محمود حمدون

"مفيش ميت بيدفع أجرة." تلملم الشمس بقايا أشعتها الذهبية الدافئة، بدا أنها تتثاءب وترغب في الرحيل مبكرًا كعادتها في أيام الخريف. حينها كنتُ أنتظر سيارة أجرة على ناصية أحد شوارع "المهندسين"، للذهاب إلى ميدان "الجيزة"، ومنه أقفز لأقرب عربة لأعود إلى بيتي بعد عمل يوم شاق. ما أكثرها أيام الشقاء، حتى...
وبداخلها... ذنوب قديمة ملقاة بإهمال في كيس بلاستيكي أسود، ومعها مفتاح صدئ لباب لم يُفتح منذ ثلاثين عامًا تقريبًا، كذلك وشايات ونميمة لم تشارك فيها، لكن تصرّ أن تحتفظ بها حتى حين. أقلام أحمر شفاه، بعضها سليم، أخرى مستعملة حتى منتصفها أو كادت تفرغ، تتفاوت ألوانها بين الأحمر الفاقع حتى تقترب من...
"ما بيننا خصومة شريفة، عداء يقف عند حدّ، لا نتجاوزه بأي حال.. أليس كذلك؟" هكذا أخبرني "مؤمن سالم" حينما التقاني قبل مغرب أمس بقليل، وأنا في طريقي إلى مقهى «الحريف». لقد تحاشيتُ السلام عليه، تجهمتُ في وجهه، أعرف أنه يبادلني كراهيتي الصريحة له بمثلها وزيادة. قد اتفقتُ معه فيما قال، وزدتُ: أرحب...
وممّا قاله "عنترة العبسي" ولم أعقله منه حينما عُدته في أخريات أيامه — لعلمي أن الخرف يؤثِر صحبة الرجال في نهايات أعمارهم: -إن تملّكني الحنين إلى "عبلة"، أنطلق بسيارتي العتيقة إلى مغسلة على أطراف المدينة، أضع العربة بين أيدي الصبية هناك، يعملون فيها إرادتهم وصنعتهم. لكن تمنعني شيخوختي من الوقوف...
بتأففٍ وضع منديلًا ورقيًا مبلّلًا بعطرٍ أخّاذٍ على فمه وأنفه، وصاح: المتسوّلون في الخارج ينتشرون كالجراد! إنهم في كل مكان؛ يحتلّون الميادين، يحتمون بأرصفة الشوارع، يبيتون تحت الكباري، وفي مداخل العمارات الحديثة والبيوت القديمة، يفترشون الطرقات المؤدية لدور العبادة، يقتحمون حياتك، لهم جرأة عجيبة...
لم يكن سؤالًا بقدر ما كان توبيخًا مستترًا، حين سألني: هل استرحت الآن؟ وأنت تنتقل ما بين الباب والنافذة المطلّة على الشارع، تسترق السمع لأي أقدام تصعد السلم، تنظر من بين فلجات ألواح النافذة الخشبية التي نخرها السوس، ترقب القادمين من بعيد، يدقّ قلبك بشدة لأي طيف يُقبل عليك، تتراقص الخيالات...
"إخلاء سبيل" === وقف "شحاته" الحالم دومًا يخاطب قومه، بلهجة أقرب إلى تحذير ناري رغم وداعته المتأصلة، إذ أنه اليوم كان على غير عهدنا به. قال بنبرة غاضبة: لا أهتم بتقاليدكم، لا أرى ما ترون. لي دنياي، معتقدي، لكم دينكم، فخلّوا بيني وبين سبيلي. عندما رأيته بغضبته تلك، سألتُ أحدهم وكان يجاورني في...
مات "عبد القادر". خبرٌ عاجل اهتزّت له مدينتنا الصغيرة بشوارعها، أزقّتها، حواريها. بلغ الحزن بالجميع مدى لم نعرفه من قبل، فقد أغلقت المؤسسات الحكومية يوم وفاته أبوابها حدادًا على الفقيد، وغاضت بالوعات الصرف الصحي لأول مرة، كما عافت الهوام الخروج من مكامنها ليلًا. "المرحوم" نكرة، لا يعرفه السادة،...
" طريقة مغايرة" مأساة فنجان محمود حمدون ===== ليس سرًّا أن أقول أنني حلمت كثيرًا أن أتذوق مرارة البن, إذ كلما حملني الجرسون إلى زبون, وضعني أمامه, أرى تلك النظرة التي تطل من عينه, ذلك الشغف الذي يلازمني حتى ينتهي من قهوته ويرحل. تتضاعف نشوتي إن أمسكتْ بأذني امرأة, فطريقتهن في احتساء القهوة...
آمنت مساء أمس أن لا أستاذية تدوم. لذلك خلعت قفطاني, ألقيت عمامتي في الهواء, ركنت حذائي خلف الباب, ثم هرولت حافي القدمين , حاسر الرأس إلى تلميذ كنت أدرّسه حتى أسبوع مضى, اليوم تنازلت عن مقعدي, أعطيت ظهري للفراغ بعدما كان يستند بثقة إلى عمود من رخام صلب, جواره كنت أخطب في القوم, أتيه فخرًا بينهم...
" إهداء إلى أمي الحبيبة " ماتت " نجيبة", رحمها الله, رحلت عن الدنيا بعد ثمانية عقود عاشتها على الأرض, خرجت ولم تملك منها غير عقد رخيص الثمن من خرز أزرق يميل للسواد يحيط برقبتها كمشنقة انعقدت ولم تنفك حتى وفاتها, خاتم من نحاس يخنق بنصرها الأيسر منذ عقود بعيدة. كذلك وُجدت تحت وسادتها صُرّة تحوي...
عظيم الجسم, طويل, شديد بياض الوجه باحمرار, حاد الملامح , قاسي النظرة, جهير الصوت حتى أنه عندما يهمس إليك بسرِ, تجد خلق الله على مسافة غير قليلة قد سمعوا بالحكاية, فصعب أن تحدّثه في شأن خاص. على رغم هذا كان رقيق القلب, رؤوف بالقطط, لا يعرف التلوّن في الكلام, صريح في حديثه حد الوقاحة, فعفّ الناس...
" الجري في المكان", هو أشد و أقسى تدريب يمر به المجنّد عند تأديته للخدمة العسكرية, لا يكون إلّا في أرض خلاء واسعة, لا ترى فيها عوجًا, حيث لا تستظل الرؤوس إلاّ بقرص الشمس , حتى أنك تظن كل الظن أنها تداعب فروة رأسك بأشعتها الحارقة, تصبح وحدها في تلك اللحظة هي أنيسك و نديمك حتى نهاية يومك. باختصار...
العقل رداءُ إن نُزع من صاحبه, لا يهم بعد ذلك أن ينزع جميع ملابسه ويقف كيوم ولدته أمه على أقرب ناصية أو بوسط ميدان يزدحم بالخلق, الأعجب أن الجسد العاري يثير فضول الناس ومن قبلهم النساء, وجدت دهشة تستقر بأعينهم, سرعان ما تتحول لاشمئزاز ظاهري, بينما تتسلل النظرات لتنهش بقايا الجسد الملقى على...
قلت: صدري يغلي مما يعتمل بداخله, لكن أخاف أن أبوح لك بما لا يجوز, فأبدو أمامك بمظهر الساخط من حياته, المتمرّد على قدره. فأجابني بعدما جذبني برفق من يدي وأجلسني بجواره: أتعرف!, تؤرقني معضلات حياتية كثيرة, حتى أنني لا أنال قسطًا كافيًا من النوم, ساعة واحدة أو اثنتين بالكاد يوميًا. أطلق زفرة حارة...

هذا الملف

نصوص
22
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى