رسائل الكفران
(الجزء السابع والعشرون)
محمد بشكار
1
بينما ثلَّة تتحلَّق حول مائدة المقهى، تُناقش بصخبٍ الزِّيادة المُهْولة في أسْعار الغاز، انهمرتِ السَّماء دفعةً واحدة بسيل عارم من الأمطار، ولم أشْعر إلا ورجلٌ لا تخلو ملامحه من سيماء البلاهة، يميل إلى كتفي قريبا من أذني وهو يهمس مشيراً للمطر: هذا هو بترول البلاد!
2
المُبْدع الحقيقي هو الذي يسْتلفِتُ الانتباه لِما لا ينتبه إليه أحد !
3
ضجَّ رأسي هذه الأيام بالمُظاهرات، تفيض أفواجا بل تنفجر بطوفانها أمواجا من كل الحيطان، لم أعُد أعرف أيَّ مظاهرة أتبع متضامناً مع قضيتها، ماذا لو الْتحمت كل هذه المُظاهرات في قضية واحدة تفيد مستقبل البلاد، أمْ ثمة من ينهج بافْتعال مُشكل كل يوم، سياسة فرِّقْ تسُد، لِيُضلِّل الشعب عن ما هو أعظم وأجدر بالاحْتِشاد !
4
أُفضِّل أنْ أكون بِهدف على أنْ أكون هدفاً!
5
يقْبَع القلب في مسافة قريبة بِصدرنا، ولكن لا يستطيع الجميع الوصول إليه أو يمُد اليد لقطف الوردة، مثل هذه الخطوة الجريئة تحتاج لشاعر!
6
أُحبُّكِ أكثر بالليل، فلوْلا الحُلْكة ما بزغ القمر !
7
لا ينتهي أبداً جَشَع البلدان ذات الاقتصاديات القويَّة اليوم، وهو جشع تسْتمِدُّ جذوره الطفيلية من تاريخها الاستعماري المُخْزي بأفْظع الجرائم ضدَّ الإنسانية، وما زالت هذه البلدان التي نُسمِّيها عُظمى وديمقراطية، لا تجد حلولا لبعض أزماتها مهْما كانت هيِّنة، إلا بتصْديرها للبلدان الفقيرة التي لِغباء حكوماتها تحْسَب الأزمة مصلحة، هم فقط يتربَّصون على أمل أن تصِل شرارة للفتيل.. تلك الشرارة القمينة بانْدِلاع الحروب بين البلدان المستضعفة لترويج الأسلحة !
8
نعيشُ بوجه يُظْهر ما لا نُبْطن، ونخرجُ من الحياة كما لوْ قضيْنا عُمرنا في حفلة تنكُّرية !
9
هرْولَ الطالب فرحاً ليُخبر صديقه المُمْتعِض دائما أنَّه حظي بالأستاذ الذي يتناغم مع مِزاجه المُتراخي، قال إنَّه الأستاذ المُناسب للإشراف على أطروحة الدكتوراه، فسأله المُمْتعِض دائما، ولِمَ اخترتَ هذا الأستاذ بالضَّبط، فأسرع الطالب بالقول وهو لا يكاد يسْتجمع لُعابَه من شدَّة اللُّهاث، لقد اخترتُهُ لطيبوبته، فما كان من المُمتعِض إلا أنْ قام مُنْصرفاً عنه وهو يقول: الطيِّبون للطيِّبات!
10
أحبُّ الأطفال، ولكنَّني أفضِّل أن أقْتدي بالكَنْغر الذي يُنجِب بالقَدْر الذي يَسع كِيسه !
11
حين تقْتسم لجنة التحكيم جائزة بين فائزين، يذهب تفكير الجميع مُباشرة إلى قيمتها المالية، لا لشيء إلا لأنَّ منطق المُناصفة سيجعلها تنْقسِم هزيلة كالخُبْزة!
12
البعْضُ يدَّعون الحِكْمة وهُم في التَّسَلُّطِ حكومة !
13
في كلِّ مرَّة تُجْبرني الظُّروف على الذهاب مع جنازة لِمسْكنها الأخير، أجدني واقفاً كما في البرزخ على حافَّة حُفرة أعيش كل طقوس الدفن، وما إنْ أقفل راجعاً مع المُشيِّعين، حتى يستيقظ الميِّتُ في ذهني ليُرافقني في الحلم واليقظة، لكأنَّه يسْتعيد ماضيه وحاضره في شعوري ولاشعوري، فلا أمْلكُ إلا أن أهنِّئه بعد أن سرق حياتي وجعلني مكانه في الحفرة أنا الدفين!
14
رُبَّما كان الرصاص بخساً بالمقارنة مع بعْض المعادن، ولكن السنوات التي حملتِ اسمه في بلدنا بِيعتْ بالذهب!
15
يُصادِف أن ألْتقي العجوز على نفس الطريق، ونحنُ على متن دراجتينا المُهترِءتين، ونظرا لسنه المتقدمة، لا أعرف هل هو مَنْ يَسُوقها بصُعوبة أمْ هي التي تسوقه أمِ الريحُ تسوقهما معا، فأُمازِحه دونَ سابق معرفةٍ بالقوْل وأنا أوعِز للعجلة كما لو أنبِّهه لِعَطلٍ: إنَّ عجلتك تدور، فينْفجِر ضاحكاً وهو يُجيبني بما قاله غاليلي للكهنة عنِ الأرض: إنها تدور..!
16
ليس الشجاعة أن ترْفعَ شارات النَّصْر وأنت متوارٍ عنِ العالم خلف شاشة الفيسبوك، إنَّما الشَّجاعة كما جسَّدها الثوريون الأوائل، أنْ تنزِل للشَّارع وأنتَ تحْمِل تابوتكَ على الظَّهْر !
17
وما زلتُ مُمْعناً في تِيهي بشوارع القاهرة، كأنِّي أنْتضي عِوض الحِذاء الرياحَ الأربع لأنفاسي، فالوقتُ ضيِّقٌ وأريد أن أكتشف كل شيء في جولةٍ واحدة، ولم أشْعُر إلا ومساء القاهرة يُلَمْلمني في أحْشائه بينما ما زلتُ في حاجة لأكثر من ولادة، أيّ كأسٍ أختار الآن، هل تلكَ التي تُطيل الليل أو تُقصِّره، شعرتُ بإغراء عجيب تُجاه مائدةٍ نحاسية بمقهى الفيشاوي العريقة في منطقة الأزهر، كانت تلْتمع تحت الضوء كمنْ تُرسل غمزاتها للعابرين، فلبَّيتُ نداءها ولبَّتْ ندائي بقهوة (زيادة) أطيل بسهرتها دخان سجائري، ربما أقعد الآن حيث كان يجلس باسماً الروائي الكبير نجيب محفوظ، ثم ما بَلاغة كل هذه المرايا المحيطة بي من كلِّ جانب، لقد أوْهَمَتْني أنِّي أدخلُ متاهةً في أعماق الجُدْران، ما أشْبَهها بالحِليِّ التي تَجلُبُ امرأةٌ فرعونية ببريقها الأنْظار، وما أشْبه النقوش الخشبية بأوْشام تتوزَّع في مناطق الجسد، تُرى هل ما زال المَكانُ كما تَرَكْتُه منذ آخر زيارة للقاهرة سنة 2009، أمْ أنَّ "أمل دنقل" عاد ليغْمُرها بطوفان قصيدته وهو يقول: المدينة تغرق شيئا..فشيئا، تفِرُّ العصافير، والماء يعْلو على درجاتِ البيوت!
................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 30 دجنبر 2021
(الجزء السابع والعشرون)
محمد بشكار
1
بينما ثلَّة تتحلَّق حول مائدة المقهى، تُناقش بصخبٍ الزِّيادة المُهْولة في أسْعار الغاز، انهمرتِ السَّماء دفعةً واحدة بسيل عارم من الأمطار، ولم أشْعر إلا ورجلٌ لا تخلو ملامحه من سيماء البلاهة، يميل إلى كتفي قريبا من أذني وهو يهمس مشيراً للمطر: هذا هو بترول البلاد!
2
المُبْدع الحقيقي هو الذي يسْتلفِتُ الانتباه لِما لا ينتبه إليه أحد !
3
ضجَّ رأسي هذه الأيام بالمُظاهرات، تفيض أفواجا بل تنفجر بطوفانها أمواجا من كل الحيطان، لم أعُد أعرف أيَّ مظاهرة أتبع متضامناً مع قضيتها، ماذا لو الْتحمت كل هذه المُظاهرات في قضية واحدة تفيد مستقبل البلاد، أمْ ثمة من ينهج بافْتعال مُشكل كل يوم، سياسة فرِّقْ تسُد، لِيُضلِّل الشعب عن ما هو أعظم وأجدر بالاحْتِشاد !
4
أُفضِّل أنْ أكون بِهدف على أنْ أكون هدفاً!
5
يقْبَع القلب في مسافة قريبة بِصدرنا، ولكن لا يستطيع الجميع الوصول إليه أو يمُد اليد لقطف الوردة، مثل هذه الخطوة الجريئة تحتاج لشاعر!
6
أُحبُّكِ أكثر بالليل، فلوْلا الحُلْكة ما بزغ القمر !
7
لا ينتهي أبداً جَشَع البلدان ذات الاقتصاديات القويَّة اليوم، وهو جشع تسْتمِدُّ جذوره الطفيلية من تاريخها الاستعماري المُخْزي بأفْظع الجرائم ضدَّ الإنسانية، وما زالت هذه البلدان التي نُسمِّيها عُظمى وديمقراطية، لا تجد حلولا لبعض أزماتها مهْما كانت هيِّنة، إلا بتصْديرها للبلدان الفقيرة التي لِغباء حكوماتها تحْسَب الأزمة مصلحة، هم فقط يتربَّصون على أمل أن تصِل شرارة للفتيل.. تلك الشرارة القمينة بانْدِلاع الحروب بين البلدان المستضعفة لترويج الأسلحة !
8
نعيشُ بوجه يُظْهر ما لا نُبْطن، ونخرجُ من الحياة كما لوْ قضيْنا عُمرنا في حفلة تنكُّرية !
9
هرْولَ الطالب فرحاً ليُخبر صديقه المُمْتعِض دائما أنَّه حظي بالأستاذ الذي يتناغم مع مِزاجه المُتراخي، قال إنَّه الأستاذ المُناسب للإشراف على أطروحة الدكتوراه، فسأله المُمْتعِض دائما، ولِمَ اخترتَ هذا الأستاذ بالضَّبط، فأسرع الطالب بالقول وهو لا يكاد يسْتجمع لُعابَه من شدَّة اللُّهاث، لقد اخترتُهُ لطيبوبته، فما كان من المُمتعِض إلا أنْ قام مُنْصرفاً عنه وهو يقول: الطيِّبون للطيِّبات!
10
أحبُّ الأطفال، ولكنَّني أفضِّل أن أقْتدي بالكَنْغر الذي يُنجِب بالقَدْر الذي يَسع كِيسه !
11
حين تقْتسم لجنة التحكيم جائزة بين فائزين، يذهب تفكير الجميع مُباشرة إلى قيمتها المالية، لا لشيء إلا لأنَّ منطق المُناصفة سيجعلها تنْقسِم هزيلة كالخُبْزة!
12
البعْضُ يدَّعون الحِكْمة وهُم في التَّسَلُّطِ حكومة !
13
في كلِّ مرَّة تُجْبرني الظُّروف على الذهاب مع جنازة لِمسْكنها الأخير، أجدني واقفاً كما في البرزخ على حافَّة حُفرة أعيش كل طقوس الدفن، وما إنْ أقفل راجعاً مع المُشيِّعين، حتى يستيقظ الميِّتُ في ذهني ليُرافقني في الحلم واليقظة، لكأنَّه يسْتعيد ماضيه وحاضره في شعوري ولاشعوري، فلا أمْلكُ إلا أن أهنِّئه بعد أن سرق حياتي وجعلني مكانه في الحفرة أنا الدفين!
14
رُبَّما كان الرصاص بخساً بالمقارنة مع بعْض المعادن، ولكن السنوات التي حملتِ اسمه في بلدنا بِيعتْ بالذهب!
15
يُصادِف أن ألْتقي العجوز على نفس الطريق، ونحنُ على متن دراجتينا المُهترِءتين، ونظرا لسنه المتقدمة، لا أعرف هل هو مَنْ يَسُوقها بصُعوبة أمْ هي التي تسوقه أمِ الريحُ تسوقهما معا، فأُمازِحه دونَ سابق معرفةٍ بالقوْل وأنا أوعِز للعجلة كما لو أنبِّهه لِعَطلٍ: إنَّ عجلتك تدور، فينْفجِر ضاحكاً وهو يُجيبني بما قاله غاليلي للكهنة عنِ الأرض: إنها تدور..!
16
ليس الشجاعة أن ترْفعَ شارات النَّصْر وأنت متوارٍ عنِ العالم خلف شاشة الفيسبوك، إنَّما الشَّجاعة كما جسَّدها الثوريون الأوائل، أنْ تنزِل للشَّارع وأنتَ تحْمِل تابوتكَ على الظَّهْر !
17
وما زلتُ مُمْعناً في تِيهي بشوارع القاهرة، كأنِّي أنْتضي عِوض الحِذاء الرياحَ الأربع لأنفاسي، فالوقتُ ضيِّقٌ وأريد أن أكتشف كل شيء في جولةٍ واحدة، ولم أشْعُر إلا ومساء القاهرة يُلَمْلمني في أحْشائه بينما ما زلتُ في حاجة لأكثر من ولادة، أيّ كأسٍ أختار الآن، هل تلكَ التي تُطيل الليل أو تُقصِّره، شعرتُ بإغراء عجيب تُجاه مائدةٍ نحاسية بمقهى الفيشاوي العريقة في منطقة الأزهر، كانت تلْتمع تحت الضوء كمنْ تُرسل غمزاتها للعابرين، فلبَّيتُ نداءها ولبَّتْ ندائي بقهوة (زيادة) أطيل بسهرتها دخان سجائري، ربما أقعد الآن حيث كان يجلس باسماً الروائي الكبير نجيب محفوظ، ثم ما بَلاغة كل هذه المرايا المحيطة بي من كلِّ جانب، لقد أوْهَمَتْني أنِّي أدخلُ متاهةً في أعماق الجُدْران، ما أشْبَهها بالحِليِّ التي تَجلُبُ امرأةٌ فرعونية ببريقها الأنْظار، وما أشْبه النقوش الخشبية بأوْشام تتوزَّع في مناطق الجسد، تُرى هل ما زال المَكانُ كما تَرَكْتُه منذ آخر زيارة للقاهرة سنة 2009، أمْ أنَّ "أمل دنقل" عاد ليغْمُرها بطوفان قصيدته وهو يقول: المدينة تغرق شيئا..فشيئا، تفِرُّ العصافير، والماء يعْلو على درجاتِ البيوت!
................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 30 دجنبر 2021