الطاهر محفوظي - كمالية كانت قهوة أمي

حين فتحت عيني وجدتها هناك, كما ألفيت والدي, إخوتي, البقرة و الحمار, و بضع دجاجات يحرسهن رفقة الكتاكيت ديك يكسو عرفه الكبرياء, و بجانب الكوخ أجباح النحل و شجرة الكافور و الصبار … “ميلادك كان فأل خير, قالت إحدى قريباتي, وجد أبوك كيسا مرميا في حفرة بجانب الطريق فأتى به معتقدا أن به جبسا, لكن عمتك اكتشفت أنه يحتوي على دقيق ممتاز, فصنعنا منه فطائر و خبزا لذيذا”, الفيجتة و صافي “.

كانت شقيقتي امباركة الطفلة البكر في وسط ذكوري لا يحتفل بالبنات و يحفل و يسعد فقط بميلاد الذكور, عنوان الفحولة و سواعد المستقبل, و بما أن الزوجة وجدت للإنجاب و لأعمال البيت و الحقول بالبادية, فقد حملت والدتي مرات عديدة و توفي المواليد الذكور مباشرة بعد الوضع … إنها مأساة حقيقية, لا أقصد الولادات المتكررة و الحمام المرابط بالبيت بالمرصاد, و لكن غياب طفل ذكر يكون وريثا للاسم العائلي عوض إرث مادي لا أثر له حتى في الأفق البعيد.

قصدت والدتي ضريح “سيدي مسعود” دفين عبدة و هو غير سيدي مسعود أولاد حدو في ضاحية البيضاء, فلكل “مسعوده”, اشتكت له و شرحت مشكلتها بتفصيل و الولي يستمع و لا يبدي رأيا و لا يعترض, الأموات لا يتكلمون كما يظهر و لو كانوا أولياء …

و ختمت زيارتها الميمونة الطقوسية بنذر و وعد صادقين:

لو رزقت بولد ذكر حي و قابل للحياة لأتت للولي بديك, أسود ربما, أو حتى بخروف لو كانت الصائفة طيبة, تذبحه على عتبته شكرا و عرفانا, و لأطلقت اسمه على الوليد السعيد المرتقب ..

بعد أشهر لاأعلم عددها, وضعت طفلا ذكرا و حمل اسم مسعود … الولي الصالح يستجيب للدعوات و هو فعال و عملي حتى بعد مماته, يلبي الطلبات المعقولة … لا أدري هل كان اختصاصيا أيضا في الزواج

و الطلاق و الأمراض المزمنة مثل “سيدي منصور” (ليس التونسي) و دفينه المنسي … كنا نذهب إليه بقطع السكر الصغيرة كلما اشتد علينا التهاب اللوزتين, نضعها فوق قبره و نتناول مقابلها قليلا من التراب نضعه فوق عنقنا و نعود للبيت و قد شفينا في انتظار انتكاسة و أزمة جديدتين …

كانت أمي تعد لنا الطعام كباقي الأمهات و غالبا من خبز و شاي و في بعض المرات من مرق بخضر

و نادرا بلحم أو دجاج, حتى في سحور رمضان الشاي لا يغيب, هذا المشروب العجيب المسمى بالوطني … يأتي السكر من كوبا الاشتراكية و نستورد الشاي من الصين الشعبية و الهند البوذية و نحن نضيف فقط النعناع و الماء الساخن و الوطنية “اطلبوا العلم ولو في الصين” و الشاي كذلك و السلع الرخيصة … قهوة أمي كانت نادرة, تشربها في المناسبات, لم تكن في متناول يدها و ثمنها كان مرتفعا على جيب والدي الفلاح الفقير …

… كمالية كانت قهوتها …

ذات صباح ربيعي كانت تطحن البن في المهراس و أنا نائم قربها. ناداها أحد الجيران محتجا مزبدا مرعدا:

– “ابنك و أصدقاؤه أمسكوا بنعاجي و عنفوهن لدرجة أن إحداهن أجهضت … سأكون مضطرا لرفع دعوى قضائية … و …

أيقظتني “لالة” و هكذا كنا نناديها بضربات بيد المهراس الحديدية لأجيب عن اتهامات هذا الهائج, جميعا المفتري .. لم أدري ماذا قلت و أنا بين النوم و اليقظة و ضربات الحديد الغادرة و شتائم الوالدة لأدافع عن نفسي إزاء الادعاءات الخطيرة بالقتل العمد مع سبق الإصرار و العنف الممارس على النعاج و الخراف المفضي للإجهاض … كل هذه التهم “على الريق” و الحقيقة الوحيدة التي أعترف بها الآن و دون ضغط أو خوف, هي أنني رفقة أصدقائي, وفي يوم سابق, أمسكنا ببعض نعاج هذا الجار العنيف لأخذ قليل من صوفها المختلط بالبول و الأوساخ و المطر لنستخرج منه صمغا كتبنا به حروزا و أحجية و علقناها على أعناقنا طلبا للقبول و الحب من طرف الفتيات, و عوض الوله و العناق أصبحت على قطع الأعناق

لم تغير الفتيات من مواقفهن و عواطفهن رغم أننا اغتسلنا باكرا و كتبنا الحجاب بالصمغ و دم العصافير بعدما أدينا صلاة الفجر أو الصبح … لقد طبقنا حرفيا ما تفرضه الكتب الصفراء و خصوصا كتاب جلال الدين السيوطي الذي كان ذكر اسمه فقط يخلق الخوف و الرهبة و يحيل على الجن و العفاريت و الأبالسة و العياذ بالله.

استيقظ الساحر الصغير بالضربات و على نغمات الشتائم … كان عمري اثنتا عشر سنة …

في السنة التي زلزلت فيها الأرض بأكادير توفي والدي … فعملت راعيا و اشتغلت في الحقول كمياوم

و جلبت بعض الدراهم لوالدتي. لكن الوعي داهمني ذاك الصيف:

“في شهر أكتوبر المقبل سألتحق بالمدرسة”

قلت ذلك بثقة من لم يكن ينتظر جوابا

أجابت “لالة” بهدوء

“كما تشاء”

و كذلك كان, دخلت المدرسة و عمري عشر سنوات, وكانت تبعد عن كوخنا بحوالي عشرين مترا أو أقل. كان التلاميذ يتركون دراجاتهم في الحوش و نسقيهم من ماء المطفية بالمجان, و وحدي كنت آخذ المقابل, إذ كنت أسطو على إحدى الدراجات و أركبها حتى تعلمت بعد سقطات كثيرة …

كنت أذهب للمدرسة, و التي كانت لا تتوفر على سور, حافي القدمين و لم أرتدي حذاءا بلاستيكيا حتى السنة الثالثة من الطور الابتدائي حيث وفره لي شقيقي …

أخي كان مفخرة العائلة, حاز الشهادة الصغيرة (الابتدائية) ثم التحق بالإعدادية و نال شهادة “البروفيه” الشهادة الكبيرة ثم التحق بمدرسة المعلمين بإفران.

“كيقرا و يقري” تردد لالة بزهو و افتخار …

معلم أو دركي, وظيفة سامية لا يفوقها سموا و شرفا إلا منصب الحاكم الفرنسي, القائد أو وكيل الدولة في “الإقليمية”

و ما إن تخرج مسعود و تم تعيينه في منطقة كروان ضاحية مكناس, حتى اشترى لنا منزلا محترما عوض الكوخ, و ملابس و كبش العيد … كانت والدتي تشكو من التهاب الكبد الفيروسي لا أدري نوعه, و قد توفيت يوم ثاني عيد الأضحى ..

بعد ثلاثة و ثلاثين سنة سيلتحق بها مسعود ذات صباح من عيد الكبير …

أغمضت عينيها لآخر مرة في الخامس من شهر ماي, شقيقي تبعها يوم التاسع و العشرين من أبريل. مرعب هذا الموت الذي يأتي في الربيع, والدي كان قد سبقها في الثاني من شهر فبراير, لكن هل تكون المنية أقل رعبا و مأساوية لو أطلت بطلعتها البهية في الشتاء?

ربما ستكون مقبولة بعض الشئ لو أبطأت حتى خريف … العمر.

في السجن تغيب الحرية و المرأة و الأم, يبتعد البحر كثيرا و يختفي من أفقنا القمر, نفتقد الشمس

و الزهور و نحن لقهوة الأم و خبزها الحافي الدافئ الممزوج برائحة الدخان و فيض الحنان.

في يوم الزيارة تأتي الأمهات و الأخوات و لا تأتي “لالة” فقد شيعتها منذ ثلاثة عشر سنة في تلك المقبرة المنسية, و لولا زيارة شقيقي و زوجته حياة القليلة لوجودهما بعيدا عن سجن “اغبيلة” لقتلني الغم … لا … كان بين الموت و بيني الرفاق و الحلم الواسع و صلابة الإيمان.

في قيظ الصيف, في برودة الشتاء, فوق تلك الربوة تستريح … يطل الربيع فتختلط الألوان المنفلتة من الأزهار بطنين النحل و الفراشات المحتفلة المنتشية بمقدم الزائر البهيج, بانبعاث الحياة, زخم الحب العارم, يطل البدر على بيتها فيلقي بفضته النيرة على جنباته المشرعة على الرياح الجامحة و الجهات المنسية, تشرق الشمس فتبدأ بتحية مرقدها المنحوت من حجر و طين … على مقربة منها يرقد محمد رقدته الأبدية مفترشا التراب, يغطيه الكلس و أعشاب برية. و زيادة في الاحتراس و التكتم ينام بينهما حفيد مليص لفظته الحياة باكرا …

كانت قصيرة القامة, بيضاء البشرة, كستنائية الشعر … تعمل في الحقل من الخريف إلى الصيف و ما بينهما …

تهتم بالكوخ, تنزع الحشائش الضارة, تشارك في الحصاد, تجمع غمار السنابل, تدرس المحصول, تعد الشعير و الذرة لتصنع منهما خبزا شهيا مع شاي ساخن و مرق لو استطاعت له سبيلا.

تعتني بالبقرة و ذريتها لو كان هناك نسل, لا تنسى الحمار, ناقلتنا العظيمة, مفخرتنا التي تغيظ الأعداء و الجيران و تقتلهم غيرة …

تغزل الصوف, تنسج لنا الجلابيب و الأغطية, ترمم سقف القصر, كوخنا العظيم باستبدال العصف القديم بآخر من الحول الجديد … تحلب البقرة في تحد و سباق مع وليدها الجائع, تجلب الماء, تهيئ الحمام, لا تستريح إلا قليلا, في وقت فراغها, و هل كان لها وقت فارغ, كانت تقدم خدمات لنساء الأغنياء مقابل بعض العطايا …

تصلي و تصوم في حدود الواجب فقط, عكس والدي الذي كان يقوم الليل, لا يفوته الفجر و يزيد أيام الصوم حتى بعد انقضاء الأشهر الحرم … كنت أنام في حضرته على صوت الأذكار و أصحو على الصلوات و الدعاء.

فوق تلك وسط الهدوء ينامان تحت لحد غطته نباتات برية يحيط بهما الأهل في صمت, الربوة رهيب.

كان اسمك “هنية”, لكن حياتك لم تكن كذلك, شقاء في شقاء مضت. لم تزف أحدا من و حتى عرس شقيقتي امباركة صادف نفي محمد الخامس و منع الحركة الوطنية الأعراس و إقامة, أبنائها الأفراح.

بعد ثلاث سنوات على وفاة والدي, ودعت و التحقت به, أهو الوفاء?

ما ضر الزمان لو عادت مرة واحدة, لسويعات فقط, لأبوح لها بحبي, أقبل لها الجبين المكابر, أزيل عنه الغبار و العرق, أغسل التراب العالق برجليها, أحرس الحلم في عينيها كي تستريح …

فوق تلك الربوة …


الطاهر محفوظي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى