

وقد مرت الموسيقى العربية خلال القرن التاسع عشر والعشرين من وجهة نظر العقاد بثلاثة أطوار:
1- أولها طور الجمود والتقليد وقد كانت الموسيقى في هذا الطور كأنها تمرينات على الآلات في مختلف النغمات لا ينظر فيها إلى معنى الكلمة ولا إلى معنى النغمة ولا إلى معنى من المعاني على الإطلاق وإنما ينظر فيها إلى تطبيق الدوكاه والسيكاه والجهاركاه وغيرها من الألحان والمقامات كما ينظر إلى القوالب المحفوظة في رسائل الدواوين وخطب المنابر وديباجة العقود واصطلاح التحية والدعاء.
2- وجاء الطور الثاني على أيام عبده الحامولي ومحمد عثمان فانتهت موسيقى التمرينات وبدأت موسيقى الغناء المقيد بكلماته ونغماته فلا يتغنى المغني بغير كلام يقصده ويعنيه ويصوغه في اللحن الذي يؤديه.
ويشرح ذلك بقوله: فلما نبغ هؤلاء الرواد تصرفوا وأحسنوا التصرف في توقيع أدوارهم على آلات الموسيقى على حسب القواعد والأصول مع استقلالهم بالذوق والفهم فيما يختارونه من تلك القواعد والأصول، ولا يعاب عليهم في عصرنا هذا إلا أنهم أسرفوا في التطبيق حتى كادت أدوارهم أن تكون كتمرينات المبتدئين بتعلم اللغة العربية على قواعد النحو والصرف في كتابة موضوعات الإنشاء، وكانوا من أجل ذلك يفتتحون السهرات دائما بعرض هذه التمرينات على كل آلة من آلات الطرب وتلك هي "التقسيمات" التي كانوا يوقعونها على القانون وعلى العود وعلى القيثارة وعلى الناي وعلى غيرها من آلات التخت إلى أن تنتظم مرة واحدة في توقيع ألحان الدور المنتظر عند ابتداء الغناء.
وبالرغم من الخطوة التي خطاها الموسيقيون في هذا الطور والتي تمثلت في نجاح الموسيقيّ المبدع في أن يعطي الكلام نغمات تناسب معناه ولكنه لم يصل يومئذ إلى النغمة المعبرة بمعزل عن الكلمات وإلى الأصوات الموسيقية الناطقة بغير ألفاظ وحروف(15).
وفي الواقع فإن ما يشير إليه العقاد من عدم قدرة الموسيقى العربية في هذا الطور من مسيرتها على الاستقلال عن الكلمة والغناء قد مرت به الموسيقى الغربية ولكن قبل الموسيقى العربية بقرنين من الزمان تقريبا وعن ذلك يقول برنارد شامبينول في كتابه "تاريخ الموسيقى": بأنه في الأوبرات الإيطالية لم تكن موسيقا الآلات تقوم إلا بدور ضئيل الأهمية فكانت المسرحية تكتب لواحد من المغنين وكل ما عداه من الأشخاص كانوا يعملون على معاونته في دوره الأساسي، فبينما كانت الصالة تضج بالتصفيق إعجابا بتغريداته تجد أن المتفرجين كانوا لا يلقون بالا بالمرة إلى أسلوب الأوركسترا أو إلى أسلوب غناء مجموعة المنشدين واستمرت السيادة لأسلوب الغناء الاستعراضي متفشية بكل مظاهرها التافهة في الموسيقى حتى عهد فاجنر(16).
3- أما الطور الثالث فقد جاء على يد سيد درويش أول منشد وملحن جعل الألحان نفسها أداة للتعبير المستقل غاية ما استطاع في زمانه ولم تكن الألحان قبله أداة من أدوات التعبير بل كان غاية المطلوب منها أن توافق معاني كلمات مرصوصة ثم تستند في تعبيرها إلى معاني تلك الكلمات فلو انفصلت عنها لما بقي منها معنى مفهوم، ويشبه العقاد اللاحقين بسيد درويش فيقول: مثل اللاحقين به مثل المترجم الذي ينقل إلى هذه اللغة عبارة يفهم كلماتها ويبحث لها عن عبارتها الفنية، وقد تكون عباراته أبلغ من أسلوب السيد درويش في تعبيره ولكنه يظل بعد ذلك صاحب الفضل في تأسيس اللغة الموسيقية مهما يرتفع صرح البناء على ذلك الأساس(17).
وعن طريقة المطربين الكبار السابقين على عصر الحامولي في تسجيل ألحانهم - ولم يكونوا فد عرفوا بعد التدوين بالنوتة الموسيقية - يرى العقاد أن المحقق في هذا الأمر: أن الفن الموسيقي القديم كانت له طريقته في التسجيل وهي طريقة الحفظ والرواية ولا تقل هذه الطريقة في ضبطها للأصوات والألحان عن طريقة السلم الإفرنجية لأن المهم في السلم هو حفظ النسبة بين النغمات والمقامات على حسب الاختيار وقد طرأت على هذه النسبة تعديلات كثيرة في الزمن الأخير وفقا لكل مذهب من مذاهب الفنانين، ولا يخفى أن حفظ النسبة بين التغمات كحفظ النسبة بين المسافات في كل قاعدة ولا مانع في هذه الحالة من الشذوذ على قياس أو من الخلط على قاعدة كما حدث فعلا في بعض مذاهب الفن الحديث.
ويرجع العقاد بطريقة تسجيل االموسيقى التي كانت تعتمد قبل عصر عبده الحامولي ومحمد عثمان على الحفظ والرواية ولا تنحرف قيد شعرة عن المحفوظات وعن الأصوات المناسبة لها إلى عدة أصول ومراجع أهمها من وجهة نظره:
1- علم التجويد أو علم القراءات وقد اجتمع من مراجع هذا العلم في القاهرة وطنطا - حيث يحفظ القرآن بالمسجد الأحمدي - ما لم يجتمع في بلد من البلدان الشرقية وتعاون الثقات من أقطاب فن الإيقاع في المشرق والمغرب على صيانة هذا العلم فيما يتعلق بحفظ القرآن الكريم، ومما يدل على ارتباط علم القراءات بعلم الإيقاع في الفن الشرقي إلى العصر الأخير أن أكثر واضعي الألحان منذ خمسين سنة كانوا من المشايخ الذين نشأوا أولا بين القراء ثم اشتغلوا بأناشيد الموالد وانتقلوا منها إلى التلحين ونذكر منهم الشيخ يوسف المنيلاوي والشيخ سلامة حجازي والشيخ زكريا أحمد والشيخ سيد درويش وآخرين لم يشتهروا بالفن شهرة هؤلاء.
2- فن التوشيح وقد تجمع أقطابه في القاهرة من الأقطار الإسلامية المتفرقة وكان آخر أقطابهم الشيخ درويش الحريري - رحمه الله - وفد كان يحفظ مئات التواشيح بألحانها التي لا خلل فيها، وإليه كان مرجع الفنانين في ضبط هذه الألحان.
3- أناشيد الموالد ومثلها أناشيد القدّاس في المعابد القبطية ويغلب على اعتقادنا أنها ترجع إلى أصول سابقة لعصر الإسلام وعصر المسيحية وبينها من التقارب في قواعدها العامة ما ليس يخفى على المستمعين إليها في الصعيد الأوسط والصعيد الأعلى على الخصوص، وهناك نشأ أكبر الموالدية على قلتهم في الأقاليم الشمالية.
4- جميع المردّدات الشعبية من أنغام شعراء الربابة الحماسيين والشعراء الذين ينشدون مووايلهم على الربابة أو على الأرغول، وتضاف إلى تلك المرددات أناشيد الأعراس وإن يكن بعض المرددين لها يجهلون أصولها ويخلطون بين أوزانها كما هو الشأن في كل عمل فني ينتقل إلى غير أهله الفلاحين في مواسم الزرع والحصاد وكلها مأخوذة عن أصول فنية جيدة في إيقاعها وأدائها(18).
وبشأن الموازنة بين ما يطلقون عليه اسم الموسيقى الغربية وما يطلقون عليه اسم الموسيقى الشرقية في القدرة على التعبير بنفسها - دون مصاحبة اللغة - عن الأفكار والمعاني وأحوال النفس الإنسانية يرى العقاد أن الموسيقى الغربية لم تكن من قديم الزمان على هذا الطراز الذي نسمعه من بيتهوفن وأمثاله وإنما اتخذت منهجها الحديث حين نشأت في ظل القداسة الدينية ثم عبرت عن مسائل الروح وأسرار الوجود التي تشتمل عليها الأديان ثم استولت عليها المذاهب الكونية حين استولت في الغرب على تراث الدين كله وعلى مسائل الروح فلم ينعزل الموسيقيون عن الفلاسفة والشعراء وباعثي النخوة في صدور الأمم يوم تعاقبت بينهم نهضات الإصلاح والحرية، وقديما كان في اليونان وفي بلاد الجرمان منشدون وملحنون فلم ينهجوا على هذا المنهج الحديث ولم يرتفعوا بالموسيقى كثيرا عن منزلة الطرب وتمليق الحواس وتمثيل الشعور المحدود(19).
وللعقاد رأي أصيل في العلاقة بين الموسيقى والكلام خلاصته أنه يعجب من الموسيقيين وينكر عليهم أن يدّعوا ترجمة الكلام بالألحان أو ترجمة الألحان بالكلام وأن يزعم أحدهم أنه يسمعك القصة منغومة كما يسمعها إياك منظومة أو منثورة بتفصيل كتفصيل الصور والكلمات، فهذه الدعوى من وجهة نظر العقاد تسيء إلى الموسيقى كأداة تعبير مستقلة وتقلل من قيمتها لأنها تنزل بالموسيقى ولا ترفعها وتعلّقها بالتعبير الكلامي ولا تجعلها مستقلة بتعبيرها الذي فيه الكفاية والغنى عن غيره من أساليب التعبير، وحسب الموسيقيّ أنه صاحب رسالة يبلغها بوسيلته وصاحب ملكة لا تفتقر إلى ملكات غيره(20).
فإذا عدنا إلى تقسيم الموسيقى إلى شرقية وغربية فالعقاد يرى أنه تقسيم جائر وغير صحيح لأنه لا ينبغي أن يكون على أساس إقليمي جغرافي فيقول: ولكي نكون منصفين في النظر إلى الموسيقى ينبغي علينا أن نقسم الموسيقى إلى نهجين يختلفان باختلاف الذوق والبديهة ولا نقسمها إلى إقليمين جغرافيين بين أناس في الشرق وأناس في الغرب أو أناس في الشمال وأناس في الجنوب، وهنا يطرح العقاد تقسيمه البديل للتقسيم المعتاد الذي بعترض عليه فيرى أن: هناك موسيقى الحس المحدود وهي التي تؤدي لنا وظيفة الجارية والنديم وتسلينا بأنغام الفرح حين نفرح وأنغام الشجن حين ننوح، وهناك موسيقى الروح وهي التي تخاطبنا من منبر الإلهام وشرفات الغيب وتجلس لنا مجلس المفسرين والهداة وتقول لنا ما يعجز عنه الكلام لأن الألحان لا تقصّر عن وصف الأسرار حين تقصر عنها المعاني والحروف، ولدينا من جهة أخرى موسيقى الحس المريض التي تطرب وتشجو من تشجو كأنها السم المخدر أو الشهوة السقيمة التي تترهل بها الأجسام في مخادع اللذات، وفد تقترن الموسيقى بالسعة والضيق وبالسمو والهبوط على حسب السامع المصغي إليها والمتعقب لأنغامها فالأوزان الموسيقية في آذان السامعين ربما أتعبت أناسا بتكرارها وأراحت أناسا بهذا التكرار وإنما المعول في الحالتين على الأذن التي تتعقب وتحسن التعقب والتعقيب.
وإذا كان بعضنا يائسا من أن نجد في وقت قريب جمهورا من الشرقيين يتجمع بالمئات والآلاف لسماع الموسيقى العالية كما يتجمع الأوربيون في أنديتهم فإن العقاد يرى أنه لا بأس من الانتظار ولا ضير من تأجيل اليأس فإن الأغاني الشعبية عندنا لا تزال سليمة من مرض الترهل والغواية وهي لا تحتاج إلى مرانة كبيرة في المنشدين ولا في المستمعين، أما الموسيقى التي لا غنى فيها عن مرانة الآذان والأذواق فهي تلك التي نتمنى أن يكون لنا نصيب منها كنصيب الأوربيين أو أرقى من ذلك النصيب وليس لنا أن نيأس من عقباها بيننا حتى نؤدي واجب المرانة المطلوبة في الجيل الناشئ تمهيدا لما بعده من الأجيال فإذا أحسنا المرانة جيلا واحدا ولم تثمر في الشرق ثمرتها المنشودة فهناك مجال لليأس أو للشروع فيه.
ويتراجع العقاد قليلا عن تفاؤله العريض بمستقبل الموسيقى لدينا وهو ما يعني أن يكون لنا نصيب كالأوربيين من تلك الموسيقى الرفيعة فيقول: ويخيل إلي أننا لم نبدأ هذه المرانة بعد على وجهها المفيد لأننا خلقاء ألا نترقب فنا موسيقيا عاليا قبل أن نفصل بين الذوق الفني والمتعة الجنسية أو المتعة الجسدية ونحن لا نزال نقبل على مجلس السماع جنسيين جسديين يتعصب الذكور منا للمغنيات ويتعصب الإناث منا للمغنين الذكور.
وآية الفصل بين ذوق الفن وبين الغريزة الجنسية أن نرى السامعين يحبون السماع بغير ما ألفناه من التصدية والتصفيق وبغير الأسلوب الناشز من الخبط والصريخ فإن الصفة الأولى التي لا تنفصل من الموسيقى والغناء هي صفة الانسجام والتناسب بين الأصوات ولن تسيغ الأذن الموسيقية زعيقا ولا اقتضابا وهي تصغي إلى تناسب وانسجام، إنما السامع المصغي إلى الغناء الذي يصيح تلك الصيحات المزعجة حيوان لذعته الغريزة فجمح في غير أناة وليس هو بإنسان يُمله جمال النسق وتستهويه متابعة النغم في مسالك الألفة والنظام وليس في وسع الأذن أن تكون أذنا موسيقية ثم تنتقل من الفوضى إلى النسق ومن النسق إلى الفوضى في لمحة عين، وليس في وسعها أن تسيع الفن وتسيغ نقيضه في آنة واحدة وهل الفن إلا أوزان وهل نقيضه إلا الأصداء والأخلاط التي تنطلق بغير عنان؟(21).
وأول من أشار إلى العلاقة بين روح الأمة وأغانيها هو أفلاطون حين قال: "إذا أردت أن تعرف مدى رقي أمة فاستمع إلى أغانيها"، وإلى مقولة أفلاطون - كما كتب العقاد - يرجع المفكرون المحدثون والمعاصرون الذين يريدون أن يثبتوا للموسيقى فضلا كبيرا في حياة الأمم وعملا ملحوظا في شؤونها الجدية ليترفعوا بها عن مجرد اللهو في ساعات الفراغ والبطالة، ولم يّقل أفلاطون كلمته في هذا المعنى مثلا سائرا يتنناقله المتحدثون من قبيل شواهد الحكمة على ألسنة الأقدمين ولكنه أقامها مقام الحجة المقنعة في سياق حواره المفصل عن مقومات الحكم الصالح للجمهورية المثالية فنبه في الجزء الرابع من ذلك الكتاب الخالد إلى خطر الاستخفاف بالتغييرات والتبديلات الموسيقية لأنه يهدد الدولة ويتبعه لا محالة تغيير وتبديل في الشرائع والقوانين.
وقد ترددت مقولة أفلاطون بتعبيرات مختلفة وانتقلت من عصر إلى عصر على ألسنة كثيرين منهم الكاتب السياسي أندرو فلتشر أحد مشاهير القرن التاسع عشرالذي قال: نحن نعلم أن أكثر المشترعين الأقدمين كانوا لا يقدرون على إصلاح أخلاق أمة بغير معونة من شاعر غنائي أو شاعر مسرحي في بعض الأحيان، وآخرهم الكاتب الأمريكي جورج جين ناثان الذي قال في مقدمة كتابه "الدنيا الزائفة": "لست أبالي من يكتب قوانين امة ما دمت أصغي إلى أغانيها"، أما صواب هذه الكلمة أو مبلغها من الصحة - من وجهة نظر العقاد - فهو أنه قد يظهر لأول وهلة أنها إحدى المبالغات التي يسوّغها بعضهم في الأساليب الخطابية لتقرير الحقائق التي يستغربها الكثيرون وتحتاج إلى شيء من التوكيد والشطط - أحيانا - لتنبيه الأسماع، ولكنها بعد التأمل اليسير فيها تحسب في عداد الحقائق الرياضية وتدل على معناها الصحيح دلالة حرفية.
فمن أغاني الأمة نفهم طبيعة الغزل فيها هل هو صادر من بواعث الغريزة الحيوانية أو بواعث العواطف الإنسانية؟ وهل هو تعبير عن متعة جسد ليس إلا أو هو تعبير عن شوق إلى التعاطف والمبادلة النفسية بين صفات اللطف والجمال في المرأة وصفات الإقدام والفتوة في الرجل؟ ومن أغاني الأمة نفهم هل تجري العلاقة بين الجنسين على سنن العرف والحياء أو على دواعي الإباحة والابتذال؟ وهل الحب فيها مسألة ذوق ونخوة وأريحية أو هو متعة وحيازة ومساومة؟ ومن الأغاني نفهم الفارق بين دواعي الطبيعة ودواعي المجتمع وبين العشق الفطري والزوجية الشرعية في كل علاقة بين الجسدين ونفهم مقدار ما في النفوس من الصراحة والاستقامة في حياتها العامة ومقدار ما فيها من النفاق والمراوغة في تلك الحياة، ونقيس المسافة الصادقة بين الواجبات المفروضة والواقع المباح كلما قسنا المسافة بين ما يشتهيه الناس بالحس والاختيار وما يوجبونه على أنفسهم بحكم التقاليد والأوضاع المرسومة، ومن الأغاني نفهم أفضل فضائل الرجل والمرأة جسدا وروحا كما نفهم أحسن المحاسن التي ترغب كلا من الجنسين في الآخر، ومن الأغاني نفهم علاقة العاطفة بالثورة وعلاقة الشمائل الإنسانية بالمنازل الاجتماعية والأقدار المتعارف عليها، ومن أغاني الفخر والحماسة نفهم خلائق الامة من العزة والمحافظة على الحقوق أو من الطمع والعدوان على حقوق الآخرين، ونفهم من أغاني الحداد تكوين الأسرة وعادات الأقربين ومآثر كل فرد من أفراد الأسرة في تقدير أهله، ولا يخفى علينا نصيب المحزونين من الصبر والجزع ونصيبهم من الشعور الإنساني الحق وشعور التقليد والحكاية مطاوعة للعرف والعقيدة.
وفي جملة واحدة يوجز العقاد ما فصله سلفا حين يقول: ولا نعرف شيئا تنطوي عليه خلائق الأمم وعاداتها يخفى على من يستمع إلى أغانيها(22).
وإبان حقبة المد الاشتراكي في مصر وبالتحديد أوائل الستينيات كثرت التساؤلات عما ينبغي أن تكون عليه الموسيقى والغناء في العهد الاشتراكي، ولماذا تنتشر أغاني المجون في عصر العمل والبناء؟ كتب العقاد أن الاشتراكية في أبسط مفاهيمها هي تعميم للإنسانية وحظوظها وليست انفصالا عنها لطائفة من الناس دون غيرهم، فالاشتراكية تعني ألا يكون الحب والجمال والغناء حكرا للأغنياء والأقوياء، بل تكون كلها حقا مباحا لخلائق الله جميعا من الأغنياء والفقراء، ويجهل الاشتراكية كما يجهل الإنسانية معا من يحسب أن التعاون يلغي العاطفة الإنسانية التي تملك قلوب المحبين في كل زمن وآن وبين أبناء كل طبقة فلا تعاون بين عشرين اشتراكيا في حب حبيبة واحدة وإنما التعاون أن يكون لكل منهم حظه من الحياة الإنسانية التي تسمح له بأن يحب من يهواه ولا تجعل تلك الحبيبة سلعة في السوق تباع بثمن لا يقدر عليه، ويلاحظ أن العقاد في كلامه هنا عن الاشتراكية يشير إلى نوع الاشتراكية التي كان يدين بها وهي الاشتراكية التطورية أو الإصلاحية وليست الاشتراكية الثورية.
أما ظاهرة أغاني المجون فهو يرى أنها ظاهرة موجودة في كل عصر على اختلاف العصور واختلاف أنصبتها من الظاهرة، وهي لا تزول في عصر من العصور إلا إذا زال منه الماجنون أو زالت دواعي المجون من نفوس أهله، ويسوق إلينا الأدلة على صحة ما يذهب إليه فيقول: وقد وجد المجون ووجدت دواعيه في عصور الأوبئة والطواعين وتوجد دواعيه مع العمل كما توجد مع البطالة ولكنها تختلف باختلاف أنواع الملاهي واختلاف طرائق عرضها والوصول إليها، وإنما هو اختلاف في الصور والمظاهر أو اختلاف في الأزياء والأشكال وباطن البشرية كامن على حاله قلما يتغير وراء الصور والأشكال(23).
ومن خلال علاقته الوثيقة بالموسيقى سماعا وتذوقا عرف العقاد وكتب: أنها تعبير وأن الأصوات لا تطرب بذاتها ولكنها تطرب بالشعور الذي توحيه والخاطر الذي تمثله في الطبائع والأذهان يفسح للنفس دائرة الطرب ويقيم لها هذا الكون كله وكأنه فرقة غناء تفتأ تصدح لمن يسمعها وهي ناطقة وصامتة وتدأب على الإيقاع وهي معبرة وغير محتاجة إلى التعبير.
والموسيقى في فكر العقاد أيضا تعبير عن تناسق خفي في ضمائر النفوس والأشياء ولذلك فهو يطرب لأصوات لا يطرب لها أكثر الناس ويهش لأصداء يلوي لها بعض السامعين كشح المهانة والإعراض فيقول: لست أريد أن أقف لديك موقف الاعتراف إذ أقول لك أيها القارئ إنني أطرب لنقيق الضفادع على حواف الجداول حين يبهجها نسيم الليل ولمعة القمر طربا قلّ أن ألقاه في المهرجان الصاخب والعرس المنير فقد يكون فرح المهرجانات والأعراس صناعة مستكرهة لا سعادة فيها ولا صدق في أصواتها ولكن الضفدع التي يرتفع نقيقها في قمراء الليل أو غاشية الظلام لن تكون إلا شعورا صادقا تمّت الألفة بينه وبين أرضه وسمائه فلا ريب ولا مراء فيما وراء دعائه الساذج من السعادة والرضوان.
وفي مقالة أخرى(24) يدور موضوعها حول "ضرورة الجمال" يتذكر العقاد غناء الضفادع حيث يقول: وتتسمع على الجداول في جانب غيط الفول أو جوانب الغيطان عامة، متسائلا: فماذا نسمع في الظلماء وماذا نسمع في الليلة القمراء؟ ويجيب على ما طرحه من تساؤل بأننا نسمع ضفادع تغني ولا تقتصد في تسخير حناجرها، ثم يطرح تساؤلا آخر: فما جدواها من هذا الغناء، مالها تغني وحتفها في الغناء أحيانا كما قال الشاعر:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت .. فدل عليها صوتها حيّة البحر
وخلاصة ما يود العقاد أن يقوله أن الغناء بوصفه مجالا فنيا من أهم المجالات التي يتجلي فيها الجمال ليس من الكماليات بل إنه ضرورة لازمة حتى لو كان دونها الموت.
ولا عذر بحسب كلام أحد المفكرين الغربيين للإنسان الذي يتطير من نداء البوم ويجفل من من مسمع ذلك الطائر الوديع، والحق أن المسكين لا يصنع في وحدته المرهوبة إلا أن يغني لها وأن يأنس بها وأن يقول لمن يسمعه إنه مسرور وإنه يناجي أليفه مناجاة الحب والنعيم فإن كان بغيضا إلى الناس أن ينعم خلق من خلائق الله في تلك العزلة الداجية فما ذنب الطائر المظلوم في هذا الجفاء الأثيم؟ الذنب للخرافة وللشقاء الذي قرن مرآه في أخلاد الناس بمرأى الخراب والوحشة والظلام، والذنب للشعر والخيال وليس البوم بالأول ولا الأخير من ضحايا الشعر والخيال(25).
ودافع العقاد عن البوم في إحدى قصائده(26) فهو في رأيه لا ينوح كما يزعمون بل يغني، فقال:
زعموا البوم نائحا ظلموا البـوم فلم يشك في الخرائب برحا
إنما كان مغـــــــرما يتغنى .. أو مجدا يغالب العيــش كدحا


=============

الجزء الثالث:
(3)

وقد التفت العقاد إلى العلاقة بين الأصوات والانفعالات من ناحية وبين الانفعالات والحركات البدنية من ناحية أخرى فإن الحيوانات والوحوش والهمجيين والأطفال والنساء أحيانا تترجم عن شعورها بالصياح على كيفيات مختلفة مقرونا في الغالب ببعض الحركات اليدوية ثم إن لكل من حالاتنا النفسانية لهجة خاصة وكل لهجة لها هيئة تناسبها فلهجة المسرور والظافر والشاكي والحزين والمتألم والغضبان تتباين تباينا يشعر باختلاف مصادرها وإنك لتسمع الخطيب الذي لا تفهم لغته فتعلم من تغير لهجته وارتفاع صوته أو انخفاضه إن كان راضيا أو ساخطا حاثا أو محذرا مبشرا أو منذرا.
ويبني العقاد على هذا الأساس أن الموسيقار إذا وقّع صوتا تنبه الإحساس الذي يناسبه على الأثر في نفوسنا كأنهما فيه متلازمان لا ينفكان، وفي الأصوات التي يشتد لها طرب السامع يتنبه مع ذلك الإحساس حركة بدنية مطاوعة للنغم الذي يسمعه؛ فيهز رأسه أو يحرك عضوا من أعضائه وهذا أول درجات الرقص ثم يرقص، وقد لا يملك نفسه مع الرقص من الترنم بالصوت الذي يسمعه أو الغناء بما على وزنه من الكلام المفهوم.
فنحن في قبضة انفعلاتنا تتلاعب بنا كما تلعب الأم بوليدها بين ذراعيها، نرقص ونثب ونصيح بالرغم منا كما يفعل الهمج والعجمات، وترانا في الطف مظاهر أنسنا نحنّ إلى همجيات أولئك الجدود(24).
ويلح العقاد - في سياق شرح مفهومه للموسيقى - على أنها "تعبير" يترجم عن حالات نفسية ولكنه تعبير لا يقصد بها أن تكون لغة عامة أو خاصة ولكنها هي لغة عامة بغير قصد من الهاتفين بها والسامعين، ويرفض العقاد ما اعتاد النشوئيون عليه في تعريف الأشياء بأن يرجعوا بها إلى عهود الهمجيات الأولى وأن يردوها إلى بساطتها المجردة لتكون أقرب إلى الفهم وأبعد من التراكب والتعقيد لاسيما قول هربرت سبنسر بأن الموسيقى هي الموازنة بين حركات الرقص والأصوات التي تشفع تلك الحركات وأن الإنسان إذا ثارت بنفسه خالجة قوية دفعته إلى الحركة والصياح فيجيء الصياح موازنا للحركة وتصبح كل صيحة مقرونة بحركتها فيهتز الجسم لوقع الصيحة إذا وردت على السمع فإذا هو يتحرك حركتها الملازمة لها من حيث لا يشعر أو يطرب الإنسان وينشط فتتحرك أعضاؤه فإذا هو يهتف بتلك الصيحة التي توازنها، ويستدلون على تلك العلاقة السببية بين حركة الإنسان حين ينفعل وصياحه والتوازن الذي يقيمه بين الحركة والصياح بما يفعله أعضاء الجماعات الهمجية حين يرقصون ويصيحون فيوازنون بين حركات أقدامهم ودقاتها على الأرض وبين صيحاتهم، وهذا من وجهة نظره لايحل الإشكال ولا يخرج بنا عن تحصيل الحاصل وعن توسيع الحقيقة المجملة التي تقول إن المركب يرجع إلى البسيط ... ولعمري إن الاندفاع إلى الرقص نفسه لهو اندفاع موسيقي يحرك الفكر والجسم واللسان في آن ويسبق الهيئة التي يظهر بها طرب الأعضاء وصياح الألسن والتصفيق بالأيدي والضرب على الأرض بالأقدام، فالطبيعة الموسيقية هي التي تخلق الرقص وتخلق ما يصاحبه من الحركات والأصوات، والرغبة في الموازنة هي التي تجمع بين هذه المظاهر في حالة الهمجية وهي التي جمعت بين ما يشابهها من أطوار الطير والحيوان قبل أن تنشأ في همجية الإنسان، وإنما الأصل في الظاهرة موضع الحديث أن تقوم بالنفس فتعبر عنها كل جارحة بما تستطيع من الموسيقية التي تتوازن في الجميع، ولو لم يكن الإنسان موسيقيا لما نقصت الموسيقية التي في هذه الدنيا ولا بطل ما فيها من التوافق والانسجام فما الموسيقية في الإنسان إلا صدى ذلك التوافق والانسجام الذي في الوجود، وإلا دليلا على أنها بعض مظاهرهما وليست كل المظاهر في جميع الحالات ولقد غنّى الإنسان لأنه يريد أن يغني لا لأنه يريد أن يرقص فقد يوجد الغناء في الحيوان غير مقرون بالرقص، وقد يوجد الرقص في الحيوان غير مفرون بالغناء.
وينتهي العقاد من مناقشة تلك القضية بالنتيجة الآتية: لو لم يكن الرقص لكانت الموسيقى في نشأة غير تلك النشأة وأسلوب غير ذلك الأسلوب ولو لم تكن الآلات مبدوءة بتصفيق الأكف ودًقة الأقدام لبدأت الموسيقى بآلات أخرى وظهرت في هيئة غير تلك الهيئة لأنها موجودة بغير وجود تلك الهيئات والآلات(25)، إن الموسيقى موجودة في الكون قبل أن يكون هناك رقص أو تكون هناك آلات موسيقية.
وعن الدعوات التي أطلقها بعضهم يلغطون فيها بأن قواعد الوزن في الشعر - وهو نوع من الموسيقى - تدعو الإنسان أن يقول ما لايلزم تكملة للوزن حيث لا محل له من الكلام ويتجاوز العقاد بالمسألة نطاق فن الشعر إلى نطاق الفن كله فيتساءل بل يطرح جملة من الأسئلة حين يقول: هل يقال هذا في الشعر وحده أو يقال في شتى الفنون وعند غيرنا من العالمين؟ ماذا يصنع الراقص في حركات يديه وقدميه؟ ماذا يصنع الموسيقار في صوته المرسل بغير كلام؟ ألا يزيد المغني في غنائه ليطابق فيه بين الألفاظ والألحان؟ أنبطل الألحان لأنها تسومنا المد في الصوت وراء ما يلزم كما يقال؟ أو لأنها تسومنا الزيادة في الحروف والكلمات وراء ما تتم به جملة المبتدأ والخبر أو جملة الفعل والفاعل أو جملة المحمول والموضوع؟ أنبطل الرقصة التي تسوم الماشي أن يخطو فوق خطوه أو يقصر عنه باخنياره؟
ويخلص من تلك التساؤلات المقررة للوازم الفن التي يراها هولاء مجرد زيادات وفضول ويصيحون بإجابة مفادها أن التمسك بتلك اللوازم تمسك بما لا يلزم وأن هذا الذي يوصف بأنه لا يلزم هو ما يصنع فنية الفن، هو القاعدة التي بدونها لا يكون ثمة فن على الإطلاق، يقول العقاد: الفنان لا يضع في مده او زيادته غير ما لا يلزم بل اللازم قبل كل لزوم وهو رعاية الفن والقاعدة في الفنون(26).
ويسأله احد القراء عن انطباق كلمة مطرب على كل موسيقي ومغن فيرد عليه بأن الطرب في أصل معناه اللغوي هو الاهتزاز والاضطراب من السرور أو من الحزن والوجل ولا يشترط فيه أن يكون مقصورا على الغناء الذي يبعث على السرور، والذين أطلقوا اللقب قديما على المغنين فهموا هذا بغير خلاف لأنهم كانوا يقولون عن الغناء المطرب أيضا إنه شجي أي يبعث الشجى في نفس السامع وهو شعور أقرب إلى الحزن منه إلى السرور، ولكن المعاصرين عدلوا بوصف الطرب عن هذا المعنى الأصيل وكادوا يقصرونه على الغناء الذي يهز النفس كما يهزها إيقاع الرقص بأنواعه الحديثة وأنواعه التي ورثناها منذ زمن بعيد وهذا ضرب من الغناء قيمته في فن الموسيقى وبراعته التي لا يقدر عليها كل مشتغل بصناعة الألحان.
ويضرب على ذلك مثلا بالشيخ زكريا أحمد فيقول: كان الشيخ زكريا أحمد رحمة الله عليه يحسن هذا الفن في تلحينه للأغاني كما يحسن غيره من فنون التلحين ومن إيقاعه المرقص نغمات الأنشودة التي تغنيها أم كلثوم فلا تبدأ بإنشادها حتى تستخف المستمعين إلى التصفيق وترديد (الوحدة) ويوشك أن ينبعثوا منها مترنمين مترنحين أو يسمح مجال الطرب عندنا لمثل هذه المجاوبة الفنية، وتلك هي أنشودة "غني لي شوي شوي"(27) من نظم بيرم في رواية زميلنا الأستاذ باكثير.
ولكن الموسيقى ليست كلها موسيقى الطرب ولا موسيقى الرقص والغناء، فهناك الموسيقى التي تعلق الأنفاس حرصا على الصمت والسكون وترسل الخيال في آفاق التأمل والمناجاة إرسالا كأنه الإسراء بالروح ومن دونه أوصال الجسد ساكنة بغير حراك.
فالموسيقيّ الذي يعبر عن سبحات الروح هذا التعبير لا يلقب بالمطرب ولو كان في الطرب معنى الشجى الذي وصفه الأقدمون ويصح أن يوصف بأنه موسيقي مبدع قدير أو موسيقي معبر بليغ أو موسيقي ملهم مبين ولكن هلا يوصف بالطرب على أية حال(28).
وقد ناقش العقاد قضية أيهما أحق بالتعويل عليه في تقدير قيمة الموسيقى والموسيقار؟ متسائلا : أهم النقاد أم جمهور المستمعين؟ وانتهى في نقاشه للقضية إلى ما يأتي: لا جدال في أن المستمعين لهم فضل في الانتباه إلى كثير من الآيات الفنية التي تجاهلها النقاد المحترفون أو تعصبوا عليها بغير دليل غير دليل الجمود على القديم فإذا صح أن الفضل للنقد في إبراز كثير من الملكات المجهولة فقد صح مثله أن النقد قد جنى على ملكات أخرى لا تقل عن تلك الملكات فلم ينصفها أحد غير جمهرة المستمعين المنزهين عن العصبيات واللبانات.
ولئلا يفهم أن كلامه على الإطلاق احترز العقاد بقوله: إن القياس لا يطرد في جميع الأحوال والأزمنة، فليس الجمهور الجاهل كالجمهور الذي تهذب واستطاع التمييز بين النقائض والأضداد، وليس الناقد العليم المنصف كالناقد الدعيّ المسخر لتجار المسرح واسواق الأغاني والألحان، وحيثما اتفق صدق النقد وصدق الاستماع فذلك هو الغاية التي لا يعلى عليها في صدق التمييز والاختيار وصدق الشهادة لدعاة التجديد والابتكار.
ويعزو العقاد أخطاء بعض النقاد في تقدير قيمة الموسيقى والموسيقار إلى الغرور فكثيرا ما يكون غرور الناقد المحترف حائلا بينه وبين الحقيقة الواضحة التي كان خليقا أن يدركها لولا اعتداده بقواعده وأحكامه وترفعه عن نظرة الفطرة السليمة التي تتفق أحيانا لجمهرة المستمعين المهذبين(29).
وقد كتب العقاد عن بعض أساطين الغناء والموسيقى العربية ممن استمع إليهم ولفته نبوغهم أو تميزهم، وفي مقدمة هؤلاء الشيخ سلامة حجازي الذي أغرم العقاد في شبابه الباكر بمسرحه وكان يتتبعه من مكان إلى مكان يقول: وقد رأيت الشيخ سلامة حجازي يمثل ويغني في روايات هملت وروميو وجولييت واليتيمتي والبرج الهائل وغيرها من الروايات السلفية أو العصرية ولا أتردد لمحة عين حين أقول إنني لم أر أحدا بعده قد ارتفع بدور من هذه الأدوار فوق قمته العالية وإنه لا يزال نمطا وحيدا في تمثيله وغنائه كما كان يوم سمعناه وشهدناه(30).
ويقول مؤكدا ذلك: والحق الذي لا شك فيه أن الشيخ سلامة كان يجيد التمثيل في أدواره الكثيرة ويبلع الغاية في بعض تلك الأدوار، ولا احسب أن أحدا بعده مثّل هملت أو روميو خيرا من تمثيله، أما دوره في رواية اليتيمتين فهو من الآيات العالمية باتفاق جميع الآراء، واستشهد العقاد بكلمة بالرحالة الشهير ماكيلان الذي قال بعد حضوره الرواية: انني طفت بلادا كثيرة وشهدت هذه الرواية في أكثر من لغة، فلم أر أداء لها أصدق من الأداء الذي شهدته الليلة
ويرد العقاد على من كانوا ينتقدون الشيخ سلامة حجازي فيتهمونه بأنه كان يتخذ من التمثيل ذريعة لعرض أغانيه وأناشيده إيثارا لفن الغناء على فن التمثيل فيقول: غير صحيح ولكن الصحيح أن غناءه كان قطعة من تمثيله فكان يبكي أحيانا وهو يغني قصيدة (سلام يا حسن) في رواية (شهداء الغرام) وكان يمشي مع الدور في أطواره التمثيلية إلى أن يتهيأ الموقف الغنائي طبيعيا مقبولا لا مجافاة بينه وبين روح الرواية(31).
وعن أولئك الذين يغمطون مسرح سلامة حجازي حقه من النقاد المتأثرين بالثقافة الأجنبية ويعيبون عليه الغناء في مسرحيات تتناول موضوعات جادة والمسرحيات التراجيدية على وجه الخصوص، يقول: وغاية ما في الأمر أن بعض النقاد المتحذلقين عندنا قد تلقفوا أسماء المصطلحات الأوربية وطبقوها عليه فخيل إليهم أنها تغض من قدرته وخبرته وسابقة فضله وهي على ما نعتقد شهادة له يجهلونها ولا يفهمونها لأنهم يرددونها ترديد الببغاوات(32).
ويضرب العقاد مثالا على ذلك بأن الذين حفظوا أسماء الفنون الروائية وهم لا يفهمون غير ألفاظها ينكرون مواقف الغناء في روايات الفواجع والدرامات وينسون أن هذه الروايات تتحول كثيرا إلى أوبرات كبيرة أوصغيرة تتخللها الموسيقى في أفجع المواقف وأولاها بالجد والصرامة ومنها ما يمهد لمنظر القتل أو الموت بمقدمة موسيقية ويتبعها بألحان أخرى من قبيلها، وقد عابوا مثلا على الشيخ سلامة الغناء في مسرحية روميو وجولييت لأنها في نظرهم مسرحية لم توضع للغناء متسائلا في تعجب واستنكار: لماذا يعاب الشيخ سلامة إذا حول إحدى الروايات إلى أوبرا أو ملحنة صغيرة كما صنع في رواية روميو وجولييت؟ ولماذا يباح هذا للفنان الحديث كما حدث فعلا عند تمثيل هذه الرواية على الستار الأبيض أخيرا ولا يباح لمن تقدموه؟ وأي غضاضة على الفن المسرحي في هذا التصرف ما دام الفن ملحوظا في أداء الكلام وأداء الغناء؟
وتأسيسا على تلك التساؤلات التي تشكك في صحة موقف النقاد العائبين يبني حكمه بأنه: لا حرج على الإطلاق مع إحكام الصنعة بين الأدوار والمواقف وإنما الحرج كله من الحذلقة التي تأخذ الأصول المزعومة بألفاظها ولا تنظر إلى معانيها(33).
ويعود العقاد بعد ذلك بسنوات فيؤكد وجهة نظره مرة أخرى فيقول: رأينا هذه المسرحية بعد ذلك قد تحولت على أيدي الأوربيين أنفسهم إلى رواية ملحنة ورواية نصف ملحنة وشاعت على المسارح كما شاعت على اللوحة البيضاء فإذا كان الناقد يفهم ما يقول فهو خليق بأن يشهد لسلامة حجازي بفضل الابتكار ويحمد الله لأنه أعطانا فرصة الاستماع إلى صوت بديع لم نكن لنسمعه أو نسمع به لو كان الرجل ممن ينخدعون بتخريف المصطلحات(34).

======

الجزء الرابع:

وحظي الشيخ سيد درويش بما لم يحظ به موسيقار آخر في تاريخ موسيقانا وغنائنا العربي من اهتمام العقاد وتقديره فقد كان مفتونا بنبوغه وآثار نبوغه من الموسيقى والألحان، وكانت أولى مقالات العقاد عنه في الذكرى الاولى لوفاته عام 1924، وفي الذكرى الثانية لوفاته كتب العقاد في جريدة "البلاغ الاسبوعي"(35) مقالة بعنوان "سيد درويش" بدأ حديثه فيها بهذا الوصف: "إمام الملحنين ونابغة الموسيقى المفرد في هذا الزمان"، ثم راح ينعي على الأمة في دهشة وغضب أن يُهضم فيها قدر ذلك الفنان النابغة بهذا الشكل، واستنكر ألا تشارك الحكومة في تشييع جنازته ولا تشارك في إحياء ذكراه فقال: ولكن الأمة مع هذا عجزت عن قضاء حق الرجل الفرد فمات فيها وهي لا تعلم أنها أصيبت من فقده بمصيبة قومية ولم تبال حكومتها أن تشترك في تشييع جنازته وإحياء ذكراه كما تبالي بتشييع جنازات الموتى الذين ماتوا يوم ولدوا والمشيعين الذين شيعتهم بطون أمهاتهم إلى قبر واسع من هذه الدنيا يفسدون فيها من أجوائها ما ليست تفسده العظام النخرات والجثث الباليات.
وعن قيمة الشيخ سيد درويش الفنية ودوره العظيم في تطوير موسيقانا العربية استطرد العقاد يقول في نفس المقالة: فضل السيد درويش - وهو أكبر ما يذكر للفنان الناهض - أنه أدخل عنصر الحياة والبساطة في التلحين والغناء بعد أن كان هذا الفن مثقلا كغيره من الفنون بأوضار السجع والتقليد وبديعياته وجناساته التي لا صلة لها بالحياة فجاءه هذا النابغة الملهم فناسب بين الألفاظ والمعاني وناسب بين المعاني والألحان وناسب بين الألحان والحالات النفسية التي يعبر عنها، ولم يكن الغناء الفني كذلك وإنما كان لغوا لا محصل فيه وألحانا لا مطابقة بينها وبين ما وضعت له بل ربما جاء مناقضا لغرضه ومبناه.
وإذا كان الغناء قد ظل لعهود طويلة في رأي العقاد مجرد مسافات وأبعاد تقاس على الآلات وتربط بين مفاتيح ثم لا محل فيها بعد ذلك لقلب يتكلم وقلب يعي عنه حتى أدركه المغنيان الشهيران عبده الحامولي ومحمد عثمان فنقّحاه بعض التنقيح بيد أنهما لم يخرجا به عن حيز التقليد ولم يردا إليه نسمة الحياة حتى كان سيد درويش(36).
وعن تأثير فن الشيخ سيد درويش في حركة المجتمع المصري وتطور وعيه السياسي يرى العقاد أن تجديد سيد درويش في أغاني النشيد يعد تمهيدا للتطور الاجتماعي في أحوال الطوائف الصناعية خاصة ويوضح ذلك بأن أناشيده على ألسنة الحوذية وباعة الدجاج وباعة اليانصيب وتجار العجم وعمال السلطة والمراكبية كانت تمهيدا فنيا لا شك فيه لشيوع النقابات وانتباه كل طائفة من الطوائف إلى وحدتها الاجتماعية، ولم يكن للسيد درويش شريك يذكر في عالم الفن بهذه المقدرة من المشتغلين بالغناء والمشتغلين بالتمثل.
ويشير العقاد في إحدى قصائده(37) إلى بعض تلك الطوائف التي كان سيد درويش يصورها من خلال ألحانه وأنغامه فيجعل السامع كانه يراها بعينيه في هيئاتها وحركاتها، فيقول:
لله سيـــــــد الذي غــــنى لكـــــــــــم .. زمنا فقال العارفـــــــــــون مصور
وصف ابن مصر فليس يدري سامع .. أصغى إليــــــــــه أسامع أم مبصر؟
إن تسمع الحـــــــــوذي منــــه رأيته .. عجلا فتيمن في الطريـــــق وتيسر
أو تسمع النـــــوتي منــــــــه حسبته .. في النيــــــــل يقبل بالشــراع ويدبر
أو تسمع الريـــــفي منـــــــه لمحته .. في الحقل يحصــد في الأوان ويبذر
أو تسمع الجنــــــدي منــــــه نظرته .. وعلى أسـرّته الشعــــــــار الأخضر(38)
وإذا المســــــارح راجعت أيـــــامها .. لاذت بفــــــــرد منــــــــه لا يتكرر
وعن بعض الألحان القديمة التي كان يستعيرها ويعيد صياغتها ويقدمها في شكل أفضل يقول العقاد: وكان الشيخ سيد يستعير بعض الألحان القديمة ليعيدها أغاني جديدة هي أشكل وعليها أكيس وأجمل ثم لا يخفي الاستعارة ولا يدعي ما ليس له على عادة بعض الأدعياء عندنا فإذا وضع اللحن مبتكرا أو مستعارا حرص كل الحرص على أن يؤديه المنشدون كاملا مضبوطا كما أوحي إليه ونقل عنه فلا يطيق أن يتصرف فيه متصرف ويعبث به عابث من عشاق التزويق والترطيب.
وردا على زعم بعض حاسدي الشيخ سيد درويش من المدعين ذوي المواهب الضعيفة أنه لم يأت بجديد فموسيقاه من وجهة نظرهم مجرد تقليد، وزعم بعضهم الآخر أن بعض ألحانه مسروقة ممن سبقه من أساطين الغناء والطرب - كتب العقاد في سياق ما كتبه من قبل بُعيد وفاة الشيخ سيد أنه: مما يحسب للسيد درويش أنه كان ينقذ بعض الألحان من استغلال جماعات المتسولين لينقلها إلى عمل نافع في تصوير بعض الأدوار (في المسرح) وربما كان من قبيل تلك الألحان الضائعة أناشيد على نغمات الأذكار أو نغمات الموالدية في بلاد الريف، وربما عمد أيضا إلى الألحان القديمة ليعارضها بمثلها في موضوعها لأنه أليق بها من أدائها الأول على إيقاع التخت القديم، ولا يخفى الفرق بين المعارضة على قصد ومعرفة كما فعل كبار الشعراء في كثير من المناسبات وبين السرقة التي يراد بها العدوان والادعاء مع العجز عن الابتداع والافتنان(39).
وفي الذكرى الثانية عشرة لوفاة الشيخ سيد درويش يكتب العقاد في رثائه قصيدة(40) يبدأها بقوله:
اذكروا اليـــوم سيدا .. واحفظوا الذكر سرمدا
وفي القصيدة يشير إلى النقلة النوعية التي حققها في بعض موسيقاه بأن جعلها مستقلة في تعبيرها عن المعاني فلم تعد بحاجة إلى كلام يصاحبها لكي يفهم السامع دلالاتها وإيحاءاتها كما اعتدنا في موسيقانا الشرقية:
جددوا اليوم ذكرى .. مــن تغنى مجددا
الذي صور الحيـــــــــــــاة هتافا مرددا
علم الناس كيف يعنــون باللحن مقصدا
ما ابتغوا قبله المعاني في القــول مسندا
فابتغوا بعده المعاني في الصوت مفردا
ويختتم قصيدته بالدعوة إلى استكمال ما بدأه سيد درويش من تجديد مترحما على "سيد" سيد الفن فيقول:
إنه مهــــد الخطا .. فابلغوا أنتم المدى
رحم الله سيـــــدا .. كان في الفن سيدا
وفي الذكرى الثالثة والثلاثين لرحيل الشيخ سيد درويش يؤكد العقاد ما قاله أكثر من مرة عن أنه يعتبر بحق أول المجددين الذين نقوا الغناء من التقليد على سنة الفن العتيق: فن الآلات والتخوت إلى فن التعبير الحي عن الشعور الصادق الي يحسه ويحسه معه سامعوه(41).
وفي الذكرى التاسعة والثلاثين لرحيل الشيخ سيد درويش الذي حلا لبعضهم أن ينسب إليه بحسب تعبير العقاد سيئات يخلقونها من الوهم أو يبالغون فيها مبالغة الكذب والضغينة ثم يلوكونها بعد تكذيبها أكثر من مرة كأنها مضغة العلك (أي اللبان) في أفواه نسوان الدروب، وإزاء كثرة اللغط في هذه المناسبة بخصوص ضرورة الخلاص من الموسيقى العربية أو كما يسمونها "موسيقى التخت" كتب العقاد محذرا كل الحذر من الإنصات إلى تلك الدعوات المشبوهة المغرضة وتصديقها فذلك من وجهة نظره: كنود في حق الفن كله أضخم وأوخم من كل كنود يصاب به آحاد النوابع والعباقرة متفرقين أو مجتمعين.
ومن الخطأ الجسيم ظن المتعجلين أن "الموسيقى الجالسة" وقف على التخت الشرقي وأن "فن الموسيقي الرفيع" إنما خلق ليعزف به مع الحركة والانتقال، إن حكم التخت هنا كحكم الأوركسترا في التزام مكان واحد وإذا نقل "البيان" (أي البيانو) مع الحركة لأصعب من نقل القانون والدف والمزمار دفعة واحدة في البيت أو في الطريق، وقد ظلت الأوركسترا "قابعة" في مكانها تحت المسرح والروايات التمثيلية تنتقل مع حركات كأنها توقيعات الرقص إلى حركات كأنها تخبط المجانين، وآلات التخت عندنا تستطيع كل ما استطاعته آلات الأوركسترا وهي قابعة في مكانها وتتقبل التجديد غاية ما تتسع له تلك الآلات. والمخترعات الحديثة من وجهة نظر العقاد في مصلحة الآلات الجالسة وليست مناقضة لها على أي وجه من وجوه المناقضة لأن أدوات التسجيل تعطينا كل ما نأخذه من الآلات الجالسة لنحمله في الطريق ونمضي به في طليعة المواكب مسرعين مهطعين أو متبخترين متئدين.
ويخلص العقاد من تلك المرافعة دفاعا عن الموسيقى العربية إلى أنه "لا حاجة بنا إلى إلغاء موسيقانا الشرقية ولا إلى إلغاء أداة من أدواتها الأصيلة في تكوينها وإنما نحن بحاجة إلى العبقري الملهم الذي يحمل هذه الأدوات أو يعدلها بحيث تحتمل ما يودعها من موسيقى الحركة(42).
ويرى العقاد أننا خلال تلك المدة التي انقضت منذ عهد الشيخ سيد درويش قد تقدمنا بلا شك في الفن ولكننا لم نرتفع ويشرح ذلك بأننا تقدمنا في فن التعبير ولكننا لم نرتفع إلى قمة من قمم النبوغ التي شهدناها وسمعنا أنغامها على عهد سيد درويش وقبل ذلك ببضع سنوات.
ويتناول العقاد مراحل تقدم الفن لدينا منذ عهد الشيخ سيد درويش إلى العهد الذي يصح تسميته بعهد أم كلثوم وعبد الوهاب من خلال ظواهر التجديد التي يرى أنها أقرب في البيان والتوضيح من الكلام المجمل، وهي في رأيه ثلاث ظواهر:
1- التقريب ويعني بها العقاد التقريب بين أنواع الغناء فلم يعد هناك فاصل بين غناء النساء وغناء الرجال كما كنا نرى في الأعراس القديمة فلم نعد نرى ظاهرة دعوة العوالم لإحياء حفلة الحريم، وكذلك اقترب غناء التخت والآلات من الغناء الشائع فندر بين الأغاني الفنية ما يحتاج الفنان حتما إلى توقيعه على التخت ولا يستطيع أن ينفرد به هواة السماع، كما تقارب الغناء الحضري والغناء الريفي فيشيع الغناء الريف في الحضر ويشيع غناء الحضر في الريف.
ولا يعني ذلك أن الفوارق قد زالت تماما بين تلك الأنواع وأن الغناء قد أصبح نوعا واحدا ولكنه بحسب تعبيره: يتقارب ولا ينعزل وأن أنواع الجميع مقبولة عند الجميع.
2- الطابع الشخصي ويشرح ظاهرة "الطابع الشخصي" الذي يدل على استقلال الملحنين والمغنين والمستمعين بأن الألحان قبل ثلاثين سنة كانت كأنها نسخ متعددة من طبعة واحدة فأصبح للملحن والمغني في هذه الأيام(43) طابع خاص يستقل به على طريقته وأسلوبه ويتميز فيه بذوقه ومزاجه، وأصبحت للمغنين صور نفسية بعد أن كانوا جميعا مبرقعين وراء الملامح العامة التي يلبسونها فنيا كما تلبس وجوه الكرنفال.
3- التنوع ويقصد به العقاد تنوع موضوعات الغناء بين الغناء التمثيلي والغناء الشعبي والغناء الوجداني المعبر عن العواطف الغزلية أو الحماسية، ولقد كانت المعاني في غناء الغزل أو أغاني الحب أشبه ما يكون بالملابس الجاهزة يشتريها اللابس ويوفق بينه وبينها أما الغناء اليوم فهو ثوب مفصل يتغير على حسب المناسبات.
وقد ساهمت المخترعات الحديثة في توحيد الأذواق والرغبات لأن اشتراك المستمعين في الإصغاء للإذاعة ولأغاني الصور المتحركة وأدوار الإسطوانات قد ساعد مع وجود الرغبة من المستمعين في خلق ذلك التوحيد(44).

==========

الجزء الخامس:

وعن المطرب صالح عبد الحي يكتب العقاد أنه: كان الصلة الأخيرة بين عهدين منفصلين من عهود النهضة المجددة في فنون الغناء والموسيقى والتلحين وهما عهد عبده الحامولي ومحمد عثمان وعهد أم كلثوم وعبد الوهاب.
ويرى العقاد أن صالح عبد الحي كان أقدر المغنين في عصره على النهوض بهذا الدور العسير، لأنه رزق ذلك الصوت الجميل الذي يمثل المطلوب من الأصوات بالشروط الموسيقية وبغير(طابع شخصي) يقترن بصاحبه ولا يفارقه في مدلوله فكان صوته بهذه الكناية الفنية أشبه شيء بصورة العين المثالية التي تراها مرسومة مكبرة عند أطباء العيون مثالا للعين الصحيحة كما ينبغي أن نراها في صورتها الطبية العلميةولكنها لا تذكرنا بغنسان معلوم أو إنسانة معلومة إذا تأملناها وأطلنا النظر إلى خصائصها وألوانها، أي أن العقاد باختصار شديد كان يعتبر صوت صالح عبد الحي صوتا نموذجيا.
ويفسر ذلك بأن صوته كان كالماء العذب الذي يأخذ من كل إناء لونه كما يأخذ من كل غناء شكله، واستطاع بهذا الصوت المثالي أن يحكي عبده الحامولي والمنيلاوي وعبد الحي حلمي وسلامة حجازي ومحمد السبع وإخوانهم وزملاءهم أبناء المدرسة السابقة.فلم يقصر عن واحد منهم بحلاوة النغمة وامتداد النفس وطمأنينة (المعلم) المرتاح في جلسته وإشارته.
ولم تكن قدرة الشيخ صالح عبد الحي على حكاية المغنين الكبار في الجيل السابق دون قدرته على حكاية خلفائهم المعاصرين بلا استثناء الممتازين منهم والمتخلفين، ولم يكن إحجامه عن مجاراة المحدثين عجزا عن طريقتهم وأسلوبهم ولا عن إعادة ألحانهم وتعليق نغماتهم وأدوارهم ولكنه كان نفور الطبع الأصيل من شيء لا يوافقه ولا يهضمه وأجره على الله كما كان يقول(45).
وكان من أصدقاء العقاد الموسيقار محمد حسن الشجاعي الذي رشحه العقاد حين كان عضوا بلجنة المعارف في مجلس النواب (أوائل الثلاثينيات) لإتمام دراسة الموسيقى بالمعاهد الأوربية الكبرى، ولما تعذر سفره بسبب بيروقراطية بعض المسؤولين القبيحة في وزارة المعارف لم ييأس الشجاعي ويركن إلى الدعة ففي الوقت الذي رشحه نبوغه ليكون عضوا في الفرقة الموسيقية لقصر عابدين راح كما يقول العقاد: يطلب من الفن فوق ما يكفيه لأداء عمله المحدود (بالفرقة) فكان وحده يتردد على المعاهد الفنية للتزود من علومها التي أحس من وحي قريحته بالحاجة إليها، ولم يضل طريقه قط إلى مصادر هذا العلم الجدير بالتحصيل فلم يطلبه مع طالبي الفن الشائع حيث كان مريدوه ومعلموه من أساتذة التخوت وسهرات الغناء ولكنه طلبه من ينبوعه الأصيل وتعلم الإيطالية ليتعلم أصول الالحان التي توقّعها الفرقة من الألحان الأجنبية ويتعلم أصول النوطة التي تدون بها الألحان.
وعن ملكة الشجاعي الموسيقية المطبوعة وعن غيرته ومغالاته أحيانا في تلك الغيرة على فن الموسيقى والغناء من مرض الجمود والرخاوة واحتقاره للفن المريض كتب العقاد يقول: ولقد كان للدراسات الفنية التي استفادها الشجاعي من العلم باللغة الإيطالية فضل عظيم على ملكته المطبوعة لم يزل يتحدث به حتى آخر أيامه ولم ينسه إياه إعجابه الشديد بفن فاجنر وإخوانه من عباقرة الألمان، ولكن هذا الفضل العظيم لم يكن يغنيه لو لم يوهب تلك الفطرة العميقة التي ساقته إليه وألهمته أن ينصرف عن كل وجهة يتجه إليها الفنان الناشئ لتلبية دواعي الملكة عنده حتى أفرطت بعض الإفراط لكي تقاوم كل اتجاه غير ذلك الاتجاه الوحيد، ومن هنا كان غلوه الشديد في احتقار الفن المريض من بقايا عصر الجمود والاسترخاء.
وبرغم انتقاد العقاد للشجاعي في هذا الغلو نجده يحمد هذا الغلو في جانب منه وأثر من آثاره ويرى أنه كان ضروريا في المرحلة الانتقالية من تطور الموسيقى العربية فيقول: ولعل هذا الغلو كان له لزومه المحمود في دور الانتقال من فترة الجمود والنسك إلى فترة التجديد والاستقامة على جادة الطريق، وقد أدرك مدرسة السيد درويش في إبانها فصحبها في خطواتها الأولى إلى طريقها القويم وكان إشرافه على الفرق الموسيقية في دور التمثيل عونا كبيرا للموسيقى المسرحية والأناشيد التمثيلية التي تفرعت عليها أغاني المجددين وكادت أن تصبح اليوم أسلوبا من غناء التخت يطرد عنه اسلوبه القديم، فإن التخت العصري إنما هو امتداد للفن المسرحي نلمس أثره في جميع مظاهره وأظهرها للحس غناء المطرب وهو قائم متحرك أمام سامعيه(46).
وفي ذكرى مرور أربعين سنة على رحيل الشيخ سيد درويش يكتب العقاد أنها مرحلة طويلة تكفي لقياس مدى الأثر الذي سرى من عبقرية الموسيقار الخالد إلى الموسيقى العربية وإلى الغناء الحديث في معارضه المنوعة بين التخت والمسرح والستار الأبيض والتليفزيون، وقد تتلخص المرحلة كلها في ظاهرة واحدة جامعة للظواهر المتعددة وهي ظاهرة التخت القائم بعد التخت الجالس على النمط القديم.
ويفصل الكلام في تلك الظاهرة فيحدثنا عن أنها تتجاوز الشكل إلى الموضوع لأن قيام العازفين قد أوشك أن يلغي الآلات الوترية التي يعزفون عليها بالأصابع واستبدل بها آلات العزف القوسية فانطلقت النغمات من طبقة الدندنة الرائقة على ذوق المنادر القديمة إلى طبقة الألحان المرسلة التي تتحرك وتتقدم ولا تدور على نفسها في مجلس التهويم والغفوة السارحة.. كأنها في الطريق إلى حجرة النوم.
ومع انطلاق النغمات من طبقة الدندنة إلى طبقة الألحان المرسلة جاء الوقوف على المسرح ملقنا طبيعيا لتقريب أدوار الغناء إلى أدوار التمثيل، فاستفادت الأغاني من تعبيرات الفنان المسرحي نفحة من التصوير الحي والمطاوعة السهلة للحركات العاطفية في أداء الانغام بل في وضع الألفاظ والمعاني التي توافق تلك الحركات.
وبناء على ذلك يجزم العقاد بتقدم الغناء في هذه السنين الأربعين ويتمثل تقدمه الملحوظ في تلك الصيحة الأولى التي طرقت الأسماع ونبهت الأذهان من ألحان سيد درويش.
لكن العقاد يستدرك فيقول إن التقدم مازال حتى الآن تقدما في التفصيلات وفي نبرة أمل يبشرنا بأن الأمل لا يزال قويا في ارتقاء هذا التقدم من وفرة المقدار إلى تحسين الجوهر الأصيل فلا نقنع باستمرار التقدم إلى الأمام وإنما نرجو أن يكون التقدم المنتظر ارتفاعا إلى الأعلى ولو في نفس الطريق، ويفسر كلامه هذا بأنه لا يكفي أن تتكاثر الأدوار والأحاديات (المنولوجات) ولا يكفي أيضا أن يتكاثر عدد المغنين والمنشدين على طابع واحد يكاد أن يجعلهم نسخة متكررة أو صوتا متشابها ينبعث من عدة آلات، فإن هذا لا يكفي ولا يزيد على أن يكون إضافة عددية إلى إضافة أخرى بغير تنويع ولا تمييز، وإنما المنتظر أن تكون الكثرة تنويعا بغير تكرار واختلافا في الطابع والجوهر وليس مجرد اختلاف في الحناجر والأصوات.
فمما لا شك فيه أن عندنا اليوم ثروة وافرة من المنشدين والمغنين تزيد في وفرتها ووفرة أدوارها وأغانيها على كل ثروة فنية عرفناها في أجيال العصر الحديث، فلا نظن أننا بحاجة إلى مزيد من الاصوات الرخيمة أو أو الأصوات السخية المرسلة بدون كلفة أوالأصوات المعبرة على حسب كلماتها ومعانيها(47).
ويتعرض العقاد لظاهرة المكايدة بين فريقين من جماهير الغناء ومن نقاد الفن على وجه الخصوص: أحدهما يتعصب للأغاني الجديدة ويبالع في تعصبه فيستهجن الأغاني القديمة ويزري بها وفريق آخر يتعصب للأغاني القديمة ويبالغ في تعصبه فيرفض كل جديد من الأغاني ويسخر منه.
ومن وجهة نظر العقاد ان الغناء الحديث لا نكران لتقدمه المستحسن من بعض جوانبه ولكن من النقاد المتعصبين للتجديد والمتعجلين في دعوتهم من يجهلون معنى الغناء القديم ويتطرفون في الإزراء به والإنكار عليه فيحسبون مثلا أن مدرسة "يا ليل ياعين" كلام بغير معنى وفي الحقيقة أن ترديد هاتين الكلمتين في أغاني القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم يكن من الفضول ولم يكن لغوا بلا معنى أو هتافا صوتيا لتحضير النغمة قبل الاسترسال في الغناء، ولكنهما وصلتان طبيعيتان ولدتا من بنية الغناء كله ورجعت بهما النسبة الحية إلى صميم العاطفة الإنسانية قبل أن ترجعا عبثا إلى رنة الوتر أو نبرة الصوت..
ويشرح العقاد ذلك بأن قوام الغزل في أيام "يا ليل وياعين" على شكوى السهاد والبعاد، ثم يطرح سؤالا تقريريا عن أي كلمتين في لغة الإنسان ألصق بالسهاد والبعاد من كلمة الليل أو من كلمة العين؟ إن الليل هو موعد السهاد والعين هي التي تعانيه وتشكوه، ولو قبل لعاشق أن كلام الالسنة محظور عليك إلا كلمتين لما استطاع أن يختار لغنائه على الخصوص كلمتين أوفق له في مناجاته من بعيد غير نداء الليل ونداء العين، وليس العاشق الحديث بحاجة إلى هذه الاستعانة المزدوجة في عصر السفور والاختلاط بين الجنسين.
ويرى العقاد أن الأمر سيعود إلى نصابه إذا نحن أغلقنا باب التطرف في الإزراء بالغناء القديم والإنكار عليه وواربنا الباب أمامه ليعود إلى أدوار الغناء الجديد كلما اتسع له موضع فيه، وسيتسع له موضع فيه بل مواضع كثيرة كلما عادت العين وعاد الليل إلى عملهما في مناجاة العشاق كما بدأ من قبل في أيام ياليل وياعين(48).
ويعود إلى مناقشة الموضوع مرة أخرى فيضيف أنه إذا كانت طبيعة العشق تغيرت بعد عهد "الليالي" فلا لوم على الليل والعين والآه أن تأتي في أوانها على حسب مناسباتها ومواضعها، ولا موجب لإهمال الموال كله لانقضاء مناسبة الليالي في نغماته وألحانه، فإن الموال يتسع اليوم لكل أغراض الغناء الحديث ويتسع لكلمات أخرى غير كلمات الليل والعين تحل فيه محلها وتؤدي في طريق تحضير اللحن وامتحان القدرة الفنية أداء الليالي بعد ذهاب عهد الحجاب(49).
وقد التفت العقاد إلى ظاهرة يمكن أن تكون ملمحا مميزا للغناء الجديد وهو دخول النساء إلى ساحة السماع بشكل لم يكن معهودا من قبل فلم يكن مثلا للمرأة "الأم" كما يقول قسط من هذا السماع إلا من وراء حجاب حيث تستمع هناك لأغاني العوالم الممنوعة غي غير زوايا الحجرات، وإنما يسمح للبنات في سن العروس المزفوفة بالاستماع إليها على سبيل "البحبحة" المبذولة في ليالي الأفراح.
ومع تطور المجتمع وسفور المرأة بعد طول احتجاب وشيوع مشاركتها في الحياة العامة واهتمام الأسر بتعليم الفتيات وكثرة عدد المتعلمات والعاملات "اجترأت البنت كما يقول العقاد على إعلان عاطفتها وظهر حينئذ على منصات الغناء من يردد لها التعبير عن تلك العاطفة، وقد تكون أدوار المنولوجات والأحاديات الغنائية قد مثلت بدايات الظهور ولا تزال مسحة المنولوج في رأيه عالقة بأغاني هذا القسم من المطربين إلى آخر ما ظهر منها على التخت أو بين فصول الأفلام.
ثم اتسعت الظاهرة فاتصلت حلقات هذا الفن حول بيئة الأسرة التي تحيط بالبنت في سن التعبير عن العاطفة الناشئة فبرزت بينها الأحاديث (في الأغاني) عن الأب والأم والأخ والخطيب وعن معارض البلكون ومساجلات التليفون(50).

==========

الجزء السادس:

وكما كتب عن بعض أساطين الموسيقى العربية كتب العقاد أيضا عن بعض أساطين الموسيقى الغربية فكتب مثلا عن جوزيبي فردي الموسيقار الإيطالي الشهير في مناسبة مرور نصف قرن على وفاته أن هناك جانبا من هذا الرجل: لا يزال صالحا للتحدث عنه في هذه المرحلة من مراحل نهضتنا الفنية(51) ونريد به جانب التجديد أو جانب الآراء والنظريات التي تتعلق بالتجديد في كل فن جميل، ولا سيما الغناء المسرحي والتعبيرات الموسيقية في الروايات على الإجمال.
لقد جدد فردي موسيقى بلاده ولكنه لم يقلبها ويخرج بها عن طبيعتها وخير ما صنعه لتلك الموسيقى أنه نفخ فيها من حياة القوة والشباب ومسح عنها شحوب النعومة والهزال فجعلها إيطالية موردة الخدين معتدلة القامة سديدة الخطوة تمشي في الطريق قدما ولا تتعثر هنا أو هناك وقد كانت قبل ذلك إيطالية صفراء وانية أو حمراء من صبغة الطلاء.
فإذا سمعت موسيقاه قلت: أجل هذا فردي وهذه إيطاليا ثم أضفت إليها في ناحية من نواحيها العامة أنها هي الموسيقى الإنسانية التي تلمح سيماها في كل أمة وفي كل زمن.
ويُرجع العقاد السر في ذلك إلى أنه: رجل متعدد الجوانب واسع الأفق جامع في موسيقاه لأذواق الفنون والآداب التي لا تنحصر في صناعة الأنغام والألحان فهو خبير بالتمثيل مطلع على أدب شيكسبير ملم بأطراف الآداب الفرنسية والألمانية مشتغل بالسياسة الوطنية بل مشتغل بالزراعة على نحو يتوسط بين أناقة الهواة وخبرة الفلاحين المنقطعين للحرث والحصاد.
وقد عانى فيردي كثيرا من النقاد الذين كادوا يفقدونه الثقة بموهبته ويدمرونه في مطلع حياته الفنية فناصبهم عداء بعداء، ولو شاء كما يقول العقاد لأسقط من حسابه طوال حياته آراء النقاد وظل يبدع موسيقاه غير عابئ بأحكامهم ونظرياتهم، ولكن أقسى ما كان يؤلمه في الواقع أن تتعرض ألحانه لقلم الرقابة فتقسره على تعديلها أو تعديل الكلمات المصاحبة لها مخافة أن تلهب حماسة الجماهير في المسارح العامة فتنطلق بالهتاف وتندفع إلى الثورة والهياج.
لقد كان يعتبر كل لحن يبدعه عملا فنيا متناسق الأجزاء والموقف فيه أشبه بمواقف التمثيل في الروايات(52) قد يؤدي التعديل فيه إلى مسخه او على الأقل سلبه قدرا من جماله وكماله.
ويكتب العقاد بمناسبة احتفال العالم بمرور مائة عام على وفاة بيتهوفن الذي يصفه بـ"البائس العظيم" فيقول إنه كان فنانا عظيما ونفسا عظيمة فأما الفنان فجملة ما يقال فيه أنه "شيكسبير الموسيقى" ويركز العقاد حديثه عن بيتهوفن بوصفه شخصا عبقريا - والعقاد مولع بشخصيات العباقرة والنوابغ وتجتذبه فيهم العلامات النفسية للعبقرية أو النبوغ الماثلة في السلوك وملامح السحنة وفي مقدمة تلك العلامات طابع الغرابة والاختلاف الذي يميزهم عمن حولهم من البشر، وخلاصة ما قيل في هذ النفس الطيبة الشقية إنها نفس بائس عظيم، وليست صورة بيتهوفن التي يعجب بها الناس الآن (بعد مائة سنة من وفاته) هي صورته الحقيقية فصورته الحقيقية كما كان يراها أبناء عصره هي صورة رجل نافر النفس نافذ النظرة متجهم الجبين نضح على وجهه الألم وطبعه الإهمال وازدراء العرف بطابع يهاب ولا يستملح ويروع الناظر ولا يعطفه عليه، وكان منظره أشبه شيء بأنبياء بني إسرائيل الذين يرسلون على الدنيا بريق السخط والزراية من أعينهم ونذير الموت والعذاب من أفواههم ويخيل إلى من يراهم أنهم خلقوا وحدهم في مفازة مجهولة لا سبيل بينها وبين الحياة أو بينها وبين الحياة سبيل تحف به المخاوف والعراقيل.
ويسهب العقاد في عرض جوانب الغرابة والتناقضات الظاهرة في سلوكه وتصرفاته ولكنه أكبر فيه إيمانه بالمثل الأعلى، واستدل على إيمان بيهوفن بالمثل الأعلى بتراجعه عن الإعجاب الشديد بنابليون وانقلاب هذا الإعجاب إلى سخط شديد وكراهية واحتقار عندما علم أن نابليون قبِل أن يتوج إمبراطورا، لقد كان في نظره "مثلا أعلى" لكنه سقط من نظره إذ كان بحسب تعبيره "واحدا كغيره من أبناء الفناء"، ومزق بيتهوفن الإهداء الذي كتبه بخط يده على أوراق سيمفونيه البديعة "البطل".
ويرى العقاد أنه برغم أن السمع هو سبيل الألحان إلى النفس وعدة الموسيقى في الشعور بالأصوات لكنه ولا ريب في ذلك ليس بالسبيل الفذ الذي تنقطع الموسيقى عن النفس إذا انقطعت موارده ويمتنع الطرب إذا امتنعت وسائله فللعالم أصداء كثيرة في النفس الإنسانية ليس السمع برسولها الفرد ولا هو بخير الرسل التي تحملها إلى السريرة، ويجد العقاد في عبقرية بيتهوفن ما يقنعنا بذلك فيقول: وفي عبقرية بيتهوفن شاهد بهذا يدل على مبلغ الحاجة إلى السمع في توليد الألحان فهي حاجة ماسة ولابد منها في بعض أدوار الدراسة ولكن الصمم مع ذلك لم يمنع بيتهوفن أن يخرج خير ألحانه وأكمل أدواره وهو محجوب الأذن منقطع عن عالم الأصوات(53).
ولا شك أن فقدان بيتهوفن لسمعه محنة ولكنها محنة تمثلت فيها بحسب تعبير العقاد نزاهة الفن وخلوصه من ظاهرة الحس القريب.... فقد شاء القدر أن نرى أعظم الموسيقيين مقفل الأذنين لا يسمع ما يوحيه لأنه يتلقاه من عالم النسب المحض التي لم تترجمها الأصوات(54).
وعن يوهان اشتراوس كتب العقاد يقول إنه: عازف عظيم تفيض ألحانه بالمرح والطرب والشباب والحياة.
ويصف موسيقاه بأنها إحدى الموسيقات التي يصح أن تسمى غنائية بسيطة تمييزا لها من الموسيقى العويصة المركبة التي يريدها عشاق فاجنر أو الموسيقى العقلية الصافية التي يذيعها في هذا العصر ستافنسكي، ويعقب على ذلك بأنه: إذا كانت هذه الموسيقى الغنائية لا تساغ في مصر فما الفارق بينها وبين موسيقى الغناء الشائع بين الجمهرة السامعة من سواد المصريين؟ ويجيب هو على السؤال الذي طرحه بأن: المرح في موسيقى اشتراوس مرح إنساني فالراقص على أنغام اشتراوس إنما يرقص لأن له نفسا إنسانية قد شاع فيها السرور فنهضت بالجسم الذي هي فيه إلى الحركة الموزونة والنشاط المنسوق، أما المرح الذي تمليه الأغاني السقيمة عندنا فهي تمثل الحيوانية كما مسخها الإنسان حين استغرقها كلها في الشهوة والخلاعة، والحيوان لا يعرف الخلاعة في الشهوات كما يعرفها الإنسان الممسوخ، ومرقصات اشتراوس لا تخلو من بعض الشجا وبعض الأنين ولكنه شجا إنسان وحنين إنسان.. إنسان يفكر ويتألم، وفرق كبير بين رقص اشتراوس ورقصنا لأن رقص اشتراوس معنى إنساني ورقص الأغاني المبتذلة عندنا قد خلا من أجمل ما في الإنسان وأجمل ما في الحيوان وجمع المسخ والتشويه في هذا وذاك(55).
وبمناسبة الذكرى المئوية لفردريك فرنسوا شوبان كتب العقاد عن ذلك الموسيقار النابغة فقال: يدعونه "شاعر الموسيقى" لانه يوقع في النفس ما يوقعه شعر العاطفة والشجن من الاريحية والحنين؛ تنغيم سمح وتنسيق جميل وقافية مرتقبة في موضعها، وشاعر الموسيقى كموسيقي الشعر كلاهما صاحب لون من الفن يعجب من يحب الشعر ويحب الموسيقى على السواء، ولا ينفرد بالإصغاء إليه معجب بواحد من الفنين.
وشوبان إن لم يكن من مردة الألحان من وجهة نظر العقاد لكنه من أعيانها المحبوبين أو من معشوقيها المدللين: ينال من الحفاوة والإيناس فوق ما يناله من الهيبة والتبجيل.
ويقارن العقاد بينه وبين بيتهوفن مارد الموسيقى فيرى أنهما طرفان متقابلان: طرفان في الشخصية وطرفان في النوعية الفنية، وإنه لعظيم جليل ذلك الفن الذي يجمع في دفتيه هذين الطرفين، ويدلل على هذا الفارق بمثال فقد ألف كلاهما لحن تشييع أو لحن جنازة فكان كل لحن منهما مثالا لصاحبه ومثالا لخالجة من الحزن الإنساني على الراحلين لا يشبه الخالجة الأخرى، فأما لحن بيتهوفن فهو احتفال بمخرج "بطل" منصر من معقله في الحياة نشيعه بالرهبة والتعظيم، وأما لحن شوبان فهو نشيج حزن على عزيز: أي عزيز يحق له منا أن نشيعه بالأسى والدموع.
ويفسر العقاد سر إعجابنا نحن الشرقيين بشوبان وقرب موسيقاه إلى قلوبنا بأن موسيقاه هي موسيقى الحس والقلب التي هي أقرب إلينا من موسيقى الخيال والدماغ.
ويتميز شوبان في موسيقاه بأنه أحد أقطاب الموسيقى الرفيعة القلائل الذين يتكلم عنهم المختصون بفنهم وغير المختصين لأنه هو وموسيقاه مزيج من الإنسانية والفن، يقترب منك إنسانا كما يقترب منك صاحب ألحان وأنغام(56).
وعن عازف الكمان الشهير فريتز كريزلر بعد أن حدثنا العقاد عن بعض صفاته الشخصية لا سيما ما عرف به من الأريحية والسخاء وقلة الاكتراث بالمال راح يحدثنا عن بعض جوانب من نبوغه الفني ومكانته في عالم الموسيقى والألحان فيقول: إن من آثاره في الموسيقى أنه جعل للعزف المنفرد شأنا لم يكن له من قبل ظهوره واشتهاره وأنه عوّد كثيرا من الموسيقيين أن يركزوا اللحن في آلة واحدة بين الآلات التي تجتمع في الفرقة الصغيرة (Concerto) وجنح إلى أسلوب القرن الثامن عشر بعض الشيء في طريقة التوزيع بين الآلات، ومنها ما يتعلق بأدوار "الأوبريت" اي الملحنات المسرحية الصغار، وعلى هذا يعتبرونه مجددا أقرب إلى المحافظة أو محافظا أقرب إلى التجديد.
وينقل إلينا العقاد ما كتبه المايسترو الكبير السير هنري وود عن كريزلر في كتابه "حياتنا الموسيقية" الذي شهد له فيه أن عزفه الوقور الرفيع كان عاملا من عوامل تميزه هو كقائد للأوركسترا، كتب موجها الخطاب إليه: إني أعلم أن كل ما قمت به من توجيه الفرقة إنما كان مجاوبة طبيعية لملكة الأداء عند كريزلر فإن قراءته لدوره فراءة صافية منظمة ووقاره من غير كلفة حين يعزف أدواره إنما هو صدى لوقاره الأبي في مسلكه وسيرته(57).
وإذا كان العقاد قد فطن مبكرا إلى أن الاستبداد الطويل هو الذي علمنا أن مقياس العظمة هو القدرة على إذلال الناس وتنغيصهم وأن مقياس الهوان هو العمل على إرضائهم وإسعادهم وأن المطربين أهل للهوان لأنهم "في خدمة الأهواء والشهوات"، فإنه يكتب في أخريات حياته فيقول" يبدو أن النظر إلى منزلة الغناء يتبدل عندنا بمقدار نصيبنا من الحرية القومية، ولكنه يضيف إلى ذلك عاملا آخر هو استقلال المغني في هذه الصناعة عن هوى الفرد الذي يستأجره لتسليته وتسلية ذويه وارتفاعه بذلك عن خدمة الفرد إلى "أداء وظيفة اجتماعية" لا تتوقف على مشيئة أحد بعينه من باذلي الأجر طلبا للغناء(58).
وللعقاد موقف ثابت وواضح من الصيحات والتقليعات التي تظهر من حين إلى حين في مجال الفن باسم التجديد والمعاصرة ثم تختفي كفقاعات الصابون من مثل الموسيقى السريالية التي ظهرت في أواخر الخمسينيات باسم الموسيقى اللانغمية Atonal وحاول بعضهم ان يروج لها في في بلاد أمريكا الجنوبية حيث راج الجاز زمنا من الأزمان، هذا الموقف هو الرفض التام والاستهجان فهو يعدها تقليعة لا تدوم ولا يمكن ان تدوم وهي أقصر عمرا من مثيلاتها في الشعر وفنون التصوير، ويفسر ذلك بأن مغالطة المئات من الناس أسماعهم بضع ساعات أصعب من مغالطة القارئ أو الناظر إلى الصورة نفسه على انفراد أو بين أمثاله بضع لحظات.
ويسهب في تفسير ما أجمله بهذا الخصوص فيقول: إن الموسيقى التي لا نغمات فيها شيء غريب ولكنها ليست بأغرب من الشعر بغير معان وأوزان، وليست بأغرب من التصوير بغير أشباه ورسوم، ولكن التهويش فيها (أي الموسيقى) ينكشف على وجه السرعة لأن مغالطة الحس في الأصوات المختلفة أصعب من مغالطة العين في الرموز الخفية أو مغالطة النفس في الوعي المجهول والوعي المعروف، وقد يسهل على المدعي أن يزعم أنه يسترسل مع التأمل أمام الصورة المختلفة والكلمات المبعثرة، وليس من السهل على مائة إنسان أن يخدعوا أنفسهم في قاعة من قاعات الموسيقى ساعة أو بضع ساعات مظهرين الإعجاب والارتياح ومررين هذه المهزلة كلما تكرر عزف الأصوات على آلات لا تؤدى بها نغمات ولا تنتظم عليها حركات أو سكنات، وقد اتفق العقاد برغم عدائه الشديد للشيوعية مع نقاد الفن الماركسيين في استهجان الموسيقى التي يسميها مخترعوها باسم الموسيقى التجسيمية Con Crete Music ونقل عن هؤلاء النقاد رأيهم بأن هذا الفن بدعة برجوازية للخلاص من الحاضر وصرف الجماهير عن وقائع الحياة إلى فراغ الأوهام والأساطير، ويعقب على ذلك بقوله" ولكن الموسيقيين "البكاشين" من مخترعي هذه المصدعات لا يقولون عن أنفسهم إنهم برجوازيون ولا شيوعيون وفخرهم كله أنهم يعطون عصر الصناعة حقه المفروض، وما حقه المفروض في عرفهم؟ أنه يمسخ الآدميين فيسلبهم النطق ويصنع لهم حناجر وألسنة تنطق كما تنطق المكنات والآلات(59).
ومن مواقف العقاد التي اتفق فيها مع أعدائه الشيوعيين موقفه غير المتعاطف مع موسيقى الجاز والمزري بها، فقد أشاد في هذا السياق بكلمة وصف فيها الزعيم السوفييتي الشهير نيكيتا خروشوف هذا النوع من الموسيقى فقال: كان السيد خروشوف في نقده الفني جديرا بالإعجاب حين أبدى رأيه في موسيقى الجاز فقال: إن نغمات الجاز تصيب السامع بالمغص"، واعتبر العقاد أن قيمة هذا النقد تعود إلى أنه يرد الصواب إلى تلك الرؤوس التي تلغط بالتجريد والفن الجديد، وأيسر ما يتعلمونه منه أن المسألة ليست كما يتوهمون مسألة اليمين واليسار أو مسألة التقدمية والرجعية التي يبغبغون بها ولكنها مسألة جامعة تستقل بأحكامها وأهوائها ويتلاقى فيها أقصى اليسار وأقصى اليمين كما يتلاقى الحكم على جراثيم الحس والوباء في كل كشف من كشوف التحليل(60).
ولا يرى العقاد غضاضة في الاعتراف بقلة محصوله من الفهم لموسيقى بعض أساطين الموسيقى العالمية كفاجنر مثلا فهو برغم أنه يستمع إلى موسيقاه ويحاول فهمها فإنه لم يفهم منها إلا النزر القليل، فبعد أن استمع هو وصاحبه إلى بعض الحان فاجنر على الفونوغراف يقول: سألته أفهمت شيئا؟ قال: لا والله، قلت: وانا مثلك .. ثم يعقب على ذلك بأن: هذا موسيقار الغرب الأشهر ولهلم فاجنر، وأنا لا أفهم منه إلا أقل من القليل، ولكنه عند نقادهم موسيقار جليل وعبقري نادر المثيل، قال: وهل يفهمه الغربيون كلهم وهو مغلق على أناس منا كل هذا الإغلاق؟، قلت: بل يسخر بعض الغربيين من هذه الموسيقى وأمثالها كما نسخر نحن منها ولهم في التندر عليها قفشات تذكرنا بقفشات أولاد البلد.
فليست كل موسيقى من وجهة نظر العقاد مفهومة عند كل سامع حتى لو كان الموسيقيون والسامعون من بلد واحد، وليس من اللازم أن يستطيب محب الغناء كل غناء، وهنا يلجأ العقاد إلى التشبيه فيشبه الأمر في الموسيقى والغناء بمثيله في الشعر فيقول: ولا يستطيب محب الشعر كل قصيد ولو كان من نظم أجود الشعراء(61)
وبرغم علاقة العقاد الوثيقة بالموسيقى الشرقية والغربية سماعا وتذوقا إلا أنه كان يتجنب في الحديث عن الموسيقى والموسيقيين التعرض لما يعتبره من شأن المتخصصين، فنجده مثلا يقول عند حديثه عن بيتهوفن "وليس من شأننا أن نخوض في الكلام عليه من هذه الناحية لأنها الناحية التي نجهل دقائقها وأوجه الحكم فيها، وقد لمس ذلك الشاعر والصحفي كمال النجمي الذي كان من كبار المهتمين بشأن الموسيقى والغناء المصري حين كتب ذات مرة يقول: "كان العقاد يكتب عن الغناء والموسيقى على غير ممارسة للصناعة أو تخصص مدرسي فيها مهتديا بذوقه الذي صقله السماع والنظر في مقولات علم الجمال على اختلافها"(62).

==========

الجزء السابع:

ولم تنحصر علاقة العقاد بالموسيقى والغناء في السماع والاستمتاع وكتابة المقالات عن جوانب منهما وعن بعض أعلامهما فحسب، بل إنهما شغلا جانبا من فكره الإبداعي بوصفه شاعرا مفكرا تناول عشرات القضايا والموضوعات المختلفة في شعره الذي لم ينقطع عن كتابته حتى قبيل وفاته بزمن قليل، وفي دوواينه الشعرية التي بلغت عشرة دواوين منذ "يقظة الصباح" الذي صدر عام 1916 حتى "ما بعد البعد" الذي صدر بعد وفاته عام 1966 نجد أكثر من دليل، ومن ذلك مثلا قصيدته البديعة "الموسيقى"(67) التي تعد أول قصيدة في تاريخ الشعر العربي تدور حول هذا الموضوع، ويقول فيها.:
معلمة الإنسان مـــــا لــــــيس يعلم .. وقائلة مــــــــا لا يبـــــــــوح بـــه الفم
وكامنة بيــــــــن النفـــــوس بداهة .. وما علمـــت في مهدهـــــا مــــا التكلم؟
ومسمعة الإنســان أشجــــان نفسه .. فيطـــــربــه ترجــــــيــــعها وهي تؤلم
أعيدي علي القول أنصت وأستمع .. حديـــثا لــه في نـــوطة القلـــــب ميسم
حديـثا يناغيــــــني فأذكــــــر أنني .. تسمعتــــه والقلــــــب وسنــــــان يحلم
ويا لـــيـتني أدري أنفسي صحيـفة .. تناديــــــن منهــا أم فـــــــــؤادي المكلم
إليــــك تنـاهى كـــــل علم ومنطق .. فسيـــــان منطيـــــــق لديـــــك وأعجم
تهزيــــن أعطاف البخيـــل فيكرم .. ويصغي إليــــــك المشمخـــــر فيـرحم
ويسمعك الـواهي الجبـــان فينثني .. إلى الحرب شيطانا على المــوت يهجم
ويمنحك الشيـــخ الجليـــل وقـاره .. وقـارا شـــــــراه بالصبــا وهـــــــو قيم
وتسلمك الأبـــدان عفـــو حراكها .. كما انقادت الأغصـــان والريــــح تنسم
وفي القصيدة يكشف العقاد عن مدى تعلقه بالموسيقى وتأثره بما تبثه في نفسه من إيحاءات - بوصفها لغة يفهمها كل الأحياء - وتأثيرها في كل من ينصت إلى أنغامها ويضرب على ذلك عدة أمثلة: فالموسيقى تخلق الأريحية في نفس البخيل فيصير كريما وتجعل المتعالي القاسي متواضعا رحيما ومن أجلها يتخلى الشيخ الوقور عن بعض وقاره الذي دفع ثمنه سنوات صباه القيم، ويختم القصيدة بأن الأجسام تستجيب لفعل الموسيقى فتلين وتهتز وتتمايل رقصا كما الأغصان حين يحركها النسيم.
وقد احتفي العقاد مبكرا في شعره بتغريد الطير، ويبدي اندهاشه ممن لا يشعر من الشعراء بتغريد الطيور فيقول: وإذا لم يشعر الشاعر بتغريد الطير على اختلافه فبماذا عساه يشعر؟ إن الطير المغرد هو الشعر كله لأنه هو الكلام والربيع والطرب والعلو والتعبير والموسيقية، فمن لم يأنس به لم يأنس بما في هذه الدنيا من طبيعة شاعرة ولم يختلج له ضمير بما في الحياة من فرح وجيشان وتعبير والطير هو حجة الطبيعة لشعر الإنسان وغناء الإنسان فهو عند الشاعر وثيقة لا يعرض عنها ولا يفلتها من يده، ويؤكد العقاد أن التعبير الموسيقيّ عنصر من عناصر الطبيعة فيقول: وإذا قال الجفاة الجامدون إن الشعر لغو في الحياة قال الشاعر إن التعبير الموسيقي عنصر من عناصر الطبيعة وإن الطير يغني ويهتف وإن الطير يفرغ للغناء إذا شبع وأمن كأن الغناء والتعبير عن الشعور هما غاية الحياة القصوى لا ينساها الحي إلا لعائق يشغله ويغض من حياته(68).
وكانت حفاوة العقاد بطائر الكروان حفاوة خاصة ومبكرة، ففي ديوانه الأول "يقظة الصباح" نقرأ له قصيدة بعنوان "الكروان" اتخذ فيها من غناء الكروان مدخلا للحديث عن الموسيقى كما تتجلى في الطبيعة، ومن ذلك قوله - وهو يخاطب الكروان - إن تغريده موسيقى والموسيقى هي اللغة الحقيقية؛ لأنها لغة الوجدان التي توحي بالمعاني بغير لسان(69):
كم صيــــحة لك في الظلام كأنها .. دقـــــات صـــدر للدجنـــــة عان
هن اللغات ولا لغات سـوى التي .. رفعـــــت بهن عقيــــرة الوجدان
إن لم تقيـــــدها الحــــروف فإنها .. كالــــوحي ناطقة بغيـــــر لسان
أغنى الكلام عن المقاطع واللغى .. بث الحزيـــــن وفــرحة الجذلان
وقد بلغ من حفاوة العقاد بالكروان أنه أصدر ديوانا يحمل اسمه هو "هدية الكروان"(70)، ويتضمن الديوان العديد من القصائد التي تدور حول الكروان وتغريد الكروان ومنها: الكروان المجدد وغن يا كروان والليل يا كروان وما أحب الكروان وسؤال الكروان وغيرها، وفي قصيدته "غن يا كروان" يطالب الكروان بالغناء فيقول:
قم غن يا كروان غن .. وتمن في الدنيا ومني
وأمن دجاك وإن عرفتك في الحـياة قليـل أمن
فيم المخافة يا سميــــر الليـل أو فيـــم التجني؟
الصقر نام وأنت وحـدك تمدح الدنيـــــا وتثني
وفي قصيدته "على الجناح الصاعد" يتحدث عن استقلال الكروان بالغناء في الليل بينما تغني الطيور الأخرى بالنهار ويحث البشر من الآنسين في الليل بصحبة أحبائهم وكذلك الساهدين الساهرين وحدهم على الإنصات لذلك الطائر الفريد والمغني الخالد:
حادي الظلام على جــناح صاعد .. يا أرض أصغي يا كواكب شاهدي
يا آنسيـــــن بصحبة مــن وجدهم .. نصـــّـوا المسامع للأنيـــس الواحد
يا ساهدين على انفراد في الدجى .. ردوا التحيــــــة للفريــــــد الساهد
لهجت طيـــور بالضحى وتكفلت .. بالليـــــــل حنجــرة المغني الخالد
وقد نعى العقاد على الشعراء المصريين حفاوتهم بطيور مغردة لا تنتمي إلى البيئة المصرية كالبلبل والعندليب وغيرهما في حين أنهم أغفلوا ابنها الأصيل "طائر الكروان"، ويشبه العقاد الشاعر الذي يتغنى بالبلابل وهي من الطيور المهاجرة التي لا تطيل المقام في مصر ولا يتغنى بالكراوين والقماري بأنه كالبغبغان يكرر ما يسمع دون فهم:
ما اشتغال بمــــــورد لست منـــه بناهل
وانصراف عــن الذي أنت منه بساحل
أنت عنـــــدي بذا وذا جاهـل أي جاهل
ناقل لهفــــة الصدى أو شبيـــــــه بناقل
في الكراوين غٌنيـــة عن نشيــد البلابل
والقماريّ مالها؟ اصدح وأسمع وسائل
إن تعداك قـــولها فالتمس وصـف ناقل
وإذا كان العقاد قد اختص الكروان بكل هذه الحفاوة فقد امتدت حفاوته إلى طائر القمري بوصفه من طيور البيئة المصرية المغردة فيقول مثلا في قصيدته "القماري العارفة" إنها قد اكتشفت أن داره حل بها ربيع الحب فملأتها بالغناء:
ملأت داري القمـــــاريّ غناء .. ويحها هل يكشف الطير الغطاء؟
عرفت عنــــدي ربيـــــعا بعدما رهبت مـــــن ظلمة الدار الشتاء
ويرجو العقاد من طائر القمري في قصيدته "شدو لا نوح" أن يغني ليسلي العشاق المحزونين:
غرد على الـــدور ياقمــريّ في دعة .. واسلم هنـــالك مـــــن باك ومبكيّ
واتل الــــرجاء على هـــذا وذاك ولا .. تسألهما عن جوى في القلب مخفيّ
حسب المغاني التي يبكي الحزين بها .. من سلــــوة أن فيـــها شدو قمريّ
وقد اتسعت دائرة حفاوة العقاد بالطيور المغردة حتى إنه ليعد بعض الطيور التي نستهجن أصواتها أو نتطير منها طيورا مغردة ولكنها تغرد بطريقنها الخاصة كالبوم والغربان، يقول مثلا في قصيدة له بعنوان "شفاعة للغراب"(71):
حيا الغـــراب الفجــر بالنعيب .. تحيــــــــة التهليـــــل والترحيب
وافتر نــــور الفجر كالمجيب .. في غيـــــر ما لــــوم ولا تثريب
لهاتف نــــــاداه مــــــن قريب
شفاعة الأنـــــوار والأحباب .. في الأسود المهجـور في الخراب
ما الصيدح الهاتف بالعجاب .. أصـــدق لك حبـا مــــــن غراب
فاعذره يا فجـــــر على التشبيب
وفي ديوانه "عابر سبيل"(72) الذي أصدره بعد "هدية الكروان" نقرا للعقاد قصيدة أخرى عن الكروان بعنوان "عودة الكروان"، وفيها يرحب بهذا الطائر المغرد لأنه يبشر الناس بكل ما هو خير في الحياة:
مرحبا بالبشيــــر بل ألف مرحى .. قد سمعناك فاملا السمع صدحا
واملأ الليــــــل بالنـــداء على الحــــب مصـــرا على النــــداء ملحا
أنت لا شك مــــوقظ منـــــه وسنــــــانا معيـــــد له إذا مـــــا تنحى
قد سمعناك بالقلــــوب وصدقنــاك فاسبـــح بحمــد دنيـــــــاك سبحا
لست بالمـــادح المريـــب فلــــولا فتنة في الحيــاة ما قلـــــت مدحا
لك لمح كالبــرق في عالم الصــــوت يشــــق الظــلام جنحا فجنحا
ويرينا الحيــــاة نقلــــة حلــــم تتجــــلى عــــــــالما وتعبـــــر لمحا
ويختتم العقاد قصيدته بأن المبشرين بالخير من الناس هم عيال على أمة الطير لا سيما الكروان:
كل من بشروا من الناس بالخيـــر عيال على العصافيــــر طلحى


***



الجزء السابع من دراستي:
الموسيقى والغناء
في حياة العقاد وفكره
ولم تنحصر علاقة العقاد بالموسيقى والغناء في السماع والاستمتاع وكتابة المقالات عن جوانب منهما وعن بعض أعلامهما فحسب، بل إنهما شغلا جانبا من فكره الإبداعي بوصفه شاعرا مفكرا تناول عشرات القضايا والموضوعات المختلفة في شعره الذي لم ينقطع عن كتابته حتى قبيل وفاته بزمن قليل، وفي دوواينه الشعرية التي بلغت عشرة دواوين منذ "يقظة الصباح" الذي صدر عام 1916 حتى "ما بعد البعد" الذي صدر بعد وفاته عام 1966 نجد أكثر من دليل، ومن ذلك مثلا قصيدته البديعة "الموسيقى"(67) التي تعد أول قصيدة في تاريخ الشعر العربي تدور حول هذا الموضوع، ويقول فيها.:
معلمة الإنسان مـــــا لــــــيس يعلم .. وقائلة مــــــــا لا يبـــــــــوح بـــه الفم
وكامنة بيــــــــن النفـــــوس بداهة .. وما علمـــت في مهدهـــــا مــــا التكلم؟
ومسمعة الإنســان أشجــــان نفسه .. فيطـــــربــه ترجــــــيــــعها وهي تؤلم
أعيدي علي القول أنصت وأستمع .. حديـــثا لــه في نـــوطة القلـــــب ميسم
حديـثا يناغيــــــني فأذكــــــر أنني .. تسمعتــــه والقلــــــب وسنــــــان يحلم
ويا لـــيـتني أدري أنفسي صحيـفة .. تناديــــــن منهــا أم فـــــــــؤادي المكلم
إليــــك تنـاهى كـــــل علم ومنطق .. فسيـــــان منطيـــــــق لديـــــك وأعجم
تهزيــــن أعطاف البخيـــل فيكرم .. ويصغي إليــــــك المشمخـــــر فيـرحم
ويسمعك الـواهي الجبـــان فينثني .. إلى الحرب شيطانا على المــوت يهجم
ويمنحك الشيـــخ الجليـــل وقـاره .. وقـارا شـــــــراه بالصبــا وهـــــــو قيم
وتسلمك الأبـــدان عفـــو حراكها .. كما انقادت الأغصـــان والريــــح تنسم
وفي القصيدة يكشف العقاد عن مدى تعلقه بالموسيقى وتأثره بما تبثه في نفسه من إيحاءات - بوصفها لغة يفهمها كل الأحياء - وتأثيرها في كل من ينصت إلى أنغامها ويضرب على ذلك عدة أمثلة: فالموسيقى تخلق الأريحية في نفس البخيل فيصير كريما وتجعل المتعالي القاسي متواضعا رحيما ومن أجلها يتخلى الشيخ الوقور عن بعض وقاره الذي دفع ثمنه سنوات صباه القيم، ويختم القصيدة بأن الأجسام تستجيب لفعل الموسيقى فتلين وتهتز وتتمايل رقصا كما الأغصان حين يحركها النسيم.
وقد احتفي العقاد مبكرا في شعره بتغريد الطير، ويبدي اندهاشه ممن لا يشعر من الشعراء بتغريد الطيور فيقول: وإذا لم يشعر الشاعر بتغريد الطير على اختلافه فبماذا عساه يشعر؟ إن الطير المغرد هو الشعر كله لأنه هو الكلام والربيع والطرب والعلو والتعبير والموسيقية، فمن لم يأنس به لم يأنس بما في هذه الدنيا من طبيعة شاعرة ولم يختلج له ضمير بما في الحياة من فرح وجيشان وتعبير والطير هو حجة الطبيعة لشعر الإنسان وغناء الإنسان فهو عند الشاعر وثيقة لا يعرض عنها ولا يفلتها من يده، ويؤكد العقاد أن التعبير الموسيقيّ عنصر من عناصر الطبيعة فيقول: وإذا قال الجفاة الجامدون إن الشعر لغو في الحياة قال الشاعر إن التعبير الموسيقي عنصر من عناصر الطبيعة وإن الطير يغني ويهتف وإن الطير يفرغ للغناء إذا شبع وأمن كأن الغناء والتعبير عن الشعور هما غاية الحياة القصوى لا ينساها الحي إلا لعائق يشغله ويغض من حياته(68).
وكانت حفاوة العقاد بطائر الكروان حفاوة خاصة ومبكرة، ففي ديوانه الأول "يقظة الصباح" نقرأ له قصيدة بعنوان "الكروان" اتخذ فيها من غناء الكروان مدخلا للحديث عن الموسيقى كما تتجلى في الطبيعة، ومن ذلك قوله - وهو يخاطب الكروان - إن تغريده موسيقى والموسيقى هي اللغة الحقيقية؛ لأنها لغة الوجدان التي توحي بالمعاني بغير لسان(69):
كم صيــــحة لك في الظلام كأنها .. دقـــــات صـــدر للدجنـــــة عان
هن اللغات ولا لغات سـوى التي .. رفعـــــت بهن عقيــــرة الوجدان
إن لم تقيـــــدها الحــــروف فإنها .. كالــــوحي ناطقة بغيـــــر لسان
أغنى الكلام عن المقاطع واللغى .. بث الحزيـــــن وفــرحة الجذلان
وقد بلغ من حفاوة العقاد بالكروان أنه أصدر ديوانا يحمل اسمه هو "هدية الكروان"(70)، ويتضمن الديوان العديد من القصائد التي تدور حول الكروان وتغريد الكروان ومنها: الكروان المجدد وغن يا كروان والليل يا كروان وما أحب الكروان وسؤال الكروان وغيرها، وفي قصيدته "غن يا كروان" يطلب من الكروان أن يغني فيقول:
قم غن يا كروان غن .. وتمن في الدنيا ومني
وأمن دجاك وإن عرفتك في الحـياة قليـل أمن
فيم المخافة يا سميــــر الليـل أو فيـــم التجني؟
الصقر نام وأنت وحـدك تمدح الدنيـــــا وتثني
وفي قصيدته "على الجناح الصاعد" يتحدث عن استقلال الكروان بالغناء في الليل بينما تغني الطيور الأخرى بالنهار ويحث البشر من الآنسين في الليل بصحبة أحبائهم وكذلك الساهدين الساهرين وحدهم على الإنصات لذلك الطائر الفريد والمغني الخالد:
حادي الظلام على جــناح صاعد .. يا أرض أصغي يا كواكب شاهدي
يا آنسيـــــن بصحبة مــن وجدهم .. نصـــّـوا المسامع للأنيـــس الواحد
يا ساهدين على انفراد في الدجى .. ردوا التحيــــــة للفريــــــد الساهد
لهجت طيـــور بالضحى وتكفلت .. بالليـــــــل حنجــرة المغني الخالد
وقد نعى العقاد على الشعراء المصريين حفاوتهم بطيور مغردة لا تنتمي إلى البيئة المصرية كالبلبل والعندليب وغيرهما في حين أنهم أغفلوا ابنها الأصيل "طائر الكروان"، ويشبه العقاد الشاعر الذي يتغنى بالبلابل وهي من الطيور المهاجرة التي لا تطيل المقام في مصر ولا يتغنى بالكراوين والقماري بأنه كالبغبغان يكرر ما يسمع دون فهم:
ما اشتغال بمــــــورد لست منـــه بناهل
وانصراف عــن الذي أنت منه بساحل
أنت عنـــــدي بذا وذا جاهـل أي جاهل
ناقل لهفــــة الصدى أو شبيـــــــه بناقل
في الكراوين غٌنيـــة عن نشيــد البلابل
والقماريّ مالها؟ اصدح وأسمع وسائل
إن تعداك قـــولها فالتمس وصـف ناقل
وإذا كان العقاد قد اختص الكروان بكل هذه الحفاوة فقد امتدت حفاوته إلى طائر القمري بوصفه من طيور البيئة المصرية المغردة فيخبرنا مثلا في قصيدته "القماري العارفة" أنها قد اكتشفت حلول بها ربيع الحب بداره فملأتها غناء:
ملأت داري القمـــــاريّ غناء .. ويحها هل يكشف الطير الغطاء؟
عرفت عنــــدي ربيـــــعا بعدما رهبت مـــــن ظلمة الدار الشتاء
ويرجو العقاد من طائر القمري في قصيدته "شدو لا نوح" أن يغني ليسلي العشاق المحزونين:
غرد على الـــدور ياقمــريّ في دعة .. واسلم هنـــالك مـــــن باك ومبكيّ
واتل الــــرجاء على هـــذا وذاك ولا .. تسألهما عن جوى في القلب مخفيّ
حسب المغاني التي يبكي الحزين بها .. من سلــــوة أن فيـــها شدو قمريّ
وقد اتسعت دائرة حفاوة العقاد بالطيور المغردة حتى إنه ليعد بعض الطيور التي نستهجن أصواتها أو نتطير منها طيورا مغردة ولكنها تغرد بطريقنها الخاصة كالبوم والغربان، يقول مثلا في قصيدة له بعنوان "شفاعة للغراب"(71):
حيا الغـــراب الفجــر بالنعيب .. تحيــــــــة التهليـــــل والترحيب
وافتر نــــور الفجر كالمجيب .. في غيـــــر ما لــــوم ولا تثريب
لهاتف نــــــاداه مــــــن قريب
شفاعة الأنـــــوار والأحباب .. في الأسود المهجـور في الخراب
ما الصيدح الهاتف بالعجاب .. أصـــدق لك حبـا مــــــن غراب
فاعذره يا فجـــــر على التشبيب
وفي ديوانه "عابر سبيل"(72) الذي أصدره بعد "هدية الكروان" نقرا للعقاد قصيدة أخرى عن الكروان بعنوان "عودة الكروان"، وفيها يرحب بهذا الطائر المغرد لأنه يبشر الناس بكل ما هو خير في الحياة:
مرحبا بالبشيــــر بل ألف مرحى .. قد سمعناك فاملا السمع صدحا
واملأ الليــــــل بالنـــداء على الحــــب مصـــرا على النــــداء ملحا
أنت لا شك مــــوقظ منـــــه وسنــــــانا معيـــــد له إذا مـــــا تنحى
قد سمعناك بالقلــــوب وصدقنــاك فاسبـــح بحمــد دنيـــــــاك سبحا
لست بالمـــادح المريـــب فلــــولا فتنة في الحيــاة ما قلـــــت مدحا
لك لمح كالبــرق في عالم الصــــوت يشــــق الظــلام جنحا فجنحا
ويرينا الحيــــاة نقلــــة حلــــم تتجــــلى عــــــــالما وتعبـــــر لمحا
ويختتم العقاد قصيدته بأن المبشرين بالخير من الناس هم عيال على أمة الطير لا سيما الكروان:
كل من بشروا من الناس بالخيـــر عيال على العصافيــــر طلحى

========

الجزء الثامن والأخير

لم يحتف شاعر في تاريخ الشعر العربي بالموسيقى والغناء كما احتفى العقاد، وعدا ما ذكرناه من قبل من نصوص شعرية ونثرية تناول فيها جوانب من الموسيقى والغناء من خلال بعض تجلياتهما الشرقية والغربية ومن خلال بعض تجلياتهما في الطبيعة على ألسنة الطير لا سيما الكروان هناك أيضا النصوص الشعرية التي كتبها في الاشادة ببعض مشاهير الموسيقى والغناء والتنويه بفنهم ومنها مثلا ذلك النص الذي نشره بجريدة "البلاغ الأسبوعي" أواخر عام 1925 ويمدح فيه محمد عبد الوهاب ويشيد بفنه عقب سماعه في الجلسة الخاصة التي دبرتها السيدة روزاليوسف لرأب الصدع بينه هو وصديقه إبراهيم عبد القادر المازني من ناحية وأمير الشعراء أحمد شوقي من ناحية أخرى، ذلك الصدع الذي أحدثه كتابهما "الديوان" الذي أصدراه عام 1921 وهاجما فيه شوقي وشعره بعنف(84)، والنص لا يتجاوز خمسة أبيات هي كالتالي:
إيه عبد الوهــــــاب إنك شاد .. تطرب السمع والحجى والفؤادا
قد سمعناك ليـــلة فعــــــرفنا .. كيف يهــوى المعذبـون السهادا
وأعدت الحديث في كل لحن .. فعشقنا مــــــن الحديـث المعادا
ونفيـــنا الرقــــــــاد عنا لأنا .. قد حلمنا وما غشيــــــنا الرقادا
بارك الله في حيـــــــاتك للفن وأبقــــــــاك للمحبيــــــــــن زادا
ومما هو جدير بالذكر أن العقاد لم ينشر ذلك النص في أي من دواوينه الشعرية ولكن نشره منذ سنوات قليلة تلميذه وصديقه محمد محمود حمدان (الأخ الأكبر للدكتور جمال حمدان) في كتابه "المجهول والمنسي من شعر العقاد" ط الدار المصرية اللبنانية 2014.
ومن تلك النصوص قصيدته "إلى خليفة سيد درويش"(85) التي كتبها ينوه فيها بالمطرب محمد بخيت الذي سطع نجمه إبان العشرينيات من القرن الماضي (والقصيدة في الواقع كتبها العقاد نكاية في محمد عبد الوهاب الذي منعه أحمد شوقي من التواصل معه أو مع المازني بعد جلسة المصالحة التي أشرنا إليها)، ومن القصيدة الأبيات الآتية التي يشيد فيها العقاد بصوت بخيت وحسن عزفه وأنه لولا الوفاء للشيخ سيد درويش لقال إنه صورة منه مجلوة زاهية ويصف صوته بأنه صقيل مكتمل البيان لا تشينه لثغة كما تشين غيره(86) (وفي موضوع اللثغة تلك تعريض بمحمد عبد الوهاب الذي كانت بلسانه في مطلع حياته الفنية لثغة تغلب عليها بعد ذلك بالدربة والمران) وأنه صوت نديّ واضح، وفي البيتين الأخيرين يتنبأ العقاد لبخيت بمستقبل عظيم فمن يرزق مثل هذا الصوت لا يعوق مسيرته شيء :
قل يا بخيـت فانت أعذب صادح .. شــــدوا وأعـــــزفهم على الأوتار
لباك من عليــــا الأرائك سيـــــد .. بوركتما مـــــــن سابــــق ومجار
لولا الوفــــاء لـه لقلـــــت أعدته .. كالتبــــر مجلـــوا بغيــــــر غبار
بمفصــل وافي البيــــــــان مبرء .. من لثغـــة تـــزري بـــــه وعثار
أندى من النـــوار باكـــره الندى .. سحرا وأوضح مــن شهاب سار
صـــوت سيبلغ لا محالة في غد .. أقصى المدى مــن شهـرة وقرار
هيهات من يرزقه لا تحجبه عن .. سمع الزمان يــــد مـــــن الإنكار
وللعقاد في مديح السيدة أم كلثوم قصيدة بعنوان "كوكب الشرق"(87)، ألقاها في الحفل الذي أقيم بمعهد الموسيقى العربية بتاريخ 19 نوفمبر 1949(88) بمناسبة عودتها من أوربا حيث أجريت لها عملية جراحية في الغدة الدرقية لعلاج عينيها، ومنها قوله يصف صوتها:
أم كلثـــــــــوم يا بشيـــــــرا مـــــن الله بالرجاء
أنت مــــــن وحيـــــــه ولله في الفــــــــن أنبياء
ذلك الصوت صوتك العذب من عـــــرشه نداء
فيه ســـــر من جنــــة الخـــــلد لكنــــــه ضياء
فيه ما يــرفع الحجـــاب وما يكشــــــف الغطاء
فيه أنس لمــــن يشـــــاء وسلـــــوى لمـن يشاء
فيه للمـــــرتجى ســـــــلام وللمشتـــــكى عزاء
فيه حـــرز من الهمــوم وعـــون عـلى القضاء
ثم يصف العقاد السيدة أم كلثوم بأنها كوكب سماوي أسعد الأرض بالوجود فيه كما يصف صوتها بأنه صوت لا نظير له في الحسن والنقاء، ويختم قصيدته بأنها دون مبالغة في الثناء مثل الشمس لا تنتمي إلى سمائنا الدنيا:
أيها الكــــــــــوكب الذي أسعـــــد الأرض باللقاء
رددي الطــرف في الفضاء ومـــا أرحب الفضاء
واسأليـــه سؤال مــن يلحن الطيـــــــر في الهواء
هل ترى فيه مثل مثل صوتك في الحسن والنقاء
لا تجيبي، أنا المجيـــــــب ولـــــم أغـل في الثناء
أنت كالشــــمس لا تعــــــد في هـــــــــذه السماء
وكما حظي الشيخ سيد درويش من العقاد بأكثر من مقالة حظي أيضا منه بأكثر من نص شعري يمتدح فيه فنه وينوه بمكانته ودوره في تطوير الموسيقى والغناء العربي، وقد استشهدنا من قبل بنصين من نصوصه التي كتبها في مديح سيد درويش وفنه ولا بأس من الاستشهاد هنا أيضا بأبيات أخرى من النصين، وفي قصيدته "موسيقيّ خالد"(89) يصف العقاد سيد درويش بأنه "سيد" اسما على مسمى فيقول:
قل سيد فإذا ذهبــــــت مترجما .. علمــــوا هنالــــــك أنه "المايسترو"
هي من مصادفة الحروف وربما .. سبق الحروف بها دليــل مضمر
سمة على كـــــــل اللغات سميها .. للسبق في الفــن الجميــــل ميسر
ويرد على أولئك الذين قالوا بأن الغناء تفرنج على يدي سيد درويش فينفي عنه أنه متأثر وإنما هو قد عرف الموسيقى والغناء كما هما على أصولهما في عرف الامم التي تغني غناء قيّما بعيدا عن اللغو والمجانة فيقول :
قالــــو تفـــــرنج بالغنــــــــاء وإنما .. هــــــو مــــــــؤثر للفـــــن لا متأثر
عرف الأغاني واللحون كما جرت .. في عــرف من نطقـــوا بهن فغيروا
أمم إذا غنـــــت فليـــــــس غناؤها .. لغـــــو المجانة بــــــــل معــان تؤثر
وفي قصيدته "في ذكرى سيد درويش"(90) يدعو إلى حفظ ذكرى الموسيقي النابغة فيقول:
اذكروا اليوم سيدا واحفظوا الذكر سرمدا
وتغنــــوا بحمـــــــد مـــــن تغنى فاسعدا
من يكــــن ذاك أمسه يبتدئ مجـــده غدا
ويتطرق إلى بعض سمات الموسيقى والألحان الموسيقية لا سيما ألحان سيد درويش التي هي من وجهة نظره منطق يبدو من خلاله الكون موحدا منظما متسقا، وتسمع حين تسمع موسيقاه وحيا يخاطب الضمائر مباشرة في الوقت الذي يعجز فيه الكلام عن فعل ذلك:
إنما اللحن منطق وحّد الكــون إذ حدا
فيه لا في اللغات يبــدو نظيما منضدا
اسمعوا منه في الضمائروحيــا مؤيدا
حيثما يقصـــــر الكــلام ويمشي مقيدا
ويختم قصيدته بأن سيد درويش مهد الطريق إلى موسيقى راقية وغناء محترم وعلينا أن نواصل ما بدأه مترحما عليه فيقول:
إنه مهد الخطا فابلغـــــــوا أنتم المدى
رحم الله سيـــــــدا كان في الفن سيدا
وللعقاد نصوص شعرية وجدت طريقها إلى ساحة التلحين والغناء، وإذا كانت تلك النصوص قليلة العدد إلا أنها بالرغم من ذلك تدخل ضمن الشواهد على وثاقة العلاقة بين العقاد والموسيقى والغناء، ومن أوائل تلك النصوص ما كتبه من مقطوعات شعرية لتغنيها الفنانة نادرة أمين(91) (كانت تلقب بأميرة الطرب) التي قامت بدور البطولة أمام جورج أبيض في فيلم "أنشودة الفؤاد"(92) (وهو أول فيلم غنائي في تاريخ السينما المصرية وثاني فيلم ناطق، وكان عرضه الأول في إبريل 1932) وقد نشر العقاد تلك المقطوعات في ديوانه "عابر سبيل"(93) ومن تلك المقطوعات "قلبي زورق" التي قدم لها بأنها أغنية "تنشد في زورق يجري على النيل عند القناطر الخيرية تحت أشجار الصفصاف التي تطل على الشاطئ وفي الزورق المحبان يتناجيان والحبيبة تنشد":
في الهوى قلبي .. زورق يجري
أين يمضي بي .. نهره الخمري
ليتني أدري
ليــته يجري .. يا أبــــــا الأنهار
مثلما تسري .. في حمى الأقدار
حولك الأزهار
ومنها أيضا "أمسية على النيل" التي قدم لها بأنها أغنية "تنشد على شاطئ النيل في الغروب":
يا حبيبي أنت ري ليس في الماء نظيره
يا حبيبي أنت ظل ليـس للروض عبيره
أنت عندي كل شيء كل ما شئت يكون
قل لهذا الليل يبقى ومع الليـــل السكون
ومنها "الزوجة المهجورة في يوم ميلادها" التي قدم لها بأنها أغنية "تنشدها الزوجة التي هجرها زوجها يوم ميلادها ولم يرض أن يلازمها في المنزل ليشاركها في الاحتفاء بهذا اليوم":
مولدي يوم شقائي بات في المهـد رجائي
ليس في قلبي عزاء أين في الدنيا عزائي
أحيب البدر ظلاما وهــو مصباح السماء
لاح في الأفق وحيـدا ومـن الوحدة دائي
ومنها "إغواء" التي قدم لها بأنها أغنية "تنشدها بطلة الرواية على مسمع من صاحبها لتوحي إليه أنه هو المقصود بحبها وغنائها وقد كان يجهل ذلك":
هل درى من أحبــه أن في الحـب مطمعي؟
هل معي الآن قلبـــه مثلما سمعــــــه معي؟
هل أراه بناظري أم أرى الطيـف بالرجاء؟
ربما بات زائري وهـو في البعـد كالسماء
ومنها "ساعة انتظار" وهي أغنية على لسان البطلة التي تنتظر أن تواتيها ساعة صفو مع الحبيب، وقد اكتفى العقاد في التقديم لها بالعنوان:
يا ساعة الصفو غبـت عني .. وحيـرت لــــوعـتي خطاك
تائهة أنـــــت في طريــــقي .. هداك نور الهــــوى هداك
أبطـأت يا ساعــــــة التمني .. وموعـــــــد الملتقى قريب
هل يبطئ البين لو سعى لي .. كمــا سعى مـوعـد الحبيب؟
ومما هو جدير بالذكر أن الأغنيات الخمس من تلحين الموسيقارين رياض السنباطي وفريد غصن(94) وبعضها يمكن تلمسه وسماعه على اليوتيوب وبعض مواقع الطرب كمنتدى سماعي على الشبكة العنكبوتية.
ومن شعر العقاد الذي لُحّن وغُنّي نص بعنوان "كأس على ذكرى"(95) ، لحنه الموسيقار السنباطي وغناه بصوته؛ وأذيعت الأغنية لأول مرة من الراديو المصري في 14 نوفمبر 1943، والنص عبارة عن أبيات مختارة من قصيدة تضمنها ديوانه الثاني "وهج الظهيرة" الذي صدر عام 1917، ومن النص نقرأ هذه الأبيات:
يا نديــــم الصبوات .. أقبـــــل الليـــــل فهات
خمــــــــــرة تمـــــلا قلبي بقديـــــم الذكريات
وشجى النغمــــــــــات وجــــــــــني الثمرات
هاتها واذكر حبيــــب النفس يا خيـــر الثقات
ودع التلميـــــح واجهــتتـر باسمــه دون تقاة
صفه لي صفه وما كــان بمجهـــول الصفات
غير أني أمتــــع السمــــــــــع بحـظ الحدقات
صفه في قلبي إن اسطعـــت وترجـم زفراتي
ذهبي الشعــر ساجي الطــرف حلـــو اللفتات
وقد اقتبس الشاعر علي محمود طه جملتين من نص العقاد السابق هما "ذهبي الشعر" و"حلو اللفتات" حين يقول في قصيدته "الجندول": "ذهبي الشعر شرقي السمات .. مرح الاعطاف حلو اللفتات"، ولكن للأمانة فإن علي محمد طه جعل الجملتين في سياق أسلوبي أسلس وأرق من سياق الأسلوب الذي وردتا فيه عند العقاد.
ومن شعر العقاد المُلحّن والمُغنّى أيضا نص بعنوان "فضض الماء يا قمر" وهو من تلحين الموسيقار فريد غصن وغناء المطربة نادرة أمين، والنص عبارة عن أبيات من قصيدة له بعنوان "ياقمر(96) " تضمنها ديوانه الأول "يقظة الصباح" 1916، ومن النص الأبيات الآتية:
فضّض الماء ياقمر .. وانقش النور في الحجر
وانظم الغصن بالندى والثم الـــزهر في الشجر
واجعل الكون ضاحكا .. عـن سماء من الغرر
واملك الليـــل مفردا .. ومع الشمـس في البكر
ومن آخر ما لُحّن وغُنّي للعقاد نص لحّنه الموسيقار السوداني عبد الكريم الكابلي (توفي في الثاني من ديسمبر الماضي) وغناه بعنوان "شذى زهر"، والنص هو مجموعة أبيات مختارة من قصيدة بعنوان "خذوا دنياكم"(97) منشورة بديوانه "أشباح الأصيل"، ومن النص الأبيات التالية:
شــذى زهـــــر ولا زهر .. فأيـــــن الظـــل والنهر؟
ربيــع ريــــــاضنــا ولّى .. أمـن أعطافـــــك النشر؟
وأنظـــــر لا أرى بـــدرا .. أأنت الليــــــــــلة البدر؟
وبي سكــــــــــر تملكني .. وأعجب كيف بي سكر؟
رددت الخمر عـن شفتي .. لعل جمـــــالك الخمر


***




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى