محمود حمدون - عزاء واجب

توجّهت إليها لتقديم واجب العزاء في والدتها.حين علمت بالنبأ,هاتفتها للاستئذان قبيل وصولي,قلت: علمت توًّا بخبر الوفاة,مثلي لا عُذر له, فرجاء تقبّلي أسفي, اسمحي أن أعزّيك بنفسي, فلم أرك منذ سنوات, لم تعد ذاكرتي تسعفني في حصرها, حتى لم أعد أتذكر لون عينيك, سوداء كشعرك الحريري الكثيف أم خضراء كقطعة من الجنة أفلتت من الفردوس و سقطت على الأرض!

فقالت:المصاب فوق طاقة الجميع,حتى أنّا فاتنا أن ننشر الخبر على التواصل الاجتماعي كما هو مُتَّبع الآن,سأنتظرك..وسنرى حقيقة ما قلتَ!

دخلت إلى غرفة مكتبها الصغيرة, الرقيقة كصاحبتها, ضيقة لمن ضاقت به الدنيا , واسعة كقلب طفل يحبو أولى خطواته على الارض .تخلو الحوائط من التابلوهات التقليدية, كما لم أجد عبارات الوعظ, تلك التي تذّكر المرء بآخرته وبضرورة فعل الخيرات, لكن ما إن يخرج للحياة ويقف على عتبتها من جديد, إلاّ وتتلقفه بقسوتها دائمًا وحنانها الشحيح أحيانًا..

لفّني هدوء ملحوظ بالمكان, كانت تقف ترتدي السواد كما تفعل النساء في مثل هذه الحوادث المؤلمة, تمد يدها البضة, فبدت أمامي لوحة سريالية, اختلط فيها بياض بشرتها الناصع بسواد بهيمي غريب.

لمست أناملها وأنا غارق في عينيها الجميلتين, أبحث عن حُزن كامن بداخلهما, بيّ طاقة كبيرة على إزالة ما استطعت منه, فمثلها بينه وبين الحزن بون شاسع ولو كان الفقيد أمها, فقلت مواسيًا:أحر التعازي,كلنا سنذهب ولكلّ ساعة ستحين في موعدها, غير أن الفقد هو مايؤلمنا,لكن للزمن قدرة على تجاوز الحزن الظاهري...

كانت تستمع إليّ وأصابع يمينها تعبث بحبّات مسبحة من الفيروز, وعلى شفتيها ابتسامة أخذت تتسع تدريجيًا, أقسم انّي رأيت الحزن يتراجع للخلف رويدًا حتى احتلت الضحكة كامل وجهها, فأمسكت يدها اليُسرى بعد أن تخلّيت عن حذري الفطري وقبّلتها ,قلت وأنا أغادرها ومؤذن من بعيد يرفع بصوته الشجّي آذان العصر: البقاء لله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى