محمد بشكار - المُبْكي في الواقع البنْكي!

يبقى أهم شِعار ما زال يرفع ألْويته تُجّار التقنية وهم يبيعون السراب هو: التَّبْسيط عوض التعقيد والعكس صحيح، لذلك يبْتكرون كل يوم خدمات إلكترونية جديدة، مسْبوقة على سبيل الإشهار، بالغيطة والطَّبل، والحقيقة أنهم يذرون بكل هذا الضجيج الرماد في العيون، ويُدارون ما هُم مقبلون عليه من إخْلال مُجْحِف بالمسؤولية، وعربدة انتهازية بمصالح المُواطنين تصل لمهاوي الإستهتار!
افْتَحْ حساباً بنكيا بصفر درهم واحْصُلْ على بطاقةٍ إلكترونية من طراز جواز تُمكِّنك من السَّحب في كل الأبناك، بطاقةٍ تستخرج لستُ أعرف هل من الشُّباك أو الحائط خمسة آلاف درهم في اليوم، ولا أعْرف كيف يُمكن لِمن فتح حساباً بصفْر درهم أن يسْحب نصف مليون سنتيم كل أربعٍ وعشرين ساعة، ألَمْ أقُل إنهم يزفُّون العِجْل بالغيطة والطَّبل إلى أضخم مجزرة تشهدها الصفقات المشْبوهة في عصرنا، ومن يتوهَّم أنَّه سيحظى من هذه الصَّفقة بهدية يُصبح عاجلا أو آجلاً هو الهدية !
حقّاً إنَّ أفظع تُجَّار التِّقنية في زمننا الأغْبر والأخطر، ليس من يشتغلون في صناعة الهواتف والحواسيب كل شهر بموديل جديد، إنَّما من يمْتهِنون القطاع البنكي بطريقة قُطّاع الطُّرُق، ويحْتالون بكل الحيل لاستدراج السُّيولة المُتصبِّبة مع عرق وشقاء المواطنين، ولا أخوض في هذا المستنقع النَّتن بغسيل الأموال من باب تعميم تلك الرائحة، كما لا أُوعز أو أغْمز للحسابات المفتوحة بالملايير دون أنْ يُحرِّك أصحابُها درهما لمصلحة البلد، إنَّما أحْشر نفسي مع المساكين، وأعْني الحسابات الفقيرة التي لا يتجاوز عمرها القصير آخر الشهر، حساباتٌ لم تُفتَح إلا لِتَبِيض في صناديقها الدجاجة بعد وحَمٍ طويل، أو حين يبصُق ديكُ الباطرون الأجور الهزيلة للكادحين، حساباتٌ أُنْشِئت في شبابيك إلكترونية بِعلُوٍّ يُمكِّنها من الصَّبيب في جيوب صغيرة بحجم العيش الكريم، كل هذه الحِسابات المُرَقَّعة في سروال مُهْترىء على امتداد خريطة الوطن، لا يُراعي البَنْكيون الذين يتحكَّمون في مصير دراهمها المعدودة، أنَّ أبْسط خللٍ تقني قد تُحْدِثُه ذبابةٌ حين تمزِّق بعطْستها الشَّبكة العنكبوتية، قد يُوقف هذه الحسابات الصغيرة ويُجمِّد أجوراً تَعُول ملايين الأسر، ولكن للأسف هذا العطب وغيره من الأوْصاب التي تذهب الشكاوى في شأنها أدراج الرياح، مِمَّا لا يَهُم أباطرة الأبناك بعد أنْ أكسبهم الجَشعُ الرَّأسمالي طَبْعَه اللئيم !
صحيح أن الضَّربة المُوجِعة التي تأتي من حيث لا نعلم، لا تُصيب الجميع، وصحيح أيضاً أنَّ صمت الفرد دون فضْح ما يحيق به من ظُلم، سيجعله مُجرَّد رأس في القطيع، لكن ما أكثر من تلقَّوا هدية رأس السنة من الأبناك، ويا لها من ضريبة لا تُغْتفر بعد أن مَسَّتِ المواطنين في الأرزاق، ثمَّة من ابتلع الشُّباك الأوتوماتيكي أغلبَ أجره الشَّهْري، ولمْ يترك من الأرقام على الشَّاشة، إلا بقشيشاً يُصيب عظام الرُّكب بالفشل والهشاشة، تُراه يفي لأخْذ نفَسٍ قصير من الدخان وجرعة قهوة، وكل من هرع مُسْتنجداً بأقرب موظف بنكي لِيسْتفسره ما الأمر، يجده مُتقاعساً على هيئة عنكبوت مُتربِّصٍ في الزاوية، أو في أحسْن الأموال وليس الأحوال، يقول للضَّحايا وهو يغزل من الشبكة العنكبوتية خيوطا من حرير لفريسة افتراضية تلوح في الأفق: (الريزو طايح)، وليْتهُ ينتبه أن السُّكَّر هو (الطايح) في دم الكادح المسكين، أمَّا من تبخَّرت مع المياه التي في جوفه حِصةٌ كبرى من أجْرته بِقُدرة قادر، ما عليه إلا أنْ يُقْنِع مصاريف البيت أنْ تنتظر معه حتى يفُكَّ الله عقدة (البلوكاج)، وتلكَ حادثة بنكيةٌ مُميتة كما تشْفطُ الفلوس تُسبِّب العاهات للنُّفوس !
فَماذا يستطيع كادحٌ مسكين يقفُ متحسِّراً أمام رزقه المُوصد خلف الجدران، فتَح حسابا بنكياً طمعاً في القرض فإذا به يُصبح هو القرد، كانَ ضحيةَ الإغْراء الذي يتفنَّن في نصْب فِخاخه أباطرةُ الأبناك لنفْخ الرَّصيد، ماذا يستطيع هذا الكادح المسكين بعْد أن انْقلبَ عليه الشَّبَك بكثْرة الدُّيون، لا أحد يسْمع لشكواه وهو يريد أن يسْتعيد عَرَق جبينه الممزَّق، لا أحد يصْغي من أكبر إلى أصغر موظفٍ في البنك باسطٍ ذراعيه بالوصيد !

محمد بشكار
.............................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 6 يناير 2022.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى