" لربما "
------
من بين كلماته غير المفهومة , تنحدر أحيانًا مفردات صحيحة لغويًا, بل أظن أنني سمعته من قبل يقرأ شعرًا, فإن استوقفه أحد وسأله أن يعيد ما قال, يرد بابتسامة ضئيلة تستقر عل وجهه لحظات, ثم ينطلق لعالمه الخاص.
التقيته صبيحة اليوم, اعترض طريقي بأدب, أخبرني أنه ذهب بصحبة أخيه " بالأتوبيس ", وعادا معًا آخر النهار بصحبة ملفّه الدراسي, بعربة " بيجو", على رغم أن الشك لم يتطرق لقلبي في صدق حديثه,لكنه أقسم أنه لا يقول غير الحق, أنه في ذلك اليوم البعيد, شهد رحلة قاسية على قلبه لا تزال محفورة بقاياها حتى اللحظة, ذكرى لم تفارق مخيّلته.
ثم نظر إليّ يتفحّص وجهي, يبحث عن شاردة تشي بأنني أكذّب كلامه, فلمّا لم يجد, استأنف حديثه:كان الجو وقتها شديد الحرارة, حتى أن حالنا صعُب على موظف " شئون الطلاب", بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة. فأحضر مقعدين, زجاجتي " كولا" أو " بيبسي", الصراحة لا أتذكر نوعها,إذ أن الموضوع قديم, مرّ عليه قرابة أربعين سنة أو تزيد.
أشاح بوجهه بعيدًا فترة, ثم عاد إليّ بجزعه وأكمل:طلب أخي أن أشتري حافظة ورقية من مكتبة تقع بمنطقة " بين السرايات", تقابل بوابة كلية" التجارة", لكي نضع بها أوراق دراستي بالكلية.
و قد أسرعت لهناك, علمت أن ثمنها "ريال",لمّا أعطيت للبائع " رُبع جنيه", لم يردّ الباقي بحجة أنه لم يستفتح بعد وليست معه " فكة", ثم أعطاني ظهره وانصرف لزبون آخر.
عُدت لأخي, فسألني عن الباقي, و قد سَرَدتُ على سمعه ما حصل بالضبط, فنهرني بشدة, وبّخني أمام الناس, الطلاب من حولنا ينظرون, لا زلت أذكر ملامح تلك الفتاة الرقيقة, التي امتعضت كثيرًا, ساءها موقف أخي,إصراره على إرجاع" الشلن"..
الحقيقة أنني اضطربت و وقفت قبالته حيران, لا أدري ما أفعل, استجبت لأمره, عُدت للمكتبة, فلم أجد صاحبها, فوجئت بشخص آخر, حكيت له الواقعة, فأبدى أسفه, رجاني أن أرجع باكر لربما وصمت .
و لم أفعل بالطبع,إذ عُدت مع أخي بعد ذلك, كما قلت لك...
-سألته بعد أن مَلَكَني حُب الاستطلاع : ثم ماذا يا " درش"؟!
تنهّد, جذب مقعدًا جواري وألقى بجسده النحيل عليه,وقال: " هات ليّ شاي", فأمرت له بما طلب..
سحب بضع رشفات, مط شفتيه وقال: مات أخي, بعد الحادثة بأشهر قليلة, لست أدري هل قضى نحبه كمدًا من ضياع " الخمسة قروش"؟!
مسح الشارع بعينيه , ثم عاد إلي كلامه :هل أخطأت حقًا حيت تنازلت عن " الباقي"؟ بل ..أذهبت للمكتبة أم لم أفعل؟ تنهّد " مصطفى ": من جديد, ثم مال عليّ بكتفه الأيسر وأكمل حديثه همسًا:زرت أخي مئات المرات في قبره, واظبت على ذلك يوميّ الأربعاء والجمعة من كل أسبوع,
أسررت إليه بمخاوفي وهواجسي, بل لم يأت إليّ في المنام, على رغم أنه يفعل ذلك باستمرار مع الخلق كلهم, يبدو أنه غاضب منيّ حتى الآن. ثم انحدرت دمعة على خده فمسحها بكمّه سريعًا, حينما أنهى كوب الشاي, نهض و قبيل انصرافه سألني و هو يكفكف عينيه من أثر بكاء مكتوم من سنين بعيدة: " معاك سيجارة "!
------
من بين كلماته غير المفهومة , تنحدر أحيانًا مفردات صحيحة لغويًا, بل أظن أنني سمعته من قبل يقرأ شعرًا, فإن استوقفه أحد وسأله أن يعيد ما قال, يرد بابتسامة ضئيلة تستقر عل وجهه لحظات, ثم ينطلق لعالمه الخاص.
التقيته صبيحة اليوم, اعترض طريقي بأدب, أخبرني أنه ذهب بصحبة أخيه " بالأتوبيس ", وعادا معًا آخر النهار بصحبة ملفّه الدراسي, بعربة " بيجو", على رغم أن الشك لم يتطرق لقلبي في صدق حديثه,لكنه أقسم أنه لا يقول غير الحق, أنه في ذلك اليوم البعيد, شهد رحلة قاسية على قلبه لا تزال محفورة بقاياها حتى اللحظة, ذكرى لم تفارق مخيّلته.
ثم نظر إليّ يتفحّص وجهي, يبحث عن شاردة تشي بأنني أكذّب كلامه, فلمّا لم يجد, استأنف حديثه:كان الجو وقتها شديد الحرارة, حتى أن حالنا صعُب على موظف " شئون الطلاب", بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة. فأحضر مقعدين, زجاجتي " كولا" أو " بيبسي", الصراحة لا أتذكر نوعها,إذ أن الموضوع قديم, مرّ عليه قرابة أربعين سنة أو تزيد.
أشاح بوجهه بعيدًا فترة, ثم عاد إليّ بجزعه وأكمل:طلب أخي أن أشتري حافظة ورقية من مكتبة تقع بمنطقة " بين السرايات", تقابل بوابة كلية" التجارة", لكي نضع بها أوراق دراستي بالكلية.
و قد أسرعت لهناك, علمت أن ثمنها "ريال",لمّا أعطيت للبائع " رُبع جنيه", لم يردّ الباقي بحجة أنه لم يستفتح بعد وليست معه " فكة", ثم أعطاني ظهره وانصرف لزبون آخر.
عُدت لأخي, فسألني عن الباقي, و قد سَرَدتُ على سمعه ما حصل بالضبط, فنهرني بشدة, وبّخني أمام الناس, الطلاب من حولنا ينظرون, لا زلت أذكر ملامح تلك الفتاة الرقيقة, التي امتعضت كثيرًا, ساءها موقف أخي,إصراره على إرجاع" الشلن"..
الحقيقة أنني اضطربت و وقفت قبالته حيران, لا أدري ما أفعل, استجبت لأمره, عُدت للمكتبة, فلم أجد صاحبها, فوجئت بشخص آخر, حكيت له الواقعة, فأبدى أسفه, رجاني أن أرجع باكر لربما وصمت .
و لم أفعل بالطبع,إذ عُدت مع أخي بعد ذلك, كما قلت لك...
-سألته بعد أن مَلَكَني حُب الاستطلاع : ثم ماذا يا " درش"؟!
تنهّد, جذب مقعدًا جواري وألقى بجسده النحيل عليه,وقال: " هات ليّ شاي", فأمرت له بما طلب..
سحب بضع رشفات, مط شفتيه وقال: مات أخي, بعد الحادثة بأشهر قليلة, لست أدري هل قضى نحبه كمدًا من ضياع " الخمسة قروش"؟!
مسح الشارع بعينيه , ثم عاد إلي كلامه :هل أخطأت حقًا حيت تنازلت عن " الباقي"؟ بل ..أذهبت للمكتبة أم لم أفعل؟ تنهّد " مصطفى ": من جديد, ثم مال عليّ بكتفه الأيسر وأكمل حديثه همسًا:زرت أخي مئات المرات في قبره, واظبت على ذلك يوميّ الأربعاء والجمعة من كل أسبوع,
أسررت إليه بمخاوفي وهواجسي, بل لم يأت إليّ في المنام, على رغم أنه يفعل ذلك باستمرار مع الخلق كلهم, يبدو أنه غاضب منيّ حتى الآن. ثم انحدرت دمعة على خده فمسحها بكمّه سريعًا, حينما أنهى كوب الشاي, نهض و قبيل انصرافه سألني و هو يكفكف عينيه من أثر بكاء مكتوم من سنين بعيدة: " معاك سيجارة "!