قصة ايروتيكة بول أوستر- صانست بارك - فصل من رواية - ت: سامر أبو هوّاش

دأب، منذ زهاء عام، على التقاط الصور الفوتوغرافية للأشياء المهملة. يتولى يومياً مهمتين على الأقلّ، وأحياناً يصل العدد إلى ست أو سبع مهمات، وفي كل مرة يدخل فيها وزمرته منزلاً جديداً، يجدون أنفسهم في مواجهة ما لا يحصى عدده من الأشياء المنبوذة التي خلّفتها وراءها الأسر الراحلة. أولئك الغائبون يغادرون جميعاً على عجالة من أمرهم، في حال من الخزي والارتباك، ومن المؤكد أنهم، أينما انتهى بهم المطاف الآن (إذا كانوا قد وجدوا مكاناً يعيشون فيه، وليسوا يستظلون خيمة ما في الشوارع)، فإن مساكنهم الجديدة أضيق مساحة من تلك التي فقدوها. كلّ منزل هو كناية عن قصة فشل عنوانها الإفلاس والتخلّف عن السداد، الدين وحبس الرهن - وقد أخذ على عاتقه أن يوثّق الآثار الأخيرة المتبقية من تلك الحيوات المتلاشية، لكي يثبت أن تلك العائلات المختفية عاشت هنا ذات يوم، وأن أطياف أولئك الذين لن يراهم أو يعرفهم يوماً، ما زالت تلبث في الأغراض المهجورة المتناثرة في تلك المنازل الشاغرة.

يُسمّى هذا العمل "الترتيب"، وهو واحد من أربعة في هذه المجموعة يعملون لدى شركة "دانبار ريالتي كوربوريشن" التي تقدّم خدمات "صيانة المنازل" للمصارف المحلية التي آلت ملكية هذه المنازل إليها. تمتلئ أرض جنوب فلوريدا المنبسطة الممتدة، بمثل هذه المنازل الميتّمة، ولأنه من مصلحة المصارف أن تعاود بيعها في أسرع وقت ممكن، فمن الضروري "ترتيب" المنازل التي أخليت، وصيانتها وتجهيزها بغية عرضها على الشراة المحتملين. ففي عالمٍ متداعٍ من الخراب الاقتصادي وضنك العيش القاسي، يُعدّ "الترتيب" من الأعمال القليلة المزدهرة في المنطقة. ولا ريب في أنه محظوظ لإيجاده هذه الوظيفة، وإن لم يكن يعرف حتّام سيظلّ في وسعه احتمالها، لكنّ الراتب جيد، وفي بلاد تشحّ فيها الوظائف يوماً بعد يوم، لا ريب في أنها وظيفة مقبولة.
في البداية صُدم أمام مشهد الفوضى والقذارة والهجران، إذ تندر المنازل التي بقيت، بعد هجر مالكيها السابقين لها، على حالها الأولى، فغالباً ما يجد في تلك المنازل المهجورة آثار نوبات العنف والغضب، مصحوبة بالتخريب المتعمّد، من المياه التي تفيض في المغاسل وأحواض الاستحمام بسبب ترك الصنابير مفتوحة، إلى الجدران المهشّمة بالمطارق أو تلك التي تغطّيها الكتابات الفاحشة، أو تلك المثقّبة بالأعيرة النارية، ناهيك بالأنابيب النحاسية المخلوعة، والسجاجيد الملطخة بالمبيضات، والبراز الذي يملأ أرض غرف المعيشة. وقد يصادف المرء نماذج متطرفة؛ أفعال متهوّرة نابعة من غضب أولئك الذين جرّدوا من ملكياتهم، تعبيرات مثيرة للاشمئزاز، إنما مفهومة، عن اليأس. ولكنْ، حتى لو لم يملأه الشعور بالاشمئزاز حينما يدخل منزلاً ما، فإنه لا يفتح باباً البتة من دون أن تعتريه مشاعر الرهبة. من المحتّم أن تكون الرائحة أول ما يستقبله حال دخوله، فتنقضّ العفونة انقضاضاً على منخريه، وتلك الروائح الطاغية المتمازجة التي تختلط فيها العفونة بالحليب الفاسد وبراز القطط، والمراحيض التي تراكمت فيها القذارات، والطعام الذي تُرك ليتعفن في المطابخ. لا الهواء المنعش المتدفق من النوافذ المفتوحة يمكنه إزالة هذه الروائح، ولا حتى عملية الاخلاء الأكثر نظافة وحرصاً، يمكنها محو عطن الهزيمة.
ثمّ، على الدوام، ثمة الأشياء؛ تلك الممتلكات المنسيّة، الأشياء المهجورة. وقد وصل عدد الصور في أرشيفه المتنامي هذا إلى الآلاف: صور كتب وأحذية ولوحات زيتية وآلات بيانو ومحمّصات خبز كهربائية، ودمى وأطقم شاي وجوارب متسخة وأجهزة تلفاز وألعاب لوحيّة وأثواب حفلات ومضارب تنس وكنبات وملابس داخلية حريرية وبنادق لحشو السيليكون ومسامير إبهامية وشخصيات بلاستيكية وأنابيب أحمر الشفاه والبنادق والمراتب الباهتة والسكاكين والشوك وأموال البوكر البلاستيكية ومجموعات الطوابع، وعصفور كناريّ ميت في القفص. لا يجد تفسيراً لسرّ اندفاعه لالتقاط هذه الصور. يدرك أنه لا طائل من مسعاه هذا، وأنه لن يعود بفائدة تذكر على أحد، ومع ذلك فكلّ مرة يدخل فيها أحد تلك المنازل، يشعر بأن الأشياء تناديه وتخاطبه بأصوات البشر الذين ما عادوا هناك، مناشدةً إياه إلقاء نظرة أخيرة عليها قبل أن يطويها النسيان. بقية "المدبّرين" يسخرون منه بسبب هوسه هذا، لكنه لا يكترث بأمرهم. فهو يعتبرهم تُفّهاً، ويحتقرهم جميعاً؛ فيكتور فارغ الرأس، رئيس الفريق؛ باكو المهذار التأتاء؛ وفريدي السمين اللاهث، أولئك هم فرسان الخراب الثلاثة. وبحسب القانون، فإن جميع الممتلكات المعثور عليها التي تفوق قيمتها حدّاً معيناً يجب تسليمها إلى المصرف الملزم إعادتها إلى مالكيها، لكنّ زملاءه يأخذون ما يريدون من دون أن يرفّ لهم جفن، ويعتبرونه مغفلاً لإدارته ظهره على هذه المغانم – قناني الويسكي، أجهزة المذياع، مشغلات الأسطوانات المدمجة، أطقم الرماية، المجلات الجنسية – لكنه لا يبتغي شيئاً سوى التقاط الصور الفوتوغرافية – لا الأشياء، بل صور الأشياء. منذ بعض الوقت صار دأبه أن يكون مقلّاً جداً في الكلام أثناء العمل، حتى صار باكو وفريدي يناديانه "إل مودو" (المزاجي).
إنه في الثامنة والعشرين من عمره، وعلى حدّ علمه ليس لديه أيّ طموحات. ليس هناك ما يتوق له في المستقبل على كل حال، ولا فكرة واضحة عما قد يستتبعه بناء مستقبل مُرضٍ لنفسه. يعرف أنه لن يطيل البقاء في فلوريدا، وأنها ستحين اللحظة التي سيشعر فيها بالحاجة إلى المضي قدماً في طريقه، ولكن حتى تتحول هذه الحاجة إلى دافع للتحرك، فإنه راضٍ بعيش اللحظة وعدم الاكتراث بالمستقبل. وإذا كان قد أنجز شيئاً خلال السنوات السبع ونصف السنة منذ تركه الجامعة ومضيّه في طريقه، فإنها هذه المقدرة على العيش في الراهن، على الاكتفاء بالآن وهنا، وربما لا يكون هذا من أعظم إنجازاته، إذ تطلبه الأمر قدراً كبيراً من الانضباط والسيطرة على النفس، لكي يحقّق ذلك؛ ألاّ تكون لديه خطط، أي ألاّ تكون لديه أشواق أو آمال، أن يرضى بما قُسم له، أن يقبل بما يجود به العالم عليه من غروب يوم إلى يوم آخر – لكي تعيش على هذا النحو عليك أن تطلب الأقلّ، أقلّ ما تحتاج إليه كبشريّ.
شيئاً فشيئاً، قلّص رغباته لما كاد يبلغ الآن الحدّ الأدنى. فأقلع عن التدخين والشراب، وما عاد يقصد المطاعم، ولا يمتلك تلفازاً ولا مذياعاً ولا حاسوباً، وتحدوه الرغبة في أن يقايض سيارته بدراجة هوائية، لكنه لا يستطيع التخلص من السيارة بسبب المسافات الكبيرة التي يضطر إلى قطعها للوصول إلى عمله. الأمر ذاته ينطبق على الهاتف المحمول الذي يضعه في جيبه، مقاوماً توقه الداخليّ لكي يلقي به في القمامة، لكنه من ضرورات العمل أيضاً. أما الكاميرا الرقمية التي يحملها معه، فربما شكّلت شذوذاً عن القاعدة، ولكن أخذاً في الحسبان حجم العناء والكآبة في عمله، يشعر أن هذه الكاميرا تنقذ حياته. إيجار شقّته منخفض بما أنها شقة صغيرة في حيّ رثّ، وعدا إنفاق المال على الاحتياجات الأساسية فإن الترف الوحيد الذي يسمح لنفسه به هو شراء الكتب، ولا سيما الروايات، تلك الأميركية والبريطانية والأجنبية المترجمة، غير أن الكتب، في نهاية المطاف، لا تعدّ ترفاً بقدر ما هي ضرورة، والقراءة إدمان لا يرغب في الشفاء منه.
لولا الفتاة لكان على الأرجح بادر إلى الرحيل قبل انتهاء الشهر. فقد وفّر من المال ما يسمح له بالذهاب إلى أيّ وجهة يختارها، ولا ريب في أنه سئم شمس فلوريدا، التي بعد الكثير من التمحيص في أمرها، بات يظنّ جازماً أنها تلحق الضرر بالروح، أكثر مما تفيد. فهي بحسبه شمس ماكيافيلية، منافقة، والضوء الذي تبثّه لا يضيء الأشياء بل يحيطها بغلالة من الضباب – وهي تعمي المرء بسطوعها الدائم المبالغ فيه، ولا تني تضرب رأسك بعصفات الرطوبة البخاريّة، مزعزِعةً كيانكَ بانعكاساتها الشبيهة بالسراب وأمواجها العدمية المتلألئة. ومع أنها مفعمة بالتألق والسنا، لكنها لا توفّر أيّ قيمة، أيّ رقة، ولا شيء من الانتعاش. مع ذلك، فتحت هذه الشمس رأى فتاته للمرة الأولى، ولأنه لا يستطيع حمل نفسه على هجرها، يواصل التعايش مع هذه الشمس ويحاول التصالح معها.
اسمها بيلار سانشير وقد التقاها قبل ستة أشهر في حديقة عامة؛ لقاء بمحض المصادفة ذات أصيل يوم سبت في منتصف أيار؛ أكثر اللقاءات غير المحتملة بين اللقاءات البعيدة عن الاحتمال. كانت جالسة على العشب تقرأ كتاباً وصدف أنه الكتاب نفسه الذي كان يقرأه، وله الغلاف نفسه، رواية "غاتسبي العظيم"، التي كان يقرأها للمرة الثالثة منذ أهدها إليه والده في عيد ميلاده السادس عشر. كان هناك منذ عشرين أو ثلاثين دقيقة، منغمساً كلياً في الكتاب الذي شكّل نوعاً من السور حوله، حائلاً بينه وبين ما يحيط به، حينما سمع رنين ضحكة. التفت، وفي تلك اللمحة الأولى القاتلة، بينما جلست هناك مبتسمةً له مشيرة إلى عنوان كتابها، خمّن أنها أصغر من السادسة عشرة، مجرد بنت، بل طفلة في واقع الأمر، مراهقة يافعة ترتدي سروالاً قصيراً ضيقاً، وصندلاً وصدرية رفيعة ضيقة، وهي الملابس عينها التي ترتديها كل فتاة نصف جذّابة في أرجاء المناطق الخفيضة المغمورة بشمس فلوريدا. ليست أكثر من طفلة، حدّث نفسه، ومع ذلك فها هي أمامه بذراعيها وساقيها الناعمة العارية ووجهها المتيقظ الباسم، وهو الذي نادراً ما يبتسم لأحد أو لشيء، نظر إلى عينيها الداكنتين المتوثبتين، وابتسم لها في المقابل.
بعد ستة أشهر، ما زالت تحت السن القانونية. رخصة القيادة التي تحملها تفيد بأنها في السابعة عشرة، وبأنها لن تبلغ الثامنة عشرة قبل أيار، تالياً عليه التصرف بحذر معها في العموم، متجنباً بأيّ ثمن كل ما من شأنه أن يثير شكوك المهووسين بالجنس، ذلك أن مكالمة هاتفية واحدة إلى الشرطة من أحد المتطفلين المستائين يمكن أن تودي به بسهولة في غياهب السجن. كل صباح، ما عدا في عطلة الأسبوع أو العطل الرسمية، يوصلها بسيارتها إلى ثانوية جون أف كينيدي، حيث تدرس عامها الأخير وتبلي حسناً في دراستها تلك، متطلعة ًإلى الجامعة، وإلى مستقبل مهني كممرضة مرخّص لها، لكنه لا يُنزلها أمام المبنى، فتلك مخاطرة أكثر من اللازم، إذ قد يلمحهما أحد المعلّمين أو الإداريين في المدرسة في السيارة معاً ويطلق الإنذار، تالياً يوقف السيارة قبل ثلاثة أو أربعة أبنية ويُنزلها هناك. لا يقبّلها مودّعاً ولا يلمسها. هذا الأمر يحزنها، بما أنها تعتبر نفسها امرأة بالغة، لكنها تتقبّل هذه اللامبالاة المتكلّفة منه، لأنه قال لها إنه يجدر بها ذلك.
والدا بيلار قتلا في حادث سيارة قبل عامين، وحتى انتقالها إلى شقته بعد انتهاء العام الدراسي في حزيران الماضي، كانت تعيش مع شقيقاتها الثلاث الأكبر منها في منزل العائلة، وهن ماريا (22 عاماً) وتريزا (23 عاماً) وأنجيلا (25 عاماً). ماريا تدرس التجميل في معهد محلي. أما تريزا فهي عاملة صندوق في مصرف، أما أنجيلا وهي الأجمل بينهن فتعمل ساقية في حانة. بحسب بيلار فإنها تضاجع الزبائن بين وقت وآخر لقاء المال، وتتردد قبل أن تضيف أنها تحب أنجيلا، بل تحب جميع شقيقاتها، لكنها سعيدة بمغادرتها البيت الآن، فهو مليء بذكريات أمّها وأبيها، إضافة إلى أنها لا تستطيع منع نفسها من النقمة على أنجيلا لفعلها ما تفعله، فهي تعتبر أن من الخطيئة أن تقوم امرأة ببيع جسدها، وتشعر بالراحة لأنها ما عادت تتجادل معها. أجل، تقول له، شقته لا تشبه الشقة في شيء، ومنزل أهلها أوسع بكثير وأكثر راحة، لكنّ الشقة ليس فيها كارلوس جونيور البالغ من العمر ثمانية عشر شهراً، وهذا أيضاً مصدر راحة هائل. فابن تريزا ليس بالطفل السيئ أو المختلف عن بقية الأطفال، لكن ماذا في وسع تريزا أن تفعل بوجود زوجها في العراق واضطرارها للعمل ساعات طويلة في المصرف، لكنّ هذا لا يمنحها الحقّ في أن تلقي أعباء رعاية الطفل على أختها الصغرى بين يوم وآخر في الأسبوع، ومع أنها حاولت التحلّي بروح رياضية في هذا الشأن لكنها لم تستطع منع نفسها من الشعور بالازدراء لهذه المهمات. فهي تحتاج إلى وقت تكون فيه وحدها وتدرس، لأنها تريد أن تصنع مستقبلاً لنفسها، وكيف يمكنها فعل ذلك إذا كانت مشغولة بتغيير الحفاضات؟ لا بأس بالأطفال بالنسبة إلى الآخرين، لكنها لا تريد أن تربطها أيّ صلة بهم. شكراً، تقول، لا شكراً.
يعجب بروحها وذكائها. حتى في اليوم الأول حين جلست في الحديقة تتحدث عن "غاتسبي العظيم" أثارت إعجابه بأنها تقرأ هذا الكتاب من تلقاء نفسها، لا لأن معلّماً ما كلفها ذلك، ثم، مع تواصل الحديث بينهما، تضاعف إعجابه بها حين جادلته بأن أهمّ شخصية في الكتاب ليست شخصية دايزي أو توم أو حتى غاتسبي نفسه، بل نيك غاراواي. طلب منها أن تفنّد ذلك. فأجابت: لأنه الراوية. إنه الشخصية الوحيدة التي تضع قدميها على أرض الواقع، الوحيدة القادرة على أن ترى الأمور من خارج ذاتها. أما بقية الشخصيات فكلها ضائعة وسطحية، ولولا عطف نيك وتفهمه، لما تعاطفنا البتة مع أيٍّ منها. الكتاب برمته يقوم على نيك. ولو كانت شخصية الراوي مجهولة، لما كانت الرواية بنصف هذه المتانة. راوٍ مجهول. إنها تعرف معنى هذا التعبير، تماماً كما تفهم معنى تعليق اللا تصديق، والنشوء الأحيائي والمتواليات اللوغارثمية ومجلس براون في التعليمي. كيف يعقل، يتساءل، لفتاة يافعة كبيلار سانشيز، التي عمل والدها الكوبي الأصل ساعيَ بريد طوال حياته، والتي تغرق شقيقاتها الثلاث الكبيرات في بركة أشغالهن اليومية الرتيبة، أن تكون مختلفة إلى هذا الحدّ عنهن؟ فبيلار تحدوها رغبة في المعرفة، ولديها خطط، وتعمل بجدّ، وهو أكثر من سعيد بتشجيعها، ويفعل كل ما يلزم لمساعدتها لكي تتقدّم في تعليمها. منذ اليوم الذي تركت فيه منزل أسرتها وانتقلت إلى العيش معه، كان يعلّمها كيفية تسجيل النقاط في اختبار سات، مدقّقاً في جميع واجباتها المدرسية، وقد علّمها المبادئ الأولية لحساب التفاضل (الذي لا توفره لها مدرستها)، وقرأ لها عشرات الروايات والقصص القصيرة والقصائد. هو الشاب الخالي من الطموح، المتسرب من الجامعة الذي خرج من بهرجة حياته السابقة الموسرة، أخذ على عاتقه أن يركّز طموحه عليها، أن يدفعها قدر ما تريد الذهاب قدماً. الأولوية هي الجامعة، جامعة جيدة بمنحة كاملة، وحين تصل إلى هذه المرحلة، فإنه مقتنع بأن بقية الأمور ستمضي على ما يرام. في الوقت الراهن هي تحلم بأن تغدو ممرضة مرخّصاً لها، لكنّه واثق من أن الأمور ستتغير تدريجاً، بل هو متيقّن من أنها تملك الرغبة الداخلية للالتحاق يوماً بكلية الطب لكي تغدو طبيبة.
كانت هي من اقترحت عليه أن تنتقل إلى العيش معه. ما كان ليخطر في باله أن يقترح عليها مثل هذه الخطة الجسورة، لكنّ بيلار كانت مصمّمة على ذلك، يحدوها في آن واحد الرغبة في الفرار وأفق أن تنام معه كل ليلة، وبعدما رجته بالذهاب إلى أنجيلا، المعيلة الأساسية للزمرة، تالياً صاحبة الكلمة الفصل في جميع القرارات العائلية، التقى الشقيقة الكبرى وتمكن من إقناعها بالأمر. كانت مترددة في البداية مدّعيةً أن بيلار صغيرة جداً وتفتقر إلى التجربة لكي تفكر في هذه الخطوة الحاسمة. أجل، هي تعرف أن شقيقتها واقعة في غرامه، لكنها لا توافق على هذا الحبّ بسبب فارق العمر بينهما، مما يعني أنه آجلاً أم عاجلاً سوف يضجر من ألعوبته المراهقة هذه ويهجرها فاطراً قلبها. أجابها بأن الأمر قد ينتهي بالعكس تماماً، وبأنه هو من قد يُهجَر ويُترَك مع قلب مفطور. ثم واضعاً جانباً، كل هذا الكلام على الحب والأحاسيس، دافع عن وجهة نظره بمعايير محض عملية. بيلار لا تملك عملاً، قال لأنجيلا، وهي تشكل عبئاً اقتصادياً على العائلة، وهو في وضع يمكّنه من إعالتها ويرفع ذلك العبء عن كاهل شقيقاتها. لن يكون الأمر كأنه يخطفها إلى الصين في نهاية المطاف، فمنزلهن لا يبعد أكثر من خمس عشرة دقيقة سيراً على الأقدام من شقته، ويمكنهن رؤيتها قدر ما يشأن. ولكي يُحكم الصفقة قدّم لهن الهدايا، العديد من الأشياء التي كنّ يتقن للحصول عليها، لكنهن ما كنّ قادرات على شرائها. ووسط صدمة المهرجين الثلاثة معه في العمل، وتهكمهم، بدّل موقتاً موقفه مما يجب فعله وما يجب عدم فعله في أصول سقط المتاع، وخلال الأسبوع التالي اختلس حصرياً تلفازاً جديداً ذا شاشة مسطحة، وصانعة قهوة كهربائية من أفضل طرز، ودراجة ثلاثية العجلات حمراء اللون، وستة وثلاثين فيلماً (بما فيها مجموعة "العرّاب")، مرآة تجميل احترافية، ومجموعة من كؤوس النبيذ الكريستال، التي قدّمها جميعاً إلى أنجيلا وشقيقاتها كتعبير عن امتنانه. بكلمات أخرى، بيلار تعيش معه الآن لأنه رشا العائلة. لقد اشتراها منهن.
أجل، هي مغرمة به، وأجل، على الرغم من تبكيت الضمير والتردد الداخلي، يبادلها هذا الحبّ، مهما بدا هذا الاحتمال بعيداً بالنسبة إليه. ويجدر القول هنا إنه ليس بالشخص المولع على نحو خاص بالصغيرات. فحتى الآن، كل النسوة في حياته كنّ إلى هذا الحدّ أو ذاك بمثل عمره. تالياً، لا تمثّل بيلار تجسيداً لنمط أنثوي مثالي، فهي ليست إلا نفسها، قطعة صغيرة تعثر بها ذات أصيل في حديقة عامة، استثناء لكل قاعدة. ولا يمكنه أن يفسّر لنفسه سبب انجذابه إليها. بلى يحبّ ذكاءها، لكنّ هذا في النهاية قليل الشأن، بما أنه أعجب بذكاء نسوة أخريات من قبل، من دون أن يشعر بالحدّ الأدنى من الانجذاب إليهن. وهو يجدها جميلة، إنما ليست فائقة الجمال، ولا تحسب حسناء بأيّ مقاييس موضوعية (على الرغم من أنه يمكن القول إن كل فتاة في السابعة عشرة هي حسناء، للسبب البسيط بأن كل الشباب رائع). لكن لا يهمّ، لم يغرم بها بسبب جسدها ولا بسبب عقلها. ما السبب إذاً؟ ما الذي يبقيه معها في الوقت الذي ينبئه كلّ شيء بأن عليه تركها؟ بسبب الطريقة التي تنظر فيها إليه، ربما، قوة نظراتها، الكثافة الشديدة في عينيها حين تصغي إليه وهو يتكلم، إحساس بأنها حاضرة كلياً حين يكونان معاً، أنه الشخص الوحيد في الوجود بالنسبة إليها.
أحياناً، حين يخرج كاميرته ويريها صوره عن الأشياء المهملة، تمتلئ عيناها بالدموع. ثمة جانب عاطفي رقيق فيها يكاد يكون كوميدياً، يشعر، ومع ذلك يتأثر بهذه الرقة، ذلك الإحساس بأوجاع الآخرين، وأيضاً لأنها تستطيع أن تكون قوية، وكثيرة الكلام ومليئة بالضحك، فإنه لا يستطيع التنبؤ أيّ جزء منها سوف يظهر في هذه اللحظة أو تلك. قد يكون هذا متعباً على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل يشعر أن هذا كله للأفضل. هو الذي حرم نفسه كثيراً على مرّ سنين طوال، الذي كان متبلّد الحسّ إلى هذا الحدّ في تنسّكه، الذي علّم نفسه لجم أعصابه والسير في العالم ببرود عنيد، عاد إلى الحياة في وجه فيضها العاطفي، قابليتها للاشتعال، غزارة دموعها حين تواجه صورة دبّ دمية مهجور، أو دراجة هوائية محطّمة، أو إناء زهور ذابلة.
المرة الأولى التي ناما فيها معاً، أكدت له أنها لم تعد عذراء. وقد صدّق ذلك، ولكن حين جاءت اللحظة التي سيلجها فيها، دفعته عنها وقالت له إنه لا يجدر به فعل ذلك. فما سمّته "المامي هول" خطّاً أحمر، محظور تماماً على الأعضاء الذكور. استعمال اللسان والأصابع مقبول، ولكن لا أعضاء في أيّ حال من الأحوال. لم تكن لديه فكرة عما تتكلم. كان يضع الواقي الذكري، كانا محميين، ولم يكن من حاجة للقلق. آه، قالت، ولكن في ذلك هو مخطئ تماماً. تريزا وزوجها كانا يثقان تماماً بالواقي الذكري وانظر ماذا حدث لهما. لم يكن من شيء يخيف بيلار أكثر من أن تحبل، ولن تخاطر بمصيرها بالوثوق بأحد هذه الواقيات المطاطية المشكوك فيها. تفضل أن تجزّ معصمها أو أن ترمي نفسها عن جسر بدلاً من ذلك الثقب الغريب، قالت له. شقيقتها أنجيلا أخبرتها عن الأمر، وعليه الاعتراف بأنه من وجهة نظر طبية وبيولوجية، فإنه أكثر طريقة آمنة لمنع الحمل في العالم.
منذ ستة أشهر وهو منصاع لرغبتها، حاصراً كل ولوج في ثقبها الغريب، وغير واضع شيء سوى لسانه وأصابعه في "المامي هول". هكذا هي خصوصيات علاقتهما العاطفية وانحرافاتها، التي تبقى مع ذلك حياة ثرية، شراكة إيروتيكية رائعة لا تلوح عليها أيّ علامات على انطفاء وشيك. في نهاية المطاف فإن هذا التواطؤ الجنسي هو ما ربطه بها سريعاً وأبقاه صامداً في أرض العدم التي يواجهها يومياً في أطلال البيوت الشاغرة. يفتنه جلدها. وهو أسير فمها المتّقد المفعم شباباً. يشعر بالألفة مع جسدها، وإذا وجد يوماً ما في نفسه الشجاعة لهجرها، فإنه يعلم بأنه سيندم على ذلك إلى آخر حياته.

.Femme, par Joan Miro
joan-miro-femme.jpg
  • Like
التفاعلات: 2 أشخاص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى