أمل الكردفاني-الرأسمالية التوتاليتارية كانتخاب طبيعي

كنت في مرحلتي الأولى باحثاً عن انتماء آيدولوجي، وأتذكر أنني قد بدأت تتبعي لليبرالية التي جذبتني إليها عبر مصطلحاتها التحررية التي تعجب الشباب. وهكذا بدأت في القراءة لليبراليين الأوائل والمعاصرين، إذ لم تتشكل الليبرالية كنظرية متكاملة حتى اليوم. وربما ذلك لأن مؤسسيها يحاولون دوما ردها إلى الطبيعة البشرية في مسلماتها الثلاث: التنافسية والفردية والحرية.
في عام ٢٠٠٥ دخلت إلى موقع الحزب الليبرالي السوداني، فوجدت أن نظامهم الأساسي في الواقع لا علاقة له بالليبرالية، بدا لي أن من كتبه لم يقرأ يوماً عن الليبرالية حرفاً. فلفظت الفكرة.
لكن من الجيد أنني ظللت حراً فكرياً حتى بلغت عصر انهيار السرديات الكبرى وأنا بكامل هدوئي. انتهى عهد الآيدولوجيات، ومفاهيم المقاومة والثورة، والتوجهات القومية، وكلاسيكيات السبعينات. واقتحمنا عصر اللا آيدولوجيا.
في الحقيقة؛ لا سبيل إلى إنكار أن الآيدولوجيا مناطحة للجبال، وأن التاريخ تكتبه القوى الرأسمالية، لأنها هي التي تحركه، ولأنها هي في آخر الأمر من تقمع أي تحركات جانبية او مقاومة لها، هذا لا شك عندي فيه. لكنني لا استطيع أن أتجاهل -في نفس الوقت- أن ما يميزنا كبشر هو تلك الطاقة التي تبعثها فينا الطوباوية والنزعة نحو العدالة، والخير بشكل عام، ومقاومة السلطة والقمع والدكتاتورية، وانتهاج النهج الثوري بعنفوان الروح الشبابية التي تنعكس على أعين الشباب بريقاً من مجد متوهم وأحلام بالقفز على الواقع عبر الخيال. هذا هو ما يميزنا كبشر، ما يجعل الثورات الشيوعية في روسيا والصين وكوبا لها طعم خاص، عبق تاريخي يعبر عن انفعال الإنسان بالوجود (بغض النظر عن الصواب والخطأ)، فبن لادن إرهابي هذه مسألة فيها اختلافات ولكن ما لا يمكن أن نختلف حوله هو أن بن لادن يعبر عن حضور إنساني في صيرورة التاريخ. إننا لن ننسى أبداً أن هناك حركات تحرر أفريقية وعربية قاومت الاستعمار، لو حاولنا تقييمها تقييماً مادياً فسنؤكد بأن أغلب الأفارقة والعرب الآن يلجأون إلى بلاد المستعمر الذي قاومه أجدادهم، ولكننا لا نقيمها هكذا بل نقيم تلك الثورات وتلك المقاومة كتعبير عن معنى إنساني، ليس الغرض منه فقط طرد المستعمر، بل الشعور بأنك جزء من هذا العالم، وكيان له اعتباره ولو في لحظة صغيرة مسروقة من الزمن. فالمسألة لا تقاس بالنتائج دائماً أي النتائج المادية، بل يجب أن نضع للجانب المعنوي الإعتبار الاول (المنمنمات الروحية). فحتى العنصرية رغم أنها تبدو مقيتة ومؤسسة على وهم الهوية، لكنها في الواقع تأكيد على معنى التفرد والشعور بالتفوق أي الحضور والتواجد والمزاحمة، وهذا ما يميزنا عن الحيوانات ذات الخط الواحد.
الرأسمالية تنزع جانب القيم إيجابية أو سلبية (العدالة الإجتماعية، الاشتراكية، التكافلية، الإجتماعية، الدفاع عن العقيدة، العنصرية، التميبز على أسس جنسية..الخ)، وتقوم بحيونتنا، أي وضعنا في إطار تصارعي مادي خطي، أو ذلك الفهم النيتشوي الحاد. بحيث يكون من المباح حرق المعاقين والمرضى الميؤوس منهم والمجانين وطرد المهاجرين غير الشرعيين..الخ حتى لا يصبحوا عالة على البشر المنتجين. هذا أشبه بالإنتخاب الطبيعي، الذي يجب أن يؤدي إلى تصفية البشر على أساس القوة التي ستبقى والعناصر الضعيفة التي يجب أن تندثر. هكذا لن نكون بشريين أبداً، لكن هذا لا يعني أن الرأسمالية خطأ، فقد انتهى عصر الثنائيات، وانتهى عصر الصواب والخطأ والحقيقة والزيف، فكل فرد يمتلك حقيقته الخاصة، وما يراه صائباً فهو صائب، والعبرة في النهاية بالقوة، فالقوة هي التي تحسم حقيقتك مقابل حقيقتي، وصوابك مقابل صوابي. القوة تنشئ الحق وتحميه. وهي أيضاً التي تصادر الحق وتنفيه عندما يتداول الله الأيام بين الناس. نعم إن كل ذلك لا فكاك من نسبيته وبالتالي يضحى الجدال فيه غير منتج، ولكننا أيضاً يجب أن نقاوم لنمتلك معنانا الخاص، لا أن نقاوم الشيوعية ولا الرأسمالية ولا التطرف، بل نقاوم الشمولية الاستبدادية، أو التوتاليتارية، هذا ما يجب أن نقاومه باستمرار، الشمولية أياً كانت مرجعيتها (وضعية أو غيبية)، رغم أننا نستطيع أن نتماهى معها لمصالحنا المادية، لكن المسألة لا تقاس على هذا النحو الأداتي، لأننا حينها ننزع جانبنا الإنساني الأكثر أهمية من مجرد الوجود المحض.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى